ذكريات شاعر مناضل: 12- فى قصر الأمير

12- فى قصر الأمير


كان من المقرر أن تبدأ الدراسة يوم السبت الموافق أول أكتوبر سنة  1937. وفى يوم الجمعة السابق لهذا اليوم، والموافق 30 سبتمبر، فى وقت العصر، توجهت إلى مدرسة شبرا الثانوية لبدء الدراسة فى اليوم التالى.
وقفنا أنا و"أحمد الأزهرى" -ابن عمتى "منيرة"- والطالب وقتها بكلية التجارة على محطة الترام بشارع محمد على بالحلمية الجديدة، وكان أحمد قد حضر لمرافقتى إلى المدرسة، ولمساعدتى فى حمل الحقيبة الكبيرة التى تحتوى على ملابسى وأغراضى الاخرى. وجاء ترام رقم 13 فصعدنا إليه ومعنا الحقيبة الكبيرة، والحقيبة الصغيرة الخاصة بالكتب والأدوات المدرسية. وسار الترام بنا، نحو ميدان باب الخلق، ثم إلى ميدان العتبه، ثم إلى شارع فؤاد حتى مسجد السلطان أبو العلا، ثم انحرف بعد يمينا فى مواجهة وكالة البلح، ثم استمر فى سيره بالشارع المؤدى إلى روض الفرج، وملا من أمام الترسانة والمطبعة الأميرية، ثم ورشة القطن إلى المحطة المقابلة لشارع السبتية. وبعد تلك الكحطة أستأنف سيره إلى جوار أسوار مبنى عنابر السكك الحديدية، ومدرسة الفنون الزخرفية، ومدرسة الصنائع الميكانيكية، حتى ارتقى الكوبرى العلوى الذى يمر فوق قضبان السكك الحديدية المتجهة إلى الوجه القبلى. ثم توقف على محطة سوق الخضار، التى تضم شوادر بيع الخضر والفواكه. واستأنف الترام مسيرته لمحطة أخرى، نزلنا فيها، وكانت تلك هى محطة مدرسة شبرا الثانوية، وهناك نزلنا، وحملنا حقيبتنا إلى الباب الحديدى المغلق، وطرقناه، ففتحه البواب الأسمر، وأخبره "أحمد الأزهرى" بامرنا، فسمح لنا بالدخول، وكان هذا هو الباب الخلفى للمدرسة، إذ أن بابها الأساسى، يقع على الجانب الآخر، فى مواجهة حى شبرا.
اجتزنا الفناء الخلفى للمدرسة، الواقع فى الناحية الغربية منها، والذى كان قد أعد ليكون ملعباً لكرة القدم، وكانت تحيط به مبانى كثيرة، تحتوى على فصول للدراسة. عبرنا هذا الفناء "الملعب" إلى السلم الرخامى الكبير، المؤدى إلى المبنى الشاهق، الذى تحتله إدارة المدرسة، وقاعاتها الرئيسية، والفصول الدراسية الهامة. كان البهو الذى دخلنا إليه بهواً كبيراً مترامى الأطراف، تتكون أعمدته الكثيرة الشاهقة، وأرضيته الفسيحة، والسلالم الواقعة فى منتصفه، والموصلة إلى دوره العلوى، تتكون كلها من الرخام الأبيض المشرب بزرقة خفيفة. فى منتصف البهو، وفى مواجهة السلم الكبير، استقبلنا وكيل المدرسة، وهو أستاذ وقور فى منتصف العمر، ولما عرف بأمرنا، أخرج من ظرف أصفر كبير كان يحمله، فرخ ورق سطرت عليه أسماء التلاميذ الذين تقرر قبولهم فى القسم الداخلى. وإلى هنا انتهت مهمة الأستاذ "أحمد الأزهرى" وانصرف مشكوراً بعد أن ودعنى.
صعدت مع فراش "العهدة"، وهو رئيس فراشى المدرسة، على السلم الرخامى الكبير، إلى الدور العلوى، ودخلت معه إلى قاعة فسيحة تتصل بالطرقة الكبيرة الواقعة فوق البهو الرئيسى السفلى للقصر الذى تحتله المدرسة. ووجدت هذه القاعة مكتظة بصفوف كثيرة من الأسرة السفرى الحديدية البيضاء، والدواليب الخشبية المدهونة باللون الجوزى، وعلى كل منها كتب رقم معين، وأن الأسرة قد كتب عليها بدورها ذات الأرقام. وأوصلنى "العهدة" إلى السرير والدولاب الخاصين بى، حسب البيان الثابت فى كشف كان معه.
استلمت سريرى، ودولابى وقمت بوضع حقيبتى فوق السرير، وبافراغ محتوياتها فوقه، وقمت برصها داخل الدولاب، ثم فرشت إحدى الملائتين اللتين كنت قد اشتريتهما من الفرنوانى، على مرتبة السرير، ثم استقليت عليه لأستريح.
نهضت من رقدتى وقد ولى النهار وحل الليل بظلامه، وأضيئت المصابيح فى "العنبر"، وفى الردهة خارجة، وما يتصل بها من مرافق. ورأيت العنبر يموج بالحركة والنشاط، وبه العديد من التلاميذ الذين كانوا قد حضروا قبلى، والذين حضروا بعدى، وبدأت أتحدث مع هؤلاء القريبين فى موقعهم منى، وأعرف منهم نظام الحياة فى هذا القسم الداخلى. ولم يطل بنا الوقت فى هذا الحديث، فغيرت ملابسى، ولبست بيجامتى، واستلقيت مرة أخرى على السرير، وفردت البطانية الصوفية التى كانت موضوعة عليه، وتغطيت بها ثم رحت فى سبات عميق.
صحوت من نومى على رنين جرس المدرسة الكبير المعلق فوق درج الشرفة السفلى المؤدية إلى الفناء الغربى، وعرفت أن الساعة هى السادسة صباحاً من ساعة الحائط المعلقة فى ناحية من نواحى العنبر. وكان التلاميذ قد استيقظوا بدورهم. ذهبنا إلى الحمامات الكائنة فى مكان فسيح عبر الردهة. ثم قمنا بتغيير ملابسنا، ونزلنا إلى الدور الأسفل، واتجهنا عبر الفناء الغربى "ملعب الكرة" إلى المطعم أو "اليمكخانة" كما كان يسميها الفراشون، وذلك لتناول طعام اللإفطار، الذى كان يقدم فى تمام الساعة السابعة، وذلك بعد أن يدق جرس آخر معلناً ذلك. تناولنا إفطاراً عادياً يقطعة الكلام والضحكات من التلاميذ المرحين، والمسرورين ببدء عام جديد. ثم خرجنا إلى فناء المدرسة، حيث انتظرنا بدء الدراسة. وعرفنا من لوحة معلق عليها بيانات مكتوبة، أرقام فصولنا ومواقعها، وكنت فى فصل ثانى، من سنة أولى، وموقعه فى فناء كرة القدم، قريباً من موقع المطعم.
فى الساعة السابعة والنصف دق الجرس مرة أخرى، وتنبه علينا بالوقوف فى الطابور، لطابور الصباح، حسب إرشادات مدرسى التربية الرياضية الذين انتشروا فى الفناء، وبيد كل منهم صفارته.
وانتظرنا برهة ونحن فى وضع الانتباه، إلى أن ظهر ناظر المدرسة، وحوله عدد من المدرسين، واتجهوا إلى منتصف الفناء. وألقى الناظر كلمة قصيرة بليغة، هنأنا فيها ببدء العام الدراسى الجديد، وتمنى لنا النجاح والتوفيق، ثم أشار بيده إلى مدرسى التربية الرياضية، فنفخوا فى صفاراتهم، وانصرفنا كلنا إلى فصولنا. وهكذا بدأ عام دراسى جديد، ومرحلة جديدة فى حياتى.
ذهبنا إلى الفصول، وحضر المدرسون لإلقاء الدروس، وبعد الحصة الثانية كانت هناك فسحة قصيرة، وبعد ثلاثة حصص أخرى، خرجنا لفسحة أطول حيث تناولنا الغداء فى مطعم المدرسة، وكان طعاماً جيداً، وبعد ذلك دخلنا إلى حصة أخيرة، ثم انتهى اليوم الدراسى. وتوالت الأيام.
كانت المدرسة عبارة عن قصر جميل فاخر، ردهاته وأبهاؤه كلها من الرخام، وقاعاته وحجراته فسيحة وفاخرة، وكان له باب كبير يطل على الناحية الشرقية، فى مواجهة حى شبرا، تتلوه حديقة غناء، عامره بالأشجار، وبالزهور والرياحين، وتمتد حتى شرفة وسلالم البهو الكبير، وكانت له بوابة غربية تتصل بالفناء الخلفى، الذى كان واضحاً أنه كان يحتوى على حديقة كبيرة للفاكهة، ثم أزيلت أشجاره، وأعد ليصبح ملعباً لكرة القدم، وكانت مساحته الكبيرة تسمح بذلك، وكان بابه الغربى يفتح على شارع روض الفرج، على محطة الترام رقم 13.
وعرفت أن القصر كان هدية من الأمير عمر طوسون، وهو أحد الأمراء الكبار من العائلة الملكية، وأبوه هو طوسان باشا ابن محمد على باشا. وكان القصر هو أحد قصور عديدة كان يملكها، كما كان يملك أراضى وأملاكاً شاسعة. وكان قد قدمه هدية إلى وزارة المعارف، لتنشأ فيه هذه المدرسة الثانوية، وكانت كل المدارس الثانوية فى ذلك الوقت، تقريبا، مقامة فى قصور من هذا المستوى، وكلها مقدمة من أمراء من العائلة المالكة، على سبيل التبرع. وكان هؤلاء، يتنافسون فى مثل هذه الأعمال الوطنية والخيرية، وكذلك العديد من الأعيان والأثرياء المصريين. وتدل حركة إنشاء الجامعة الأهلية فى مصر، وكانت هى أولى الجامعات التى أقيمت فيها، على مدى التشجيع والإقبال الذى كانت تلاقيه مثل هذه المشروعات من جانب هؤلاء الأمراء والأثرياء والأعيان. من ذلك ما قدمه الخديو عباس حلمى الثانى لتلك الجامعة من أموال يبلغ ريعها خمسة آلاف جنية سنوياً، وما قدمته الأميرة فاطمة إسماعيل -ابنه الخديو إسماعيل، لمشروع الجامعة من عطايا إذ أوقفت لها أراضى زراعية شاسعة للإنفاق من ريعها على نشاطها، كما تبرعت لها بمبالغ مالية طائلة، وتبرعت لها أيضاً بجواهرها الثمينة، بل إنها هى التى منحت الجامعة تلك الأرض الشاسعة التى أقيم عليها صرحها، وانخرط فى هذا العطاء رهط كبير من الباشوات والأعيان المصريين، ومنهم أحمد باشا المنشاوى، ومصطفى كامل الغمراوى، وغيرهم من الأسماء اللامعة فى ذلك الزمان.
وإذا كان من الشائع فى أيامنا هذه، أن ينظر البعض إلى هؤلاء الأمراء والأعيان نظرة استخفاف أو ازدراء، ويجحدون أفضالهم فإن من الانصاف أن نقر لكثيرين منهم بهذه الأفضال والفضائل، التى كانوا يتحلون بها، فيسارعون إلى الخيرات، حباً للوطن، ورغبة فى النهوض به، وابتغاء لمرضاة الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق