ذكريات شاعر مناضل

الجزء الأول: مع الأيام



الفصل الأول: بدايات الوعى السياسى

الفصل الثانى: معالم على الطريق

الفصل الثالث: فى مهب الرياح
38- تاريخ المنظمات الشيوعية
39- قوانين صدقى
40- عام شديد الصعوبة
41- نكبة فلسطين
42- على البالوظة
43- حدث جميل
44- عام الحريق
45- ضاقت فلما استحكمت

الفصل الرابع: فى أتون الثورة
46- فى أتون الثورة
47- فتى الفتيان
48- الأعدام شنقاً
49- ذهب مع الريح
50- الاستعراض الثلجى العالمى
51- أيام الإصلاح فى الريف
52- أبواب النعيم
53- ثورة تتأرجح
54- طريق الآلام
55- فى بطن الحوت
56- ولكنها مازالت تدور
57- فى الوادى المقدس طوى
58- وعلى الأعراف رجال
59- وكشفنا ما به من ضر
60- قل سيروا فى الأرض

الفصل الخامس: أطراف الرماح
61- الأم الصغيرة
62- مرة أخرى فى عصف الرياح
63- اليوم خمر وغداً أمر
64- أطراف الرماح
65- الفعل ورد الفعل
66- لعنة منتصف مارس
67- ويل للمغلوب
68- ما تحت الأرض

الفصل السادس: القضية
69- القضية رقم 100 سنة 1954 أمن دولة عليا
70- فى سجن القناطر
71- أيام الدجوى
72- فى ليمان طره
73- فى واحة جناح
74- عن المكان والسكان
75- سنة حافلة
76- موسم الهجرة
77- عود على بدأ
78- مفتاح الفرج

1- مات الملك - يحيا الملك


كان يوم وفاة الملك فؤاد، هو يوم بداية وعيى بالسياسة. كان ذلك يوماً من أيام شهر إبرايل من سنة 1936 ميلادية. فى صبيحة ذلك اليوم كنت أسير على الجسر الترابى الموصل من قريتى "زاوية المصلوب" إلى بندر "الواسطى" الذى تقع به مدرستى "مدرسة الواسطى الابتدائية" وهو الطريق الذى كنت أسير به كل يوم مرتين، فى ذهابى إلى المدرسة، وفى عودتى منها.
كان الجو ربيعياً لطيفاً، وكانت النفحات الزكية تهب من الحقول الزاهرة التى تقع على جانبية وتمتد إلى مسافات بعيدة، بينما تتعالى شقشقة العاصفير وهديل اليمام من حوله مرحبة بالصباح الجميل. غير أن بعض النفحات كانت تهب على الطريق، محملة بالتراب الذى تأتى به من على الجسر الترابى الذى كنت أسير عليه.
دخلت إلى مدينة الواسطى "البندر" واخترقت شارعها الرئيسى الذى كنت معتاداً عليه، وعلى مشاهدة المألوفة، إلى أن وصلت إلى المدرسة.
ولكن باب المددرسة كان مقفلاً بجنزير حديدى، وكان العلم المصرى الأخضر ذو الهلال والنجوم الثلاثة منكساً إلى منتصف ساريته -وعلمت وقتها أن ذلك رمز للحداد العام. ومن بواب المدرسة الذى كان يقف خلف بابها الحديدى المغلق، ومن الأشخاص الذين يقفون معى فى الشارع أمام الباب، من التلاميذ أو أولياء الأمور، أن المدرسة سوف تغلق لمدة ثلاثة أيام، حداداً على وفاة الملك فؤاد. وكان لابد لى أن أقف راجعاً من حيث أتيت، إلى قريتى، وإلى منزلى.
توقفت أمام بائع للصحف كان يضع صحفه على منضدة صغيرة فى الشارع، قريباً من المدرسة، وكان والدى قد أعطانى فوق مصروفى اليومى، قرشاً آخر، لشراء جريدة الأهرام اليومية التى كان يطلب منى شرائها من حين إلى حين. اشتريت الجريدة، ونظرت إلى صفحتها الأولى، فوجدتها مقسمة إلى قسمين، تحملان صورتين كبيرتين، الأولى، فى القسم الأيمن لرجل كهل يرتدى طربوشاً، وله شارب يتجه طرفاه المفتولان إلى اعلى، وفى الجانب الأيسر صورة كبيرة أخرى لشاب وسيم حسن المنظر، يرتدى هو الىخر طربوشاً يزين جبينه الوضاح. وتحت الصورة الأولى كتابة بخط كبير تقول: الملك فؤاد الأول، ثم عبارة: مات الملك. أما تحت الصورة الأخرى، اليسرى، فقد كانت هناك عبارة مماثلة، وبالخط نفسه تقول: الملك فاروق الأول، ثم عبارة عاش الملك.
وفوق الصفحة كلها، كانت هناك عبارة كتبت بخط أسود كبير، تقول: "مات الملك، يحيا الملك".
كان هذا العنوان الكبير، وهاتان الصورتان، تمثلان حداً فاصلاً بين حقبتين هامتين، من تاريخ البلاد.
طويت الصحيفة ووضعتها داخل حقيبة كتبى، وقفلت راجعاً فى طريقى إلى قريتى.
ما أن خرجت من البندر، وأخذت طريقى على "الجسر" نحو القرية، حتى كان الجو قد أخذ يتغير كعادته فى شهر أمشير وبداية فصل الخماسين. واشتد هبوب الرياح، وتزايدت السحب، ثم مالبث رذاذ المطر أن تساقط، وأخذ يتزايد سقوطه حتى أصبح سيرى على الجسر صعباً، بعد أن تحول سطحة المترب إلى أرض موحلة. ورآنى أحد الفلاحين من قريتى، وهو عبد الفتاح بن محمد أبو سماعين، وكان يعرفنى بل ويمت إلى إسرتى بصلة قرابة بعيدة، وكان له حقل مقات قريب، يزرع به البطيخ والشمام، الذى كان فى مرحلة الإزهار وتكوين الثمار، وكان قد أقام فيه "خصاً" -أى تعريشة من البوص- للاحتماء بها من وهج الشمس أو لفح البرد والمطر، وقد دعانى إلى اللجوء إليه.
ظللت لاجئاً إلى "خص" عبد الفتاح حتى توقف المطر، ثم أخذت طريقى مرة أخرى على الجسر نحو منزلنا، وكنت كلما اقتربت من المنزل، أخذت تلفحنى أزهار البرتقال، الذى كانت أشجاره تحيط بالمنزل من كل جانب.
وحين وصلت إلى المنزل، كان والدى يجلس فى الشرفة الشرقية، وقد ارتدى جلبابة الأبيض، ووضع على كتفه عباءته الصوفية السوداء وبجواره منضدة صغيرة عليها كتاب كان يقرأ فيه. أخبرته بما حدث، وأعطيته صحيفة الأهرام التى أخرجتها من حقيبة كتبى.
نشر الصحيفة وألقى نظرة على صفحتها الأولى، وبدا لى أنه لم يفاجأ بما جاء فيها، وربما أنه كان أمراً متوقعاً، أو أن احداً قد أخبره به قبل وصولى، فاكتفى بقوله: الدوام لله.

2- الريدى مع النحاس


كانت وفاة الملك حدثاً فريداً ولا شك فى حياة الناس جميعاً، وفى حياتى أنا بصفة خاصة، إذ كانت بمثابة إلقاء حجر فى بركة ماء راكدة، لابد أنها سوف تنهى ركودها، وسوف تثير فيها تلك الحركة الدائرية المعروفة، والتى يتسع نطاقها باستمرار. وكنت فى السنة الثالثة من سنوات الدراسة الابتدائية، ولم أكمل السنة العاشرة من عمرى بعد، وكان من شأن ذلك الحدث أن يترك فى وجدانى اهتمامات وآثاراً لم أعرفها من قبل. وما هى إلا أيام حتى ظهرت وتلاحقت أمامى توابع هذا الحدث.
كانت قريتى "زاوية المصلوب" تقع جنوب مدينة الواسطى، البندر، بينما كانت مدرستى، مدرسة الواسطى الابتدائية، تقع فى أقصى الشمال من تلك المدينة، ومن ثم فقد كان على أن أقطع شارعها الرئيسى كل يوم من جنوبه إلى شماله، ومن شماله إلى جنوبة، وكانت كل مشاهده مطبوعة فى ذاكرتى لم يتغير فيها شئ منذ سنوات. ولكن تلك المشاهد قد تغيرت بعد عدة أيام من وقوع ذلك الحدث. فقد فوجئت ذات صباح بلافتات قماشية بيضاء تمتد فوق هذا الشارع، وبعرضه، معلقة بين أعمدة الإنارة المغروسة على جانبية وتمتد بامتداد الشارع، من أقصى جنوب المدينة إلى أقصى شمالها، بل وتمتد أيضاً فى بعض المواقع الهامة الأخرى منها. وكانت تلك اللافتات تحمل كتابات بالخط العريض، وبمداد أزرق غامق تدعو الناس إلى انتخاب أصحابها. وكانت عليها عدة أسماء، ولكن كان منها اسمان هما الأكثر تزدداً، يقول أحدهما:
يحيا الريدى مع النحاس.
ويقول الآخر:
انتخبوا الزعفرانى .. ابن سعد.
وعرفت حينئذ أن هذه دعاية انتخابية، وأن هناك انتخابات جديدة ستجرى عما قريب لاختيار مجلس نواب جديد، ومن ثم لتشكيل حكومة جديدة.
كل هذه الكلمات طرقت سمعى مرة واحدة، ولأول مرة، كما عرفت معناها للمرة الأولى.
وبعض هذه اللافتات كانت تحمل صوراً كبيرة ملتصقة بها، واحدة للريدى، وهو شيخ ريفى معمم بطربوش أزهرى يلتف عليه شال عمامة أبيض. أما الأخرى فكانت للزعفرانى، وهو انفدى شاب مطربش، وكانت هناك صور أخرى لأضخاص آخرين، ولكنها كانت قليلة العدد.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تعداه إلى ظواهر ومناظر أخرى.
ففى بعض تلك الأيام، شاهدت لأول مرة فى حياتى، شيئاً اسمه: مظاهرات. بضع عشرات من الناس يسيرون معاً وهو يصيحون بهتاف موحد: يحيا الريدى مع النحاس، يحيا الريدى مع النحاس.
وسرعان ما يظهر جمع آخر من أناس يصيحون: حبيبكم مين؟ الزعفرانى .. تنتخبوا مين؟ الزعفرانى..
وفى بعض الأحيان تقترب المظاهرتان المتعارضتان من بعضها البعض، فترتفع نبرة الهتافات، وتزداد حرارة الصياح، وكأنما يتبادل الفريقان إطلاق أسلحتهما كل ضد الآخر، بل وفى بعض المرات يلتحم الفريقان ويتشابكان بالأيدى، أو حتى بعصى الخيزران، أو ربما بالعصى الغليظة. ويسقط بعض الجرحى أو المصابين، وتظهر أفراد الشرطة المشاة أو من راكبى الخيول، يحملون هم أيضاً عصيا رفيعة أو غليظة، ليفضوا المظارتين، وقد يقبضون على بعض المتظاهرين. وتحضر عربة الإسعاف أحياناً، لتحمل بعض الجرحى والمصابين إلى المستشفيات.
وعرفت بعد ذلك، أن أحد المرشحين، الريدى، هو أمين الريدى، أو أمين بيه الريدى كما كان لقبه الفلاحون، وهو رجل مزارع متوسط الحال، وأزهرى سابق، وأنه كان من الثوار البارزين فى ثورة 1919، واتهم بقتل بعض الأفراد الإنجليز فى محطة الواسطى أثناء هجوم شنه الفلاحين عليها إبان الثورة، وحكم عليه بالإعدام، ولكن صدر العفو عنه بعد قيام الحكم الوطنى، برئاسة سعد زغلول باشا. وكان حزب الوفد يرشحه فى كل الانتخابات التالية لقيام الحكم الوطنى بعد سنة 1923، اعترافاً بكفاحة، واسترضاء لفلاحى دائرته.
هذا ما عرفته بعد ذلك عن الريدى، ولكننى لم أره إلا فى صورته المعلقة مع الافتات الانتخابية.
ولم آره شخضياً إلا بعد خمسة عشر عاماً من ذلك التاريخ ، وفى ظروف غريبة. فذات مرة -وفى سنة 1951 تقريباً، بينما كنت أزور ضريح السيدة زينب بالقاهرة فى مسجدها، رأيت فى ركن من أركان المسجد، بجوار الضريح، شيخاً معمماً ينام على سجاد المسجد، وذكرلى خادم المسجد، أن هذا هو أمين بيه الريدى، عضو مجلس النواب -وأنه معتاد على الحضور إلى مسجد السيدة، والنوم فيه وقت القيلولة أحياناً. وكان ذلك المشهد أثناء عضوية الريدى فى مجلس النواب، الذى أجريت انتخاباته فى عام 1950.
أما الزعفرانى. المرشح الآخر، فقد عرفت أنه كان محامياً شاباً فى مدينة الواسطى، وكان مرشحاً عن الحزب السعدى فى ذلك الوقت ولم يفز فى تلك الانتخابات، ولا فى أى انتخابات أخرى، إذ كان الفائو دائماً هو أمين بيه الريدى. وعرفت بعد ذلك، أن الزعفرانى قد اختير للعمل فى القضاء، وأضبح مستشاراً فيما بعد.
والغريب، وهو ما سمعته بعد ذلك، فى أمر الريدى والزعفران، المرشحين المتنافسين، أنهما كانا من قرية واحدة هى قرية ميدوم التابعة لمركز الواسطى، وأنه كانت بينهما صلة قرابة. ولكن القرابة، لم تمنع المنافسة والصراع بينهما فى حلبة العمل السياسة، كما أن وشائج القاربة السياسية التى كانت وثيقة بين حزب الوفد، وبين الحزب السعدى، الذى كان قسماً منشقاً من حزب الوفد، لم تمنع وقوع الصراع المرير بين الحزبين فى كل نواحى الحياة السياسية الأخرى.
ولم تسلم قريتى "زاوية المصلوب" من آثار تلك المتغيرات التى وقعت بعد وفاة الملك فى ذلك الحين. فقد فوجئت حينها بوجود بعض اللافتات فى مدخل قريتنا، وفى ساحتها الرئيسية، لافتات "الريدى" و "الزعفرانى"، وشاهدت يوماً مظاهرة داخل القرية أمام ديوان العمدة "وكان عماً لى" ينخرط فيها عدد كبير من الرجال، معظمهم من أقاربى، وكانت المظاهرة منقسمة إلى قسمين، أحدهما يهتف: يحيا الريدى مع النحاس، والآخر يهتف: تنتخبوا مين: الزعفرانى، وحبيبكم مين؟ .. الزعفرانى.
وشاهدت تشابكاً بين الفريقن وتدافعاً بينهما، وسقط فى هذا التدافع أحد أعمامى، وهو عمى عبد الحليم، من على شرفة ديوان العمدة حين ذفعه أحد أقاربى من الفريق الآخر. وقد أصيبت ركبته من جراء ذلك بكدمة شديدة، تورمت على أثرها ساقة، وحمل إلى منزله القريب. وقد رأيته بعدها راقداً على أريكة فى شرفة مسكنه، وحوله بعض الأشخاص الذين حضروا لعيادته، والاهتمام بعلاجة.