ذكريات شاعر مناضل: 34- عام كمال عبد الحليم

34- عام كمال عبد الحليم


كان عام 1946 عاماً. عظيم الأهمية فى تاريخ مصر الحديث. يمكن أن نسميه عام المد الثورى، أو عام اللجنة الوطنية للعمال والطلبة، ويمكن أن نسميه عام الشهداء -فى كوبرى عباس وغيره.
يمكن أن نسميه بأى اسم من هذه الأسماء أو غيرها. ولكننى أحب أيضاً أن أسميه بعام "كمال عبد الحليم". ذلك أن هذا العام هو الذى شهد سطوع نجمة، كشاعر، وكمناضل.
وكنت أعرف كمال عبد الحليم قبل ذلك العام بسنوات عديدة، وقد جمعت بينى وبينه أواصر الزمالة والصداقة منذ كنا تلميذين صغيرين فى القسم الداخلى لمدرسة حلوان الثانوية، ثم بعد ذلك فى الدارسة الجامعة، وما بعدها، وقد أشرت إلى ذلك فى العديد من المواقف التى ذكرتها فيما تقدم من هذا الكتاب.
ومنذ أن كنا فى حلوان الثانوية. عرفت أنه قد بدأ فى كتابة الشعر، وكانت له محاولات مبكرة فى هذا المضمار. ولكنها لم تتعد محاولات شاب مبتدئ لا تلفت النظر.
ولكن حدث فى صيف سنة 1934، أثناء وجودى "بالزاوية"، خلالالعطلة الصيفية أن تلقيت خطاباً من كمال، يطلب منى أن أصغى إلى الإذاعة المصرية يوم كذا .. الساعة كذا مساء.
وذهبت إلى أحد المقاهى فى بندر الواسطى. كان به جهاز راديو واستعمت. وإذا بالمذيع يقدم لأغنية عاطفية، من الشاعر "كمال عبد الحليم". وتلحين الملحن "فلان" وغناء المطربة الموهوبة، "فلانة" واستمعت إلى الأغنية، وكانت كلماتها كالآتى:
فى عالم الحب مضى العمر حيرانا
تدنيه آنا وتأسو جرحه أنا
واليوم يشكو صدوداً منك ناء به
كفاك تيهأ. كفاك اليوم هجرانا
انظر إليه ففى عينيه قصته
وقد تقص دموع العين أحياناً
...إلخ...
... كانت الكلمات جميلة، متدفقة بالمشاعر الجياشة الصادقة، وكان اللحن طيعاً معبراً، وكان الغناء جميلاً عذباً معبراً عن شعور فياض.
ثم مرت أسابيع أخرى، وتقليت خطاباً آخر من كمال. وذهبت إلى المقهى فى الموعد الذى حدده فى خطابه، وسمعت أغنية أخرى، من نفس الشاعر، ونفس الملحن، ونفس المغنية "الموهوبة"، كانت كلماتها كالآتى:
ذلك اليوم هل ترى تذكرينه..
أم ترى غيب الزمان لحونه
أم ترى راح فى سبات عميق
إن يكن مات فاسمعى تأبينه
...
خفقة القلب قد تجيب سؤالاً
هل أنا لحنك الذى تعزفينه؟
هل أنا العاشق الذى تؤثرينه..
أم أنا الواهم الذى تخدعينه؟
...
أتغنين -أم تبثين قلباً
مفعماً بالشقاء ما تزفرينه؟
آهة بعد آهة بعد آخرى
فاحبسى آهة فقد تهلكينه
...
وكانت الأغنية قمة فى الروعة. بكلماتها التى تبلغ حد الكمال، ولحنها السهل المتدفق، وبعذوبة الغناء وحرارته.
وشعرت أن كمال قد تغير، وأنه أصبح شخصاً آخر.
وحين عدت إلى القاهرة التقيت به، فأسمعنى قصيدة أخرى، جاء فيها:
جمعتنا قداسة الفن لكن
فرقتنا طبيعة الإنسان
أنت فنانة، فكيف ترائين
وتغضين عن هوى فنان
إنما الفن فورة وانطلاق
وخروج من عالم الكتمان
فى أغانيك ما يجيش بشعرى
ويثير الحياة فى وجدانى
مثل هذا الغناء لم يسمع الكون
ولم تنفرج به شفتان
حين أصغى إليك أصغى لصوت
من كيانى -يهزنى من كيانى
حين أصغى إليك يهتف قلبى
وهو نشوان.. هذه ألحانى.
...إلخ...
 كنت أصغى إلى كمال وأنظر إليه وهو يتلو على قصيدته. فأحس بأننى أمام شخص لم أعرفه من قبل، شخص ذاهل معذب ممرور، لا يصدق ما يحدث له أو يجرى أمام ناظريه. وعلى مدى الشهور التالية، سمعت منه عدداً من القصائد العاطفية الأخرى، كانت تفيض من نفس المنبع.
وأخيراً، فتح لى كمال قلبه، وعرفت منه قصته.
كان فى أول العطلة الصيفية الفائته حين تعرف بالمطربة الشابة، فقد ذهب إلى منزلها بصحبة شخص قد تعرف إليه مؤخراً هو الدكتور "ش" وكان المنزل فى حى القلعة، وكانت فوق سطحه حديقة يجلس فيها أصحاب المنزل وضيوفهم، وكانت المطربة الشابة تجلس هى وبعض الأشخاص، أخواها، الملحن وشقيق آخرس الموسيقى أيضاً، وعدد قليل من الضيوف. وقدمه الدكتور "ش" إلى الحاضرين، بأنه الأستاذ كمال، الشاعر. ونظرت المطربة إلى الشاعر، وقد بدا عليها الاهتمام به. وكان إلى جوارها عود يخص شقيقها الملحن، وبعد قليل من السمر، طلب الدكتور "ش" من المطربة أن تسمعنا شيئاً من غنائها. ولم تتمنع كما يفعل معظم المطربين. فأبدت موافقة، وأشارت إلى شقيقها الملحن، فأمسك بالعود، وابتدأ فى ضبط أوتاره، ثم أخذ يوقع لحن أغنية قديمة من أغانى أم كلثوم هى أغنية: ياللى ودادى صفالك. وكان صوتها قريباً جداً من صوت أم كلثوم فى العهد الذى قدمت فيه تلك الأغنية، إلى درجة أن السامع كان يخيل إليه أنه يسمع لأم كلثوم نفسها، وحين بلغت مقطع الأغنية الذى يقول:
وإن كان نسيم الليل سارى
عاطر بانفاس الياسمين
يفضل يداعب أفكارى
وألقى هواك أشواق وحنين
وكان هناك نسيم يمر، وكان هناك ياسمين فى تلك الحديقة، جعل الطرب يأخذ بنفس كمال كل مأخذ، ونبع فى وجدانه البيت الذى جاء فى قصيدته التى كتبها بعد ذلك، وهو:
مثل هذا الغناء لم يسمع الكون
ولم تنفرج به شفتان..
وانصرف كمال من منزل الفنانة فى ذلك اليوم، وهو شخص آخر. عرف الحب الطريق إلى قلبه، وأصابته سهامه فى مقتل، وكتب لها قيدته: فى عالم الحب. ولحنها شقيقها الملحن، وقدماها إلى الإذاعة، فقبلت، وسجلت، وأذيعت، ولاقت استحساناً من المختصين فى الإذاعة، ومن كل من سمعها.
وتوالت الأيام، وكتب لها كمال الاغنية التالية، وهى قصيدة:
ذلك اليوم هل ترى تذكرينه..
ولحنها الشقيق، وقبلتها الإذاعة، وغنتها المطربة، فلقيت نجاحاً أعظم. وشعر كمال أن المطربة كانت كأنما تغنى له وحده، وأن قصة الشاعر أحمد رامى، مع المطربة أم كلثوم تتكرر، بل إنها تكررت فعلاً. ولم يكن لديه أدنى شك فى أن سهام الحب التى أصابته. قد أصابتها هى الأخرى. وتوالت قصائده وكأنها تنبع من ينبوع فياض داخل قلبه، إلى أن جاءته الصحوة.
نما إليه من الدكتور "ش" ذات يوم، أن المطربة قد تمت خطوبتها إلى شاب آخر. كان يتردد هو الآخر على حديقة السطح، ولم يكن يخطر على بال كمال أن المطربة سوف تؤثره عليه. وهكذا فقد أعطت المطربة "الموهوبه" ظهرها للشاعر "الموهوب"، وأثرت عليه شخصاً آخر، كان ضابط شرطة شاب من مارفها، وكان هو أيضاً "موهوباً"إذ أنه أصبح بعد ذلك بوقت طويل، وزيراً للداخلية، بل من أهم وزراء الداخلية فى الزمن التالى.
وبعد قليل، تزوجت المطربة من الضابط، وعرف كمال الإجابة على سؤاله الذى كان قد وجهه إليها فى قصيدته الثانية، والذى سألها فيه:
هل أنا العاشق الذى تؤثرينه...
أما أنا الواهم الذى تخدعينــه.
وأغلب ظنى أنه لم يكن هناك خداع بمعنى الكلمة، كل ما فى الأمر أن المطربة وجدت أمامها طريقين: أحدهما فيه مجرد طالب وشاعر لا يمكن التنبؤ له بمستقبل معلوم، والثانى ضابط شرطة له وظيفة هامة ومستقبل مضمون، فاختارت الطريق الأضمن. وكان هذا عذرا مقبولاً لها وأمام الآخرين -بل ربما أن الفتاة كانت عندها حاسة سادسة، تنبأت بها إلى الأهوال التى كانت تنتظر كمال فى مستقبله القريب، فقررت أن تنأى بنفسها عنها.
أصابت الطعنة الشاعر فى مقتل، ولكنها فجرت فيها ينابيع من الشعر العاطفى الجياش، الذى لم ينشد مثله أحد. وكانت تلك هى التجربة الأولى.
...
أما التجربة الثانية، فكانت حين أصابه الوعى السياسى والاجتماعى بصاعقة اخرى، واختار الطريق الأكثر صعوبة وخطورة، وهو طريق النضال، والذى قال عنه:
عيد ميلادى الذى أعرفه
يوم كافحت أحببت الكفاح
وتمشت فى دمائى ثورة
تنسف الظلم فتذروه الرياح
... إلخ ...

أصبح مناضلاً شيوعياً، وتدفقت ينابيع نبوغة الشعرى، حتى أدهشت بقوتها وجمالها كل جيله. وفتحت له الصحف والمجلات التقدمية واليسارية صفحاتها، فتوالت قصائده الثورية فى وقت قليل، كتب:

 أيها المغمض المعذب بالليل تطلع لنور فجر جديد
أنا أشقى وأنت تشقى، وهذا ما ورثناه من تراث الجدود
غير أنى آليت أبذل روحى كى ينال الحياة بعدى وليدى
...
يا رفيقى أنا وأنت وعمى وابن عمى جماعة من عبيد
أنا أبكى وأنت تبكى ولكن.. لن يفل الحديد غير الحديد
... إلخ ...

وكتب:
بين هذا الظلام يولد شعب
يطلب النور أو بريق الدماء
وجد الأرض جنة لسواه
فتغاضى عن جنة فى السماء
إن هذه القصور ستر لعريان
بناها.. وما له من بناء
وطلاء القصور لو حللوه
أيقنوا أنه دم الأبرياء
.. إلخ..

وكتب:
تحت هذه السماء جبن وفقر
فتعالوا إلى بلاد بعيدة
حيث تحت السماء قوم أرادوا
ثم دانت لهم حياة سعيدة
.. إلخ ..

وكتب:
كل يوم يمر ليس من العمر إذا لم تعه يوم كفاح
وحرام عليك أن تبصر الشعب دماء تجمدت فى جراح
وحرام عليك أن تبصر القوم عرايا فى عاصفات الرياح
يتشاكون بالدموع فتبكى لبكاهم وتكتفى بالنواح
لغة الدمع لم تعد منطق اليوم فجفف دموعك الماضيات
...
يا أخى تنعم الكلاب لدى القوم ونشقى فيالها مضحكات
أطلق الثورة التى تسكن الصدر وجفف دموعك الماضيات
إنما نخسر القيود- وما القيد جميل على أكف الأباة
 .. إلخ ..

وغيرها وغيرها من القصائد، التى كأنها خرجت من فوهة بركان، وصيغت حروفها من حديده المنصهر.
وكانت تلك الأشعار، هى أهم دليل ساقه إسماعيل صدقى كمبرر لحملة 11 يوليه التى شنها لقمع القوى الوطنية والديموقراطية والتقدمية، ووقف فى مجلس الشيوخ يلقى بعضها على أعضاء المجلس، فى بيانه المعروف، ألقاها بصوت مرتعش مشروخ، حتى أن أحد الباشوات من أعضاء ذلك المجلس، وقف يقاطع صدقى ويقول له:
-كيف يقول هذا الكلام، ولماذا لما يسجن منذ زمن؟
وكان كمال قد ألقى به فى السجن فعلاً منذ قليل، ولكنه سرعان ما رد على هذه الهيستيريا بقصيدته التى كانت بمثابة قذيفة مدفع، جاء فيها:

نحن فى السجن، وتحت الشمس أنصار الظلام
هم أرادوا أن يظل الشعب عبداً يستضام
وأردنا أن يعيش الشعب حراً لا يضام
ولهذا فلنا السجن جزاء وانتقام
ولهم تنصب رايات وأعراس تقام
...
بعد أن أفرج عن كمال من ذلك السجن، وبعد فترة من الزمن شعر بأن الشرطة تضيق عليه الخناق فى مراقبتها لتحركاته وسكناته، وطلب منى أن أصحبه إلى قريتى "الزاوية" ليمضى فيا بعض الوقت، وسافرنا إلى هناك، وأقام معى فى منزلنا الذى كان شبه مهجور فى ذلك الحين، وكان بعض الأقرباء يتردد علينا من حين لآخر. ليقدم لنا بعض ما نشاء من المعونه. وذات مرة حضر بعضهم، وكان منهم أحد أعمامى وهو الشيخ عبد المقصود أبو محمد، وكان مزارعاً ثرياً، وشيخاً وقوراً قليل الكلام جداً. وجلسوا معنا بعض الوقت، وكان كمال يتكلم بصوته الخافت، كلاماً عادياً مألوفاً.
ويبدو أن الشيخ عبد المقصود قد أعجب بشخصية كمال، فدعانا فى اليوم التالى إلى وليمة عامرة فى بيته. وذهبنا. وبعد الغداء، انتهز عمى عبد المقصود فرصة ذهاب كمال إلى الحمام، ومال على قائلاً:
-صاحبك ده راجل أحمس.
ولم أفهم وقتها معنى كلمه "أحمس" هذه، وظللت فترة طويلة أسأل عنها فلم يجبنى أحد، كما أنها لم تصادفنى فى أى من قراءاتى، وأخيراً ومنذ وقت قريب، وجدتها فى قاموس مختار الصحاح، وجاء به ما يلى:
-أحمس، الأحمس: الشديد الصلب فى الدين وفى القتال، والحماسة الشجاعة، والأحمس أيضاً الشجاع.
وأدركت ما كان يعنيه عمى فى وصفه لكمال بالأحمس، واقتنعت بأنه كان يدرك معنى الكلمة، وأنه هو نفسه، كان رجلاً "أحمس"، رحمهما الله، صديقى كمال، وعمى عبد المقصود.
ولا أجد ما أختتم به كلامى عن كمال عبد الحليم، إلا بأن أورد بعض ما قلته عند فى القصيدة التى قلتها فى رثائه، بعد أن توفى فى عام 2004.

سلام عليك أخى يا كمال
سلام على الشعر والشاعرية
سلام على رفيق النضال
سلام على الصحبة العبقرية
...
تلوح لعينى عبر الدموع
مشاهد أيامنا الخالية
مشاهد عهد الصبا والشباب
وأطياف أيامه الزاهية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق