ذكريات شاعر مناضل: 7- اسلمى يا مصر

7- اسلمى يا مصر


كان شارع بولاق الجديد هو شريان الحياة بالنسبة لكل حى بولاق أبو العلا، وما يتفرع عنه أو يحيط به من المناطق، ومن الدروب والشوارع والحارات والأزقة. وكان يتحول فى الصباح، وحتى أذان العصر إلى سوق عامرة، تعج عجيجاً بالناس، المشترين والبائعين والمتفرجين، وتزخر بالسلع المتعددة والمتنوعة تنوعاً عجيباً، لا يخطر على بال.
ورغم أن الأزمة العالمية كانت قد انقشعت عن مصر، كما انقشعت عن العالم كله، إلا أن الأسعار كانت مازالت برخص التراب، كان رطل اللحم البقرى بثلاثة قروش، والضأن بأربعة، والجملى بقرشين، ولحمة الرأس بقرش واحد. وكانت الدجاجة البلدية الكبيرة (وكان كل الدجاج بلدياً) بثلاثة أو أربعة قروش، والبدارى الصغيرة بقرشين أو قرشين ونصف. وكانت أقة السمك النيلى: البلطى والقراميط بقرشين والبياض بقرشين ونصف، وأسماك البحر المالح بثلاثة قروش، وكذلك الجمبرى، أما الكابوريا فكانت بقرش واحد. وكان قرص الجبن الأبيض الدمياطى المغلف (دوبل كريم) بقرشين فقط، وكل أنواع البقالة بقرش أو بقرشين أو بالملاليم للأقة أو الرطل، أما الملابس فكان الجلباب من القماش القطنى. بعشرة قروش أو أقل، والفانلة القطنية أو الكلسون بقرشين، وكان متر القماش القطنى لا يزيد عن قرشين أو ثلاثة، والصوفى -الإنجليزى- بين عشرين أو ثلاثين قرشاً، والبدلة الصوفية الكاملة -قماش وتفصيل بجنيهين، وغالباً بالتقسيط عند الترزية. وكان ثمن خروف الضحية ما بين 80 قرشاً إلى جنية. وفى الريف كان ثمن البقرة أو الجاموسة لا يزيد على عشرة جنيهات، والجمل أو الحصان خمسة عشر جنيها، والحمار خمسة جنيهات. أما المساكن -فى المدن- فكان إيجار الشقة الكبيرة فى الأحياء البلدية -حكى بولاق فى حدود الجنيهين شهرياً، ومنها شقتنا فى المنزل رقم 86 شارع بولاق الجديد -وهو الشارع الرئيسى، والشقة المتوسطة، جنية واحد، والشقة الصغيرة 50 قرشاً، والغرفة الواحدة عشرة قروش أو أكثر قليلاً، وكان ثمن أقة الموز الجيد، قرشين، والمتوسط: قرش واحد فقط. أما البرتقال، فكان يباع بالواحدة، أبو سرة بمليم واحد، والبلدى بنصف مليم. أما الفول المدمس فكان ثمن الصحن منه يباع ما بين خمسة وعشرة مليمات، حسب ستعه، مضافاً إليه الزيت، وأحياناً شئ من الطحينة. أما الفلافل فكانت تباع بسعر الثلاثة أو الاثنين بالمليم، حسب حجمها، وفوقها حزمة من الجرجير أو الكرات، للمتيسرين، كانت زجاجة المياه الغازية -من نوع الأريستون أو الاسباتس (وهى أرقى الأنواع) فكانت تباع بقرش صاغ واح، ومعها قطعة من الثلج، أما الأنواع الأقل، فكان سعر الزجاجة -من الحجم العادى- مثل سيجانوس، نصف القرش فقط، وهناك أنواع من نوعية أو حجم أقل، فكان منها ما يباع بمليمين، وما يباع بثلاثة مليمات، وإذا أردت أن تشترى بطيخة بقرش أو قرشين، فعليك أن تحضر صبياً حمالاً لحملها لك. وكان ثمن الحذاء الكاوتش قرش واحد، أما الحذاء الجلدى فيتراوح ثمنه بين عشرة وخمشة عشر قرشاً. وكان مهر العروسة جنيهان فى البيئات الفقيرة، وعشرة فى البيئات المتوسطة، ومائة جنية عند الأغنياء وبنات الذوات، شاملة قيمة الجهاز والمصاغ بالطبع. وكان رطل الكباب والكفته الطرب، عند خميس الكبابجى -وهو أحسن كبابجى فى حى بولاق- هو سبعة قروش، ومعه رغيفان من الخبز، وصحنان من السلطة -الخضراء والطحينة. وكانت تذكرة الترام بستة مليمات، والأوتوبيس بخمسة مليمات فقط. (ملحوظة: كان الجنية مائة قرش، والقرش عشرة مليمات، وكانت هناك عملات متداولة: نصف مليم (وتسمى عشرين خردة)، وكانت كالميلم تصنع من البرونز. و "نكلة" وهى عملة معدنية قيمتها مليمان، وكانت النكلة تشترى رغيفاً من الخبز البلدى الطازج. باختصار: كانت الدنيا جميلة، والحياة سهلة رخية، من هذه الناحية على الأقل.
وهكذا كان شارع بولاق الجديد بالنهار خضماً زاخراً بالحركة والنشاط أما فى المساء، فكانت حركته تسكن، ويحل عليه هدوء غريب. ثم يبدأ الفصل الثانى من العرض على خشبة ذلك المسرح العجيب، فشيئاً فشيئاً تتهادى على أرض الشارع عربات اليد، التى يدفعها الباعة الجائلون، وقد رص كل منهم بضاعته فوقها، فى نظام وترتيب، حسب ما أوتيه من ذوق ومهارة. وكانت تلك العربات مضاءة بكلوبات ذات أضواء ساطعة. وتتتابع فى حركتها البطيئة متهادية كزوارق "الجندول" بين ضفتى الشارع، وكل من البائعين ينادى على بضاعته بنداء منغم وموقع، ومعظمهم كانت عنده حاسة فنية للغناء، والعديدون منهم كانت عندهم أصوات شجية ولديهم ذائقة موسيقية فطرية، وكان كل منهم يغنى لبطاعته، وهو يطلق عليها أسماء فنية تختلف عن أسمائها الواقعية المعروفة، فالموز يسمى "العنبر"، و الجوافة تسمى "القشطة"، والبلح الأمهات يسمى "الكهرمان". وكان يطيب لى أن أطل من بلكونة شقتنا، أو من إحدى نوافذها بالدور الثالث لأتفرج على ذلك العرض الشائق، ولأستمتع بهذه المشاهد والمرائى الفريدة من الأدب والفن الشعبى الذى اكتملت له كل عناصر الإبهار.
ولكن ذات مساء حدث شئ آخر، فبينما كنت واقفاً أشاهد تلك العروض، إذ سمعت شيئاً آخر، أصوات قرع على طبلة كبيرة، يصاحبها صوت ناى، وآخر لصوت نفخ من آلة نحاسية، وكانت أصواتاً متداخلة ومتقاربة ومتناغمة، تمضى على وقع خطوات عسكرية تدب على أسفلت الشارع. وتقدم ذلك الطابور وعربات الباعة تفسح له الطريق ليمر على أحد جانبى الشارع. ثم ظهر الطابور فإذا هو لرجال وشبان يرتدون ملابس الجوالة، وهى ملابس تشة عسكرية ذات لون أخضر ثم بدأ الطابور يغنى بنشيد حماسى، تقول كلماته:
 اسلمى يا مصر إننى الفدا
ذى يدى إن مت الدنيا يدا
أبداً لت تستكينى أبداً
إننى أرجو مع اليوم غدا
ومعى سيفى وعزمى للجهاد
ولقلبى أنت بعد الدين دين
لك يا .... مصر السلامة ..
وسلاماً يا بلادى
إن رمى الدهر سهامه ..
أتقيها بفؤادى
واسلمى فى كل حين.
إسلمى فى كل حين.
 ويستمر الطابور فى سيره بالخطوات العسكرية على صوت الطبل والناى والآلة النحاسية، وهو يتوقف عن الإنشاد فى نهاية النشيد مستمراً فى سيره، ولكنه يعود إلى الإنشاد مرة أخرى، حتى يغيب الطابور ويخفت الصوت، ثم يقفل راجعاً فى الاتجاه العكسى من الشارع وهو يؤدى نفس العرض وينشد ذات النشيد.
 ويتوقف البائعون عن المناداة على سلعهم، وتفتح كل النوافذ ويخرج فيها كل الناس، من رجال ونساء وأطفال، ليستمتعوا بهذا العرض، ومن حين لآخر تدوى الأكف بالتصفيق، وأصوات أفراد الطابور ترتفع وتنخفض فى أدائها الحماسى للنشيد مثيرة مشاعر الناس وأحاسيسهم الوطنية.
وسمعت يومها أن هذا الطابور تابع لفرق الجوالة التى أنشأتها جماعة "مصر الفتاة" التى يقودها زعيمها أحمد حسين، المحامى والصحفى الشاب، لإذكاء الروح الوطنية، وتربية الشباب تربية عسكرية وإعدادهم للمستقبل. وكانت هذه الفرقة تسمى "القمصان الخضراء" وقد أقامت لها معسكراً يتكون من عدة خيام، فى جزء من الميدان الواقع فى شارع بولاق الجديد، أمام مسجد سيدى السباعى.
وتكرر ذلك المشهد فى الأيام التالية، وإن حدث هناك اختلاف فيه. فبعد أيام قليلة، وفى نفس التوقيت من المساء. وجدنا طابوراً مماثلاً كان أفراده يرتدون زياً مماثلاً، ولكن من اللون الأزرق. وتكررت كل المشاهد المصاحبة لطابور القمصان الخضراء، الموسيقى المصاحبة والعصى الكبيرة والطريقة العسكرية فى السير، ولكن نشيد هؤلاء كان مختلفاً أيضاً، وإن كان يؤدى بنفس الطريقة ونفس الحماس. وكانت كلمات النشيد تقول:
 حماة الحمى .. يا حماة الحى ..
هلموا هلموا لمجد الزمن
لقد صرخت فى العروق الدما ..
نموت نموت ويحيا الوطن
.. إلخ ..
 وكانت مسيرة هذا الطابور، والنشيد الحماسى الذى ينشده فى سيره، تقابل من الناس بنفس الاهتمام، ونفس التصفيق، ونفس الحماس. وعرفت وقتها أن هذا الطابور، هو فصيلة من فصائل فرق الجوالة التى أنشأها حزب الوفد، لنفس الغاية والأغراض، ولمقابلة فرق القمصان الخضر، التى أنشأها أحمد حسين، وجماعة مصر الفتاة.
والغريب فى هذا الأمر، أن القمصان الزرقاء كانت قد أقامت لها معسكراً من بعض الخيام، فى نفس الموقع أمام مسجد سيدى السباعى.
ولكن يبدو أنه حدث نوع من الاتفاق بين الفريقين على توقيت مسيرة طابور كل منهما، بحيث لا يقع صدام بينهما، وكان ذلك يراعى أحياناً، ولكن ليس دائماً. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق