ذكريات شاعر مناضل: 52- أبواب النعيم

52- أبواب النعيم

كانت أعمال الترميم والبلاط والنقاشة بالمنزل "السراية" قد انتهت على نحو جيد، وأصبح المنزل جاهزاً لاستقبال العروس وجهازها. وكان أحمد عبد الرحيم جاهزاً هو الآخر للرحيل بعد أن استئأذننى فى ذلك بعد أن صعبت عليه الإقامة بعيداً عن موطنه فى روض الفرج، حيث أهله ومعارفه، وحيث القهوة التى ألف الجلوس عليها فى وقت فراغه. ولم أمانع فى ذلك بل إننى رحبت بينى وبين نفسى بعد أن كنت قد اكتشفت أنه لا يعرف شيئاً عن الطهى، أكثر من سلق البيض أو قلية، وعمل الشاى والقهوة، وهى أعمال لم تكن تحتاج إلى طاه قادم من العاصمة. فشكرته على ما قدمه لى من خدمات، ثم أجزلت له فى المكافأة، فعاد إلى القاهرة راضياً شاكراً.
وفى موعدى المألوف، يوم الأربعاء ذهبت إلى القاهرة، وتوجهت إلى منزل يوسف وشقيقتى عليه، فى الفيلا التى انتقلا إليها حديثاً فى قشلاق العباسية، وكانت فيللا حقيقية وليست ملعب كرة كالتى عاشا فيها من قبل هناك منذ أربعة سنوات تقريباً. وهناك وجدت سهير التى سرت برؤيتى، وسألتنى باهتمام عما إذا كان المنزل -فى الزاوية- قد أصبح جاهزاً أم لا. فعلمت أنها تتعجل الذهاب معى إلى هناك. وأخبرتها أنه أصبح جاهزاً لقدومها تماماً، فبدت عليها أمارات الارتياح. وكان يوسف قد اشترى غرفة نوم جيدة، وغرفة صالون، بمعرفة قريبنا الحاج على على الأزهرى، الذى كان يملك ورشة للنجارة والتنجيد بحى عابدين، وأحضرهما إلى إحدى الغرف الخالية بالفيللا.
وفى اليوم التالى ذهبت إلى حى بولاق أبو العلا، فاشتريت من الحاج أحمد البيبانى، وهو صاحب محل كبير للموبيليا بحى الواجهة فى بولاق، حجرة سفرة لا بأس بها، مكونة من مائدة سفرة، وثمانية كراسى سفرة، وبوفية، وكان أكثر ما سرنى فيها هو كراسى السفرة المكسوة بجلد أحمر يسر الناظرين، وخاصة من أهل الريف، واشتريت غطاء للمائدة من المشمع سماوى اللون، مزركشاً بورود وزهور ذات ألوان زاهية. كما انتهزت الفرصة فاشتريت من نفس المحل بعض القطع الأخرى من الأثاث لاستكمال فرش المكتب بالواسطى. وأعطيت صاحب المحل مبلغاً كنت قد دبرته، على أن أوافيه بالباقى على دفعات قريبة. وكانت شقيقتى عليه، قد أعدت لى بعض اللوازم الأخرى للمطبخ والحمام، هدية منها لى وللعروس. واتفقنا -أنا ويوسف- على أن يتولى الحاج على على الأزهرى، نقل هذه الأشياء. والأشياء الأخرى التى عند البيبانى فى بولاق، بسيارة نقل، ويحضر بنفسه لتركيب المفروشات فى موعد قريب، اتفقنا عليه، على أن أحضر أنا بعدها بيوم أو يومين لاصطحاب العروس إلى مقرها الجديد. ثم عدت إلى الزاوية وانتظرت قدوم الحاج على الأزهرى فى موعده -بعد يومين.
وفعلاً حضر الرجل ومعه مساعد له، فأنزلا المفروشات فى السراية، وقاما بتركيب الدوالب، ونب السرير، ووضع باقى الأشياء فى أماكنها، ثم عادا إلى الواسطى، فأنزلا الأشياء الخاصة بالمكتب هناك، ثم عادا مع سائق اللورى إلى القاهرة.
بعد يومين، توجهت إلى القاهرة، ووجدت سهير جاهزة ومستعدة للسفر معى، وقد أعدت حقائبها، واستعدت هى للرحيل. كما وجدت أن سهير لم تشأ أن تحضر بمفردها، فأحضرت من عند والدتها طاهياً، هو عبده الصعيدى، ليصحبنا إلى السراية، ليتولى أمر الطهى وإعداد الطعام.
سافرنا -أنا وسهير وعبده الصعيدى، بالقطار، ونزلنا بمحطة الواسطى بعد المغرب، وأخذنا سيارة أجرة حملتنا إلى الزاوية، وإلى السراية، بعد المغرب، وبدأ حلول الظلام. وهناك نزلنا، وحمل عبده حقائب سهير، ودخلنا، أنا -والعروس- إلى منزل الزوجية، ووراءنا عبد الصعيدى. وبينما نحن منشغلان بإدخال الحقائب، وإضاءة الكلوب، إذ دخلت الست عزيزة -أم رمزى- وهى ابنه عمى وابنه خالتى وهى تسكن فى اقرب مكان من البلدة إلى السراية. فسلمت على العروس وقبلتها، وهنأتنا بالقران الميمون، ثم فوجئت بها تخرج إلى الشرفة، فتطلق ثلاث زغرودات مجلجلة، اعتبرتها تحية للعروس وللزواج السعيد، ولهذا البيت الذى لم يعرف الفرحة منذ زمن طويل. وشعرت بمتنان عميق وتأثر بالغ للست عزيزة أم رمزى، وظللت أحمل لها هذا الجميل، لسنوات طويلة فيما بعد، وقد عزمت على رد هذا الجميل لها ما استطعت، وأحمد الله أن أعاننى على رده ثلاث مرات فيما بعد، الأولى والثانية بعد خمس سنوات، حين توليت الدفاع عن ابنها -عطية- فى قضيتى قتل للثأر، كان متهما فيهما -وهو أمر عادى فى الصعيد، ووفقنى الله إلى الحصول له على حكمين بالبراءة، وإنقاذه من حبل المشنقة مرتين. والمرة الثالثة، كانت بعد وفة الست عزيزة بعشر سنوات، حين توليت الدفاع عن حفيدها -حسن رمزى- فى قضية للثأر، وأعاننى الله فحصلت له على حكم بالبراءة، وبالتالى إنقاذه وهو الآخر من حبل المشنقة. واعتبرت أحكام البراءة الثلاثة، لابن عزيزة وحفيدها، هى ردى على الزغرودات الثلاثة التى أطلقتها احتفالاً بزواجى.
فى الصباح الباكر، حضرت الست عزيزة أم رمزى، ومعها خادمتها تحمل صينية عليها: إفطار العرسان، فطير مشلتت، وقشطة فلاحى، وجبن قديم، وعسل نحل، وبيض مسلوق. وسلمت الصينية وما عليها إلى عبده الصعيدى، الذى كان قد نهض للقائها، وطلبت منه أن يبلغنا بأنها سوف ترسل غداء العروس قبل العصر، وقد كان، فقبل أذان العصر، حضرت الست عزيزة مرة أخرى ومعها خادمتها، ومعها صينية العشاء، وعليها ما لذ وطاب، أوزة محمرة، وبرام أرز معمر، وصينية بطاطس بالفرن، وزيتونا أخضر مخللاً، وسبتاً صغيراً به أرغفة من الخبز الأبيض الطازج.
أمضيت ذلك اليوم بالمنزل، ولم أخرج إلى المكتب بالواسطى، وحضرت شقيقتى هدى وزوجها أحمد عبد الحليم للتهئنة، كما حضر شقيقى محمد وزوجته آمال، وعمتنا منيرة، وعدد من الأقارب والقريبات. وقدمت سهير للمهنئن علبة من الشيكولاته -الماكينتوش- كانت قد أحضرتها معها من القاهرة، فأكلوا منها ما شاءوا.
وفى الصباح التالى، ركبت فرسى، وسار معى السايس الصغير -زراع- متوجها إلى مكتبى بالواسطى، وهنأنى العاملون معى به -راغب أفندى -وسيدهم أفندى، وعبده الفراش. كما حضر المحامون: الأستاذ حنين غالى، وظريف تادرس، وكمال سيد أحمد، مهنئين، لتناول زجاجات الكوكاكولا -بدلا من الشربات. ثم فوجئت بعد قليل، بوكيل النيابة -الزميل والصديق القديم، محمد بكر شافع، الذى حضر للتهنئة من خارج باب المكتب، معتذراً عن الدخول إليه -للضرورة طبعاً.
بعد ذلك بأسبوع -اقترح على شقيقى محمد- أن أقيم وليمة بالسراية. بمناسبة زواجى، وأن أدعو إليها رجال المركز من المحامين والنيابة والشرطة، فوجدته اقتراحاً وجيهاً. ودعوت وكيل النيابة، ومأمور المركز وعدد من ضباطه، والمحامين: حنين غالى، وظريف تادرس، وكمال سيد أحمد وحتى الأستاذ أنيس ميخائيل، فقد قابلته وهو محاط بربائته من الفلاحين أمام باب مكتبه، فوجهت له الدعوة بإلحاح، ولكنه اعتذر قائلاً إنه سيكون فى هذا اليوم بالقاهرة، ثم أبدى أسفه، وهنأنى بالزواج الميمون.
وعلم الحاج عبد المنعم عبد الوهاب -عمدة الزاوية- وابن عمى. بأمر الوليمة، فأرسل لى خروفاً عديلاً هدية منه، وأصر عليها.
وقد تم الإعداد للوليمة، بالاستعانة بطباخ من الواسطى متخصص فى الأفراح والولائم، وبمعونة عبده الصعيدى، وبمساعدة عدد من القريبات المشهود لهن بالبراعة فى الطهى.
وتمت الوليمة فى موعدها، حيث حضر الضيوف من الواسطى فى سيارات الشرطة أو سيارات الأجرة. وحضر العندة ومعه عد من وجهاء العائلة. وتطوع أحدهم فأحضر صندوقاً من البيرة، أقبل عليه المدعوون بسرور -لاسيما ضابط الشرطة، وتطوع المأمور، فأخرج مسدسة الميرى، وأطلق عدداً من الطلقات فى الهواء، ابتهاجاً بالزواج، على عادة أهل الريف.
وانفضت الوليمة على أحسن ما يكون، وعاد المدعون إلى حيث جاءوا، وبقيت أنا والعروس، نلتقط أنفاسنا، ونرنو إلى مستقبل حياتنا، بأمل وسعادة.
وفى اليوم التالى دعوت العاملين بمكتبى -راغب أفندى، وسيدهم أفندى وعبده الفراش، لتناول الغداء معى، كامتداد لوليمة الأمس، فحضروا مسرورين، وتناولوا الغداء معى هنيئاً مريئاً، ثم انصرفوا شاكرين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق