ذكريات شاعر مناضل: 62- مرة أخرى عصف الرياح

62- مرة أخرى عصف الرياح

كان عبد العزيز -أو عبده الصعيدى، شبه طباخ، بمعنى أنه لم يكن طباخاً بمعنى الكلمة، وإنما كان سفرجى أصلاً ولكن عنده فكرة عن الطهى. وكان عمله كطاهى نص نص، فمرة يصنع طعاماً مقبولاً، ومرة يصنعة غير مقبول، أنت وبختك. ومع ذلك، فوجئنا -أنا وسهير- به ذات يوم يحضر إلينا وبيده سبت فيه كل ملابسه، وأخبرنا أنه ماشى. وسألناه: ماشى على فين؟ فأجاب: هاروح على مصر. وسألناه: ليه؟ فأجاب: البلد دى مافيهاش سينما، بلد فقر: -أدركنا أنه لا فائدة من استمرار الكلام معه، وأن مخه الصعيدى قد ركب، فتمنينا له السعادة فى مصر، والهناء بالسينما، وأعطيناه مستحقاته، وفوقها أجرة السفر، ومنحة جيدة. وسافر. وقررنا الاكتفاء بأم صابر، الشغالة الريفية، التى كانت أفضل منه فى الواقع، كما كان طبخها الفلاحى، أفضل من طبخة. ثم أحضر لنا بعض أاربنا ولداً اسمه صلاح، من قرية مجاورة، يريد أن يشتغل عندنا، كان ولداً ذكياً وخفيف الدم وفى الثانية عشرة من عمره، ورأينا أنا وسهير. أن نجربه فى رعاية ليلى، وحملها، واللعب معها، طبعاً تحت إشراف سهير الدقيق. وقامت سهير بالإشراف على نظافته، وعلى كسوته، وبدأ يتسلم مهام عمله الجديد.
وكانت ليلى قد أكملت شهرها الخامس، وبدأت تتعلم الجلوس والحبو، كما بدأت تنطق بعض الكلمات، مثل: بابا.. ماما.. آتى (القطة).. امبو..إلخ. وكانت سهير تحملها على ذراعها وتقف على الشرفة فى انتظار عودتى من المكتب. ولاحظت سهير أن ليلى بدأت تتعرف على وصولى وترانى عندما اقترب من المنزل راكباً فرسى، وكانت تقول بصوت مرتفع: بابا.. بابا.. وكان ذلك مبعث سرورنا. وبدأ صلاح يحملها فى موعد وصولى، لترانى، وتصيح لرؤيتى.
فى يوم ما، فى أوائل شهر أكتوبر، لدى دخولى إلى مكتبى أخبرنى سيدهم أفندى، أن هناك أستاذ من مصر، ينتظرنى فى غرفة مكتبى، وسألته عن شخصه. فقال إنه يقول إنه صاحبك. فدخلت الغرفة، فوجدت أفندياً شاباً لا أعرفة، ولم يسبق لى أن رأيته من قبل، فتقدمت للسلام عليه، فبادرنى بصوت خفيض: أنا محمد عبد الجابر خلاف، المحامى، وزميلك من حدتو. وكنت قد سمعت اسمه عرضاً فى مناسبة لا أذكرها، فرحبت به، وأنا أحاول تذكر تلك المناسبة. وطلبت له القهوة، ولكنه قال إنه يفضل الشاى. فأمرت له به.
كانت الجلسة قصيرة، أبلغنى فيها خلاف، بأنه حاضر لمقابلتى، بناء على طلب زميلنا كمال عبدالحليم، الذى أفرج عنه مؤخراً من السجن الحربى، فى قضية كان محبوساً من أجلها، وأن كمال هو الذى ذكر له كيفية مقابلتى.
وعلمت من خلاف، أن ظروف العمل فى المنظمة أصبحت صعبة للغاية، لسببين: الأول: ضربة بوليسية كبيرة حدثت مؤخراً، وألقى فيها القبض على عدد كبير من الشيوعيين، يبلغ عددهم 128 شخصاً، معظمهم من حدتو، هذا عدا من سبق القبض عليهم منذ الثورة وحتى الآن، والثانى: هو حدوث انقسام خطير فى حدتو، خرج بسببه سته أعضاء فى القيادة المركزية، ومنهم الرفيق "بدر" -سيد سليمان رفاعى، الذى كان هو السكرتير العام للمنظمة والمسئول السياسى لها، ومعهم عدد آخر من الأعضاء من مختلف المناطق فى التنظيم. وأن خطورة هذا الانقسام جاءت من كون الرفيق "بدر" هو الذى تزعمه، مما يجعل أثره الأدبى والمعنوى على التنظيم أثراً بالغاً، وأخبرنى خلاف، أن كمال قد اقترح على الرفاق الذين تولوا المسئولية بعد الضربة البوليسية، وبعد لانقسام، الاتصالى بى، والاستعانه بى، رغم علمهم بصعوبة وضعى، من عملى وإقامتى فى الريف، ومن سابقة اعتقالى والإفراج عنى منذ بضعو شهور فقط. مما يجعل وضعى الأمنى شديد الحساسية. لذلك فقد قرروا أن يضعوا الأمر بين يدى، وأن يتركوا لى حرية اتخاذ القرار.
وجدت نفسى فى اختبار صعب، هل اعتذر عن قبول هذه الدعوة فى المشاركة فى عملية إنقاذ منظمتى من الانهيار، فى وقت الشدة، متذرعاً بهذ المبررات التى ذكرها الرفاق مقدماً لتسهيل الأمر على، أم أتقدم لحمل نصيبى من العبء الثقيل الذى يفرضه على الولاء للمبدأ وللقضية التى أومن بها.
وجدتنى أقول لخلاف: سؤالك لى عن موقفى فى هذه الحالة، فيه إهانة لى، وليست هذه أول مرة أتقدم فيها لحمل العبء فى وقت الشدة، ويعرف كمال هذا، فقد تقدمت فى سنة 1948 لحمل الراية فى ظروف حالكة السواد مهذه الظروف، ولعل هذا هو ما حفز كمال على أن يتذكرنى فى الوضع الحالى. يا رفيق خلاف، الأمر لا يحتاج إلى سؤال، وأنا تحت تصرفكم من هذه اللحظة.
قال خلاف: بارك الله فيك، وهذا ما كنا ننتظره منك. سأنقل هذا الموقف إلى الرفاق، وإلى كمال. ونترك التفاصيل إلى المستقبل القريب.
أخرجت محفظة نقودى، وأخرجت كل ما فيها، وقدمته إلى الرفيق خلاف، فأخذ جزءاً منه وترك لى الباقى. ثم اتفقنا على نظام الاتصال فيما بيننا فى المستقبل القريب. وخرج خلاف عائداً من حيث أتى إلى القاهرة.
كنت أريد أن أعود إلى القاهرة لعدة أسباب، أولها لزيارة يوسف صديق وأسرته، والاطمئنان على أخباره وأحواله، والثانى: الاتصال بخلاف، وترتيب الأمور معه للعمل المشترك فى التنظيم، والثالث: للاتصال بزملائنا الجدد فى اللجنة التحضيرية للجبهة الوطنية، وموالاة الأمور معهم.
فى يوم الأربعاء، التالى، بعد أن أنتهيت من عملى فى المكتب. وكانت سهير قد حضرت فى سيارة الأجرة التى أرسلتها لها، ومعها صلاح وهو يحمل ليلى، وحقيبة ملابسنا، وتوجهنا إلى المحطة، وأخذنا قطار الديزل إلى القاهرة، ومن باب الحديد أخذنا سيارة تاكسى إلى حلمية الزيتون وكنت مهتماً وأنا فى سيارة التاكسى، بمراقبة منظر صلاح وهو يرى شوارع القاهرة مبانيها لأول مرة فى حياته، ويصيح فى دهشة طول الوقت: يا بوى.. كل دى بيوت، من بحرى بيوت، ومن قبلى بيوت، ومن شرقى بيوت، ومن غربى بيوت.. يا بوى، يا بوى.
وصلنا إلى منزل يوسف صديق، ووجدناه فى حاله طيبة، ولكننا وجدنا على الباب، بعض الجنود من البوليس الحربى، ووجدنا فى قطعة أرض خالية أمام الفيللا التى تقيم فيها الأسرة، خيمة عسكرية يقيم فيها جنود الحراسة الذين يحاصرون الفيللا، واقتضى دخولنا أن يقوم جندى من أفراد الحراسة بمراجعة أحد الضباط بالخيمة، وعندما عرف من نحن، وافق على دخولنا، فدخلنا. سعد يوسف، وحرمه "توحيده هانم" وأولادهما: محمد، ومحمود، وأحمد، وداده فاطمة، بنا، وخاصة بليلى، التى انشغلوا بها عن كل شخص آخر، حتى سهير، وأنا. ولم بكف الضحك والصياح لفترة طويلة منذ وصولنا. كما أعجبتهم شخصية صلاح، وتعليقاته وردودة على أسئلتهم المرحه.
مكثنا فى تلك الزيارة ثلاثة أيام. سعدت سهير فيها بعائلتها، وسعدت العائله بها. أما أنا فقد اكتفيت بالقدر الضرورى من الوقت لقضائه معهم، أما باقى الوقت، فقد كنت أخرج فيه لقضاء العديد من الشئون التى جئت لها.
قمت أولاً، بزيارة شقيقتى علية، وولديها، حسين ونعمت، فى منزلها بثكثات العباسية، واطمأننت عليهم وعلى أحوالهم.
وقمت ثانياً، بمقابلة زميلى: خلاف، وعقدت معه ومع الزميل صلاح حافظ اجتماعاً بمسكن الأخير بشارع سليمان جوهر بالدقى، حيث قمنا باستعراض الوضع التنظيمى، كما أجرينا مناقشة للوضع السياسى فى البلاد. واتفقنا على الخطوط العامة لعملنا فى المستقبل.
وقمت ثالثاً: بالاتصال بزملاء "اللجنة التحضيرية للجبهة الوطنية، الديموقراطية" الذين التقيت بهم فى الزاوية، فى حضور يوسف صديق، واتفقت معهم على إنشاء هذه اللجنة. وسرنى ما سمعته منهم عن الاستجابة الطيبة التى قوبلت بها فكرة الجبهة من العديد من الأشخاص والعناصر، الذين اتصلوا بهم أو تحدثوا معهم. واتفقنا على إعطاء هذا العمل قدراً كبيراً من الجهد والاهتمام. كنت راضياً عن حصيلة اتصالاتى ومقابلاتى فى هذه الزيارة، ولكنى شعرت بأن هذه الأنشطة سوف لا يتسنى لى الاستمرار فيها إلا إذا قمت بإدخال تعديل على وضعى المعيشى والعملى، وبدأت أفكر فى أن يكون لى موطئ قدم جديد فى القاهرة، وأن يكون ذلك فى صورة مكتب آخر للمحاماة.
وبدأت الفكرة تختمر فى ذهنى، خاصة وأنه كان من المألوف فى تلك الفترة، أن يكون لكثير من المحامين مكتبان أو أكثر، أحدها بالقاهرة، والآخر فى مسقط رأسهم بالريف. وكان ذلك الحل يبدو لى ضرورياً، لتسهيل نشاطى فى القاهرة، ولإضفاء مظلة من الأمان على هذا النشاط.
وفى سبيل محاولة الاقتراب من تلك الفكرة، قابلت ابن خالتى، بهجت عثمان، الموظف فى وزارة المعارف، والذى كان عاطفاً شيوعياً، وعرضت عليه الفكرة، فأيدها، وأخبرنى بأنه قد يستطيع مساعدتى فى إيجاد حل عملى لها. ثم صحبنى إلى مكتب أحد المحاسبين فى شارع الساحة، واسمة يوسف عبد العزيز، أمام مبنى محكمة عابدين، ووجدنا أن هذا المحاسب يشغل شقة كبيرة لا يحتاج إليها كلها، وأنه على استعداد لإعطائى إحدى الغرف بها. لاتخاذها مكتباً لى، وخاصة أننى لا أحتاج فى ظروفى الراهنة، إلى أكثر من غرفة واحدة. واتفقنا على ذلك ، وبدأت العمل على تجهيز الغرفة كغرفة مكتب لى.
وعدنا -أنا وسهير وليلى، وصلاح، مرة أخرى إلى مقرنا بالواسطى، وبزاوية المصلوب، وإلى السراية، وأنا راض وقرير العين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق