ذكريات شاعر مناضل: 42- على البالوظة

42- على البالوظة


تزايدت عمليات القبض والاعتقال على أعضاء التنظيم -وعلى غيرهم من الشيوعيين من المنظمات الأخرى، وتفككت أواصر التنظيم إلى حد كبير، وانقطع اتصالى به. وكان اتصالى يتم عن طريق الزميل "سعد المهدى" مسئول قسم بولاق أبو العلا الذى كنت مازلت عضواً به، وكان بيننا نظام للاتصال يعتمد على موعد دورى للقاء كل أسبوع، بحيث إذا تخلف أحدنا عن الحضور فى الموعد الأسبوعى، يتكرر الموعد فى ذات المكان والتوقيت فى الأسبوع التالى، كما كان سعد المهدى يعرف مكان عملى وسبق أن حضر لمقابلتى فيه أكثر من مرة لظروف طارئة قبل ذلك. ومع ذلك فقد انقطع سعد عن الاتصال بى، فأدركت أنه لابد قد قبض عليه. وأن اتصالى بالتنظيم انقطع لوقت ما، ولحين أن يتم الاتصال من جديد.
وكانت إقامتى بثكنات العباسية مع شقيقتى عليه، وابنها حسين، قد بدأت تطيب لى. فالمنزل واسع ومريح، رغم قلة إمكانياته، ووجود حديقة تحيط به -رغم أنها مهملة- جعلنى أكثر ارتياحاً، فأنا أحب الحدائق المهلمة أكثر من الحدائق المعتنى بها، لأن الأولى تثير خيالى بدرجة أكبر، وتثير فى مشاعر وأحاسيس دفينة لا أستطيع أن أحددها بشكل دقيق. وكان ملعب الكرة الفسيح، الواقع أمام المنزل، والذى يستعمل ساحة لتدريب الجنود كل صباح تقريباً، يحمل لنا -أنا وشقيقتى- بعض التسلية التى تدفع عنا الشعور بوحشة المكان.
وكنت أخرج من هذا المسكن فى الصباح الباكر، وأتوجه سيراً على الأقدام فى شوارع المعسكر المرصوفة، والتى تحف بها أشجار الكافور العتيقة، التى خلفها الجيش الإنجليزى عند جلائه عن المعسكر منذ أقل من عامين، كما كانت بعض المناطق على جانبى الطرق، مزروعة ببعض الزهور أو نباتات الزينة. لوقوعها أمام بعض المكاتب أو الإدارات العسكرية. ومن هذا الطريق، أخرج إلى ميدان العباسية، ومنه إلى شارع ريدان بالعباسية الشرقية، حيث يقع عملى بمبنى منطقة القاهرة التعليمية الشمالية. كان الطريق يستغرق نصف ساعة ذهاباً، ومثلها إياباً، فى نزهة ورياضة مريحة للجسم وللنفس فى وقت واحد، كما أنها تعطى للذهن فرصة للتفكير والتأمل.
كما طاب لى العمل فى قسم التعيينات بإدارة المستخدمين، ولم يكن بالقسم إلا أنا، وزميلى أحمد فؤاد فارس، ورئيسنا الأستاذ حسن صبرى. وطابت لى عشرة الزميل والرئيس، فقد كانا لطيفى المعشر، ودودين ومجاملين. تفاهمنا -ثلاثتنا- ونشأت بيننا علاقة أقرب إلى الصداقة منها إلى مجرد الزمالة.
ومع هذه الظروف الجديدة فى العمل، نسيت -أو كدت أنسى- سخافة العمل فى الأرشيف، وملله. وكان فارس طالباً هو الآخر، ولكن فى المعهد العالى للخدمة الاجتماعية، وكان -بموافقة الأستاذ حسن صبرى- يستأذن مرة أو مرتين فى الأسبوع، ليذهب إلى المعهد، لحضور بعض المحاضرات الهامة والعودة إلى المكتب لإنجاز ما تراكم لديه من العمل، وللتوقيع على كشوف الإنصراف فى نهاية وقت العمل. واستطعت -بسهولة- أن أحصل على موافقة الأستاذ حسن صبرى -على أن أحصل على نفس الفرصة، على أن يتم التنسيق بيننا بقدر المستطاع. وبهذا استطعت أن أولى الدراسة بعض الوقت، وبعض الاهتمام.
وفى أوائل العهد بحرب فلسطين كنا نسمع أو نقرأ عن بعض الحوادث، لاعتداءات يقوم بها بعض الدهماء، لتخريب بعض المحلات المملوكة لليهود أو نهبها، أو للاعتداء على بعض الأشخاص من اليهود، وذلك تحت تأثير الإغراء أو الشحن الذى يتعرضون له من جانب بعض الإخوان المسلمين أو غيرهم من المتطرفين. وكان زميلى فارس أبيض اللون أشقر الشعر، ذا سحنة أجنبية، وكان يسكن مع أسرته فى شارع بين الجناين -بالعباسية، وهو حى شعبى. وذات يوم حضر إلى مقر العمل صباحاً وهو مصاب فى وجهه بإصابات وكدمات عديدة، وملابسه ممزقة، وعلمنا منه أن بعض الغوغاء قد طاردوه فى الشارع واعتدوا عليه، ظناً منهم أنه يهودى، ولم ينقذه من بين أيديهم إلا بعض جيرانه الذين أكدوا للمهاجمين أنه مسلم موحد بالله. وقد تكرر الحادث بع ذلك لزميلنا، ولبعض إخوته الذين كانوا يشبهونه فى الملامح، ومنهم شقيقة: إسلام فارس، الذى كان طالباً فى المعهد العالى للفنون المسرحية، والذى غدا بعد ذلك ممثلاً معروفاً. وعندما دخل البث التليفزيونى إلى مصر فى الستينات، كان إسلام فارس يظهر كثيراً فى المسلسلات التليفزيونية، التاريخية والإسلامية، وكان دائماً يؤدى دور شخص يهودى، وقد برع فى أداء تلك الأدوار، بسبب شكله وتقاطيعه، وبسبب اعتياده على التعامل معه كيهودى فى أيام حرب فلسطين.
كانت شقيقتى "عليه" قد وضعت طفلتها "نعمت" فى أوائل فبراير سنة 1949، فى غياب يوسف الذى كان منهمكاً فى أداء واجباته القتالية، فى منطقة "أسدود" الواقعة على بعد كيلو مترات قليلة من تل أبيب، وهو الموقع الذى كان يوسف قد احتله منذ أوائل أيام الحرب، وكان هذا الموقع هو أقصى موقع وصلت إليه القوات المصرية فى الحرب، وكان واقعاً فى وسط عدد من المستعمرات والمواقع اليهودية، وقد أبدى يوسف ورجاله بسالة نادرة فى احتلال هذا الموقع، وفى المحافظة عليه والدفاع عنه، طيلة شهور الحرب، رغم أنه كان يعتبر شوكة فى حلق القوات الصهيونية.
وفى 24 فبراير أعلن وقف القتال، وأعلنت الهدنة بين الجيش المصرى والقوات الصهيونية، وبعدها بأيام، عاد يوسف فى أجازة إلى مصر.
استقبلناه، بالفرح لعودته بالسلامة، ولكنه كان حزيناً ومحبطاً بسبب ما تعرض له الجيش المصرى من إخفاق ومهانه، لم يكن يستحقها، ولكن قيادته السياسية والعسكرية قد جرتها عليه بسبب سوء إدارتها وبسبب استهتارها وانعدام كفاءتها. وكان غاضباً لأن إدارة الجيش، قد أصدرت قراراً بترقية الضباط المشاركين فى الحرب، ولكنها تخطته هو فى الترقية، رغم أنه سبق له تلقى عدة خطابات منها تتضمن الشكر على أدائه وبسالته فى الحرب، وهو ما يكشف عن سفالة القيادات المسئولة فى الجيش وكان قد تقدم بعدة تظلمات من هذا القرار، ولكن دون جدوى مما أصابة بالمرارة، وباعتلال فى صحته.
بعد عودة يوسف بالاجازة، فوجئت ذات يوم، وأنا فى مكتبى بالمنطقة التعليمية، يزيارة مفاجئة من الزميل كمال عبد الحليم، الذى كنت أعرف أنه قبض عليه فى الإسكندرية منذ بدء الحرب، متهماً فى قضية شيوعية. وعلمت منه أنه قد أفرج عنه بقرار من النيابة، وأنه حضر إلى القاهرة، ولكنه يتوقع اعتقاله فى أى وقت وفقاً لقانون الطوارئ. وطلب منى أن أدبر له مكاناً للإقامة نظراً لأنه لا يستطيع التوجه إلى منزله. أخبرت كمال بأننى تركت مسكنى، وأخبرته أننى أقيم الآن ضيفاً عن شقيقتى وزوجها فى مسكنهما داخل قشلاقات الجيش، ولكنى أعتقد أنهما لن يمانعا إذا جاء للإقامة معى هناك، حتى نستطيع أن ندبر حلاً آخر.
رحب كمال بهذا الحل المؤقت، ورأى أن إقامته فى ثكنات الجيش توفر له أفضل حماية فى هذه الظروف، ولكنه أبدى تشككه فى أن يوافق يوسف على هذا الوضع، لما يمثله من خطورة شديدة على سلامته، وعلى وضعه كضابط فى الجيش، ولكنى أجبته، بأنه لا يعرف يوسف، ولا يعرف مدى شجاعته وشهامته، بل ومدى تعاطفه مع القضية. وقد كان. فما أن اصطحبت كمال معى عند عودتى إلى المنزل بالشقلاق، وما أن عرف يوسف وشقيقتى بحقيقة أمره، حتى قابلاه بالترحاب والتقدير، وأبديا كامل الاستعداد لاستضافته لأى مدة يشاء.
وطاب لكمال المقام هناك، وكنت أنا أخرج إلى عملى فى الصباح وأعود منه عصراً، وأترك كمال فى رعايتهما مطمئناً عليه.
وأمكننى، بمساعدة كمال، أن أعيد الأتصال بالمنظمة، وبدأت أنا وهو نعاود نشاطنا التنظيمى فى الظروف الحالكة السواد التى كانت البلاد تمر بها. وحدثت فى هذا الشأن بعض التطورات الهامة:
فأولاً: قام كمال بكتابة تقرير سياسى هام عن قضية الوحدة بين التنظيمات الشيوعية التى كانت قائمة (ولو بصورة مهلهلة) فى ذلك الوقت، وبدأنا نسعى إلى نسخة وتوزيعه. فى البداية حاولت أنا أن انسخة على جهاز الرونيو الموجود بقسم السكرتارية بالمنطقة التعليمية، وذلك عن طريق الفراش المختص بالعمل على الرونيو، لولا أن هذا الفراش، وكان أمياً، ذهب وأبلغ الأستاذ حافظ، رئيس السكرتارية بالأمر، ورغم أننى كنت قد أبلغت الفراش بأن هذه الأوراق عبارة عن محاضرات قانونية استعرتها من أحد الطلبة المنتظمين، وأريد نسخ عدة نسخ منها لتوزيعها على زملائى الطلبة بالكلية، وقد أكدت ذلك للأستاذ حافظ، إلا أنه يبدو شك فى الأمر، وأن لم يصل به الشك إلى تصور أن هذه الأوراق هى نشرات شيوعية، ورغم ذلك فقد هاج وماج لمجرد أننى حاولت طبع تلك الأوراق من وراء ظهره ودون علمه، وهددنى وتوعدنى إذا عدت لمثل هذه المحاولة مرة أخرى، فحمدت الله على أن الأمر قد انتهى عند هذا الحد. ولكن هذه العقبة لم تثننا عن هدفنا، وكان علينا أن نبحث عن وسيلة أخرى، طبقاً لقاعدة: على الكادر أن يتصرف. قررت أنا وكمال أن نلجأ فى نسخ ذلك التقرير إلى طريقة البلوظة. وذهبت أنا إلى إحدى المكتبات بشارع محمد على، فاشتريت منها علبة بالوظة، وقمت بتصنيع كادر البالوظة لدى أحد النجارين بالمناصرة، وأحضرت له الشاشة الحريرية فقام بتركيبها على الكادر، ثم اشتريت زجاجة من الحبر الزفر اللازم للطباعة على البالوظة. وقمت بصناعة حوض من الزنك لدى سمكرى بمساحة فولسكاب، وكذلك قمت بشراء رولو مطاطى، وعدت فى المساء إلى المنزل بالقشلاقات ومعى هذه الأشياء. وبدأنا العمل، ولم تكن لأى منا خبرة سابقة به. كان الأمر يقتضى أولاً نسخ التقرير على فروخ ورق فولسكاب بالحبر الزفر، ولما كان خط كمال معروفاً للبوليس فقط تطوع يوسف صديق لهذه المهمة، خاصة وأن خطة جميل وواضح، وبالفعل فقد انهى هذه الكتابة على خير وجه. وبدأنا عملية إعداد جهاز البالوظة، وتسييح مادتها على بخار الماء، وصبها فى حوض الزنك، وتسويتها بالرولو، ثم بدأنا نحاول الطباعة. ولكننا اكتشفنا ان البالوظة المصبوبة فى الحوض تحتاج إلى تبريد شديد حتى يمكن استعمالها فى طبع الأصل بالحبر الزفر، ثم نقلة بعد ذلك على أفرخ الفولسكاب للحصول على النسخ المطلوبة. وأرسلنا  "خميس"، عسكرى المراسلة، فاشترى لنا بلاطة ثلج من العباسية فاستعملناها، وبدأنا العمل.
اشتركنا جميعاً فى العمل بأيدينا، يوسف صديق، وعليه، وكمال، وأنا، خميس المراسبة (وكان أمياً ولم يعرف ماذا نفعل بالضبط).
وأخيراً، وبعد جهد جهيد أصبحت لدينا عشون نسخة من التقرير، صالحة للقراءة، بخلاف نسخ عديدة أخرى، لا تصلح، قمنا بحرقها. وفى الصباح أخذت النسخ السليمة معى وأنا ذاهب إلى العمل، ثم قمت بتوصيلها بعد ذلك إلى مندوب جهاز الاتصال بالمنظمة، وعلمت فيما بعد، أنالتقرير قد تم توزيعه داخل التنظيم، وعلى بعض المنظمات الأخرى التى كانت مشتركة معنا فى لجنة للوحدة، وأن التقرير قد قوبل باهتمام بالغ، بما يبرر الجهود التى بذلت فيه.
ثانياً: أمكننا أنا وكمال، لملمة بقايا النشاط، وتشكيل لجنة قيادية تضم: كمال عبد الحليم وأنا وإبراهيم عبد الحليم، وأحمد حمروش، وزميل آخر لا أذكره الآن ولكنى أذكر أنه كان يعمل قومسيونجى، وتحت هذا الستار، كان محترفاً ثورياً. وقد بدأت هذه القيادة الرباعية تلتقى فى اجتماعات أسبوعية، بمنزل الصاغ أحمد حمروش بالعباسية، وتتولى المسئولية عن النشاط بأكملة.
ثالثاً: كلفت أنا بحضور لجنة الوحدة، نائباً عن حدتو، وتم اتصالى بأعضاء تلك اللجنة التى كانت مكونة منى (عن حدتو)، ومن: محمد عباس فهمى (عن م.ش.م)، ومن عبد الحميد السحرتى (عن نحش). وكانت تلك الاجتماعات فى غاية الإجهاد والسخافة، إذ كانت قاصرة على تلقى الاتهامات بالانتهازية والخيانة الموجهة لحدتو، من الزميلين الآخرين، ومحاولاتى للرد عليها، دون جدوى. وانقطعت تلك الاجتماعات بعد فترة وجيزة، لعدم جدواها، ولتزايد المخاطر الأمنية فيها.
لم يستمر وجود كمال معنا فى الثكنات طويلاً، إذ بعد شهر تقريباً، خرج لمقابلة زميل من حدتو (من العمال)، لا أعرف اسمه، وكان قد تلقى موعداً للقائه فى مقهى بناحية القلعة، فما أن دخل إلى المقهى حتى وجد البوليس فى انتظاره، وحاول الجرى فى الشارع، ورجال البوليس يجرون خلفه صائحين: حرامى، أما هو فكان يصيح محاولاً إثارة تعاطف المارة معه: سياسى، شيوعى. وفى النهاية وقع فى قبضة رجال البوليس، وسيق إلى السجن، حيث لم أره بعدها إلا بعد أكثر من عام. 
بعد القبض على كمال، نقل حمروش للعمل بالإسكندرية، واختفى زميلنا الآخر (القومسيونجى) غالباً بسبب القبض عليه، وأصبحنا -أنا وإبراهيم عبد الحليم فى عزلة تامة، حتى تغيرت الظروف بعد وقت ليس بقصير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق