ذكريات شاعر مناضل: 30- يوم الطلبة العالمى

30- يوم الطلبة العالمى


فتحت لى شقيقتى الباب، وسارت خلفى إلى غرفتى ثم سألتنى عن سبب تأخيرى إلى هذا الوقت "بعد المغرب" فاعتذرت لها بأى عذر، ولكنها، وقد أضاءت نور الحجرة نظرت إلى وجهى وقالت:
-وشك وارم - ليه؟
فأجبتها:
-لا مفيش حاجة، دى كانت خناقة صغيرة فى الشارع، وخلصت على خير. وبدا عليها عدم الاقتناع. ولكنها لم تعقب. وسألتنى:
-أحضرلك أكل؟
فأجبتها معتذراً. ثم خرجت ومكثت هنيهة ثم عادت وفى يدها كوب من عصير البرتقال، تناولته منها وشربته، ثم استأذنتها بالذهاب إلى الحمام.
أخذت دشاً من الماء البارد، وغيرت ملابسى، ثم عدت إلى الغرفة، فاستلقيت على سريرى، فأطفأت النور، وخرجت وهى تقفل باب الحجرة.
نمت إلى الصباح، ونهضت من سريرى، ونظرت إلى وجهى فى مرآة الدولاب، فوجدت آثار أصابع تبدو عليه من أثر الصفعات، ولكن الورم كان قد زال أو كاد.
جلست إلى مكتبى وأخذت أكتب القصيدة التى كانت مازالت حاضرة فى ذاكرتى. ثم نسخت منها نسخة أخرى بخط واضح وعلى ورق جيد. وكانت القصيدة بعنوان "غداً.."، وكانت كلآتى:

نضَحَ الجُرحُ ... وعافَ العبد سوطَ السيِّدِ ..
فى غَدٍ نحيا .. فياشوقى إلى ذاك الغَدِ
***
فى غَدٍ تحيا ملايينٌ من الناس جياعْ ..
كُتلٌ فى ظلمة الآلام تُشرى وتباع
***
فى غَدٍ تحيا الملايين .. وتندَكُّ القلاع ..
فانتبه يا أيها الشعب .. غداً يومُ الصراع
***
هذه الأدمُعُ طوفانٌ .. ولكن فى سكونْ
وغداً تدوى به الأرض .. وتندكُّ الحصون
***
أيها الشعب تنبه للذئاب العاويه
صنعوا القانون صنعاً .. بالأكُفِّ الداميه
ومضوا بالشعب فى الظلمة نحو الهاويه
فانتفض ياشعب فالآفاق أضحت داويه
***
انتفض كالليثِ .. واهبط كالعُقابِ الكاسرِ
نافذاً من بين أطباق الضباب الغامر
أيها المظلوم ... والآلامُ بَحرٌ زاخرُ ..
وشقاء الشعب أنواءٌ وموجٌ هادر ..
فى غَدٍ يبدو على الأفق شعاعٌ غامر
ويَدُكُّ السِجنَ والسجَّانَ شعبٌ ظافر

ووقعت على القصيدة، وأضفت إلى الاسم: كلية الحقوق -جامعة القاهرة. وكانت هذه هى عادة الذين يبعثون إلى الحف بشئ من إنتاجهم، شعراً أو نثراً، حتى لا تتحمل الجريدة أى تبعات عن النشر.
ثم تناولت جريدة "الوفد المصرى" التى كنت أواظب على قراءتها، وكان يرأس تحريرها الدكتور محمد مندور، الكاتب الصحفى، والقانونى المعروف، والذى كان محبوباً من الطلبة، وكان وفدياً ومحسوباً على اليسار فى نفس الوقت.
عرفت من الجريدة ما حدث للإضراب العام، الذى كنت قد حرمت من المشاركة الفعالة فى أحداثه، والذى كنت خلال وقوعها ملقى بى فى زنزانة الحجز بقسم بولاق.
 عرفت أن الإضراب قد نجح نجاحاً باهراً، فقد شاركت فيه كل الفئات الاجتماعية، من الطلاب والعمال، كما شاركت فيه فئات أخرى من التجار والموظفين وغيرهم، بغلق المحلات التجارية والمنشآت الخدمية وغيرها، وكانت اللجنة الوطنية للعمال والطلبة هى التى تقود العمل الميدانى معلنه عن ميلاد جيل جديد، يعبر عن تيار سياسى واجتماعى وفكرى جديد، ويقتحم الساحة بالقوة ليعلن عن حضوره. وتوجهت معظم المظاهرات الطلابية والعمالية، إلى ميدان الإسماعيلية (ميدان التحرير حالياً) وما لبث أن تصادمت مع قوات الشرطة من ناحية، وقوات الاحتلال البريطانى التى كانت قابعة بثكناتها فى قر النيل. والتى خرجت من تلك الثكنات، بقضها وقضيضها، لتواجه المتظاهرين العزل، الذين كانوا يهتفون بسقوط الاستعمار الغاشم. وأطلق الجنود البريطانيون وابل نيرانهم على المتظاهرين العزل، وكان الضرب متعمداً "فى المليان"، حتى سقط من الشهداء 28 شهيداً، كما سقط أكثر من 3000 جريحاً، بينما كانت قوات الشرطة التابعة لنظام الملك، وحكومة صدقى باشا، تحاصر المتظاهرين من الخلف، وتضربهم بالهراوات الثقيلة، وتقطع عليهم سبيل التراجع والاحتماء من النيران البريطانية.
 وكان صدقى قد بدأ اتصالاته للتفاوض مع بريطانيا حول القضية الوطنية، فى أجواء توحى برغبته فى توجيه تلك المفاوضات بعيداً عن الأمانى المصرية، لتصب فى خانه المشروعات البريطانية، وخاصة مشروع الدفاع المشترك الذى يكرس التبعية المصرية لبريطانيا وحلفائها. وبدأ صدقى مسيرته نحو أهدافه هذه، بتشكيل هيئة للمفاوضات، من أحزاب الأقلية، ومن أنصار سياسة التهاون مع الاستعمار، وكان منهم: النقراشى، ومكرم عبيد، وشريف صبرى (خال الملك فاروق)، وحسين هيكل، وعلى الشمسى، وحافظ عفيفى، وإبراهيم عبد الهادى، ولطفى السيد، وعلى ماهر. وبدأ صدقى يمهد لمفاوضاته بإشهار العصا الغليظة فى وجه معارضية، وأصدر فى 2 إبريل 46 بياناً هدد فيه باستعمال "أقصى درجات الشدة والعنف، ضد معارضية"، لأنهم يحرضون الطلبة والعمال على الإضراب، ويقفون حجر عثرة فى طريق المفاوضات". كما أخذ فى مصادرة صحف المعارضة، من وفدية ويسارية، وفى التنكيل بخصومة ومحاربتهم فى أرزاقهم، ووضع الحراسة المشددة على دور الصحف، وكبار معارضية، وخاصة على النحاس باشا.
وهكذا عاد صدقى إلى طبيعته الدكتاتورية المعروفة، ولحس "صادق الوعد" كل وعوده بالتوبة، والتبرأ من ماضيه الدكتاتورى الأسود.
ذهبت إلى دار مجلة "الفجر الجديد" ذات يوم من الأيام التالية وقابلت رئيس تحريرها السيد "أحمد رشدى صالح" وسلمته نسخة القصيدة التى كنت قد أعددتها، فأطلع عليها، وقال لى بأنها سوف تنشر فى أول عدد يصدر من المجلة بعد أيام.
وكانت تلك المجلة قد أثارت الاهتمام والإعجاب فى كل الأوساط اليسارية والديموقراطية منذ صدورها منذ شهور قليلة، وفى يوم صدورها، اشتريت العدد، فوجدت القصيدة منشورة فى موضع بارز، وبحروف وإخراج ملائمين.
 وتوجهت إلى الكلية، وذهبت إلى البوفية حيث وجدت معظم أفراد المجموعة التى أصبحت صحبتى، جالسين، ومع بعضهم نسخ المجلة، وعلمت أنهم كانوا قد قرأوا القصيدة، وأنها قد أعجبتهم. وبعد هنية حضر أحد الزملاء وقال لى: إن اسمى منشور فى لوحة الإعلانات فى مدخل الكلية، وأننى مطلوب الذهاب لمقابلة عميد الكلية فوراً. ولم يفطن أحد من هؤلاء الزملاء إلى الربط ما بين نشر القصيدة، وبين الاستدعاء لمقابلة العميد. وقال لى كمال عبد الحليم مشاكساً:
-يخرب بيتك، انت عملت إيه؟
...
 توجهت إلى مكتب العميد بالدور العلوى من مبنى الكلية، فى مواجهة السلم، وأخبرت فراش المكتب بأمرى، فدخل إلى المكتب، ثم عاد ففتح لى الباب، وسمح لى بالدخول.
دخلت إلى مكتب العميد لأول مرة، ولم أكن قد رأيت العميد نفسه من قبل، إلا مرات معدودة، من بعيد لبعيد.
 وجدته جالساً إلى مكتبه، ووجدت عدد "الفجر الجديد" أمامه على المكتب. وأدركت الموقف على الفور، ورنت فى سمعى كلمات كمال عبد الحليم: يخرب بيتك، انت عملت إيه؟
كان الدكتور محمد مصطفى القللى، رجلاً فى حوالى الستين من العمر، وقوراً أنيق الملبس، ربعه الجسم، ذا شارب مربع صغير، وكان شعر رأسه وحاجبية قد وخطه الشيب. وكان فقيهاً معروفاً فى قانون الإجراءات الجنائية.
نظر إلى الدكتور القللى برهة ثم قال:
-انت محمود توفيق؟ وقلت له:
-نعم، تحت أمرك.
فأمسك بمجلة الفجر الجديد، وسألنى:
-انت شاعر، فقلت له:
-نعم.
 فقال لى وهو يفتح المجلة على القصيدة:
-هل هذه القصيدة لك؟ فأجبته:
-نعم.
فبدأ يقرأها بصوت واضح قراءة من يتذوق الشعر ويفهمة، إلى أن انتهى، ثم وضع المجلة أمامه على المكتب، وقال لى:
-قصيدة جميلة، وأنا معجب بها. ولكن يا محمود، وزارة الداخلية غير معجبة بها. وقد اتصل بى رئيس البوليس السياسى صباح اليوم، من بدرى، وأخبرنى بأمر هذه القصيدة، وطلب منى أن أقوم بالتحقيق معك فيها، وأنت تعرف أن الأمر خطير، وقد تكون له عواقب وخيمة. ولذلك، وحرصاً على مستقبلك، فأنا سوف أحقق معك فيها بنفسى، بدلاً من أن أكلف بهذا أحداً آخر، بشرط أن تقبل ذلك، وأن أكون أنا الذى سأسأل، وأن أكون أنا الذى سيجيب. فما رأيك، هل تقبل؟
قلت له دون تردد:
-نعم، بكل سرور.
 واستدعى العميد أحد الموظفين لتحرير محضر التحقيق، فحضر ومعه قلمه، ومجموعة أوراق مطبوع عليها اسم الكلية. وجلس الرجل، وبدأ العميد فى إملائه ديباجة المحضر، إلى أن قال له، اكتب:

س: هل أنت محمود توفيق، الطالب بالكلية؟
ثم قال له أكتب:
جـ: نعم.
س: هل أنت كاتب هذه القصيدة المنشورة اليوم بعنوان "غداً" فى مجلة الفجر الجديد؟
جـ: نعم.
س: ومن الذى تقصد بقولك فيها، " ويَدُكُّ السِجنَ والسجَّانَ شعبٌ ظافر"؟
جـ: أقصد المحتل لأرض الوطن.
س: هل لديك أقوال أخرى؟
جـ: لا.
تكت أقواله ووقع عليها،
ثم طلب منى التوقيع، فوقعت على المحضر.

فنهض من مكانه، وصافحنى قائلاً:
-مع السلامة. شعرك جميل، ولكن خد بالك من نفسك -وأنصرفت وقد امتلأت نفسى حباً وإعجاباً بالرجل، وعلمت بعد ذلك، أنه هو نفسه شاعر، ولكنه لا يعلن عن نفسه كشاعر. مكتفياً بشهرته كرجل قانون. وشعرت بأننى قد أخذت حقى وزيادة. وخرجت من هذه التجربة بدرسين:
الأول: من الناحية الفنية: أن الصدق فى العمل الفنى، والصلة الوثيقة بين هذا العمل وبين التجربة الحقيقية للفنان، وللشاعر، هو السبب الأول فى قوة هذا العمل وفى مصداقيته وقدرته على التأثير، وذلك على خلاف ما ذهب إليه بعض النقاد القدماء، من أن "أعذب الشعر أكذبه"، والصحيح هو أن "أعذب الشعر أصدقه".
والثانى: من الناحية السياسية، هو أن الالتزام بالموقف الوطنى، هو أول عوامل القوة والأمن فى العمل السياسى، وهو أعظم درع لحماية القائمين به من كيد أعدائهم. وخاصة إذا كان ذلك يحدث فى بلد مثل مصر، التى يقوم فيها -رغم الظواهر الأخرى الخادعة، رصيد هائل من المشاعر والتراث الوطنى.  ولعل هذا ما استند إليه الدكتور القللى -فى اختيار خط الدفاع عنى، وربما ما أراد أن يلفت نظرى إليه.
وأخيرا، فقد سرنى أن أرى هذه القصيدة قد ذاعت وقوبلت بقبول حسن من معظم من قرأها من الزملاء والأصدقاء، لدرجة أن بعضهم قد حفظها، وظل يحفظها على مدى سنوات طويلة. وأذكر من هؤلاء، زميلى الأستاذ شوقى الخطيب المحامى الشهير الذى ظل يحفظها إلى ما قبل وفاته مؤخراً بقليل، وكان كلما التقينا، ولو عرضاً فى إحدى المحاكم، يبادرنى، حتى قبل أن نتصافح بترديد مطلع القصيدة، نضح الجرح وعاف العبد سوط السيد.. فى غد نحيا فيا شوقى إلى ذاك الغد.
فأقول له ممازحاً: يا أخى إن ما أعجبك فى هذه القصيدة هو : يا شوقى. فيضحك. رحمة الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق