ذكريات شاعر مناضل: 29- قرت عيون الشهداء

29- قرت عيون الشهداء


قرت عيون الشهداء الأبرار فى مراقدهم إلى جوار الله وفى ظل رضوانه، ولكن عيون إخوانهم من شباب مصر ورجالها لم تغمض لها جفون، ففى نفس هذه الليلة تشكلت اللجنة الوطنية للعمال والطلبة، وأعلنت عن تشكيلها، وعن أهدافها، الجلاء، والاتسقلال التام، والحرية، والدستور، والعدالة، وإنزال القصاص بالخونة والعملاء، والمجرمين فى حق الشعب وقاتلى أبنائه.
وكانت باكورة أعمال هذه اللجنة، أن دعت جموع الطلبة والعمال إلى القيام بجنازة صامته فى اليوم التالى ليوم المذبحة، فى يوم 1946/2/12 للاحتجاج على هذه المذبحة واستنكارها، والمطالبة بإنزال العقاب العادل على كل من كانت له يد فى اقترافها، وبالإفراج الفورى عن كافة المعتقلين والمسجونين على ذمة أحداث الإضراب والتظاهر من أجل القضية الوطنية.
وبالفعل، غصت ساحات الحرم الجامعى فى ذلك اليوم، بالجموع الحاشدة من الطلبة والعمال، وهم يحملون رايات الحداد، ويرتدون أربطة العنق السوداء، ويرددون الهتافات الوطنية. وكان هذا اليوم يوافق يوم ميلاد الملك، وكان قد أعلن أن الملك سيزور مقر المدينة الجامعية، المجاورة لمبنى الجامعة، حيث سيقام احتفال كبير ابتهاجاً بهذه المناسبة. ووجدناها فرصة مواتيه لننقل مظارهة الحداد، إلى ساحة الاحتفال بعيد ميلاد الملك، فخرجنا بمواكب حدادنا إلى مقر المدينة الجامعية، وقامت الجموع بتحطيم الزينات المقامة، وتمزيق صور الملك المعلقة فى ساحة الاحتفال، ودوسها بالأحذية. وكانت الجهة القائمة بتنظيم الاحتفال قد قامت بإحضار فرقة موسيقية أجنبية (أسبانية)، ومعها فرقة للفنون الشعبية الأسبانية، للرقص والغناء، ابتهاجاً بالعيد الملكى السعيد، فقمنا بطرد هذه الفرقة، وطرد الراقصات، وأجليناهم عن المكان، حتى اختفوا عن الأنظار. واضطرت الجهة المنظمة للاحتفال إلى الإعلان عن إلغائه، وإلغاء الزيارة الملكية، التى كان قد أعلن عنها من قبل.
وفى الأسام التالية لم تتوقف المظاهرات والإضرابات، لا فى الجامعات والمدارس فحسب، بل وفى مختلف المناطق العمالية، فى القاهرة، وفى الإسكندرية، وفى المحلة الكبرى، وفى كفر الدوار.
وأمام هذا السيل العارم من الغضب الشعبى، اضطرت حكومة النقراشى إلى تقديم استقالتها.
ولم يكد الشعب يشعر بطعم انتصاره، حتى بادر الملك إلى تكليف المجرم إسماعيل صدقى باشا، بتشكيل الوزارة، رغم علمه، بماضيه الأسود فى معاداة الدستور، وفى قمع الحريات، وفى التنكر لحقوق الشعب ومطالبه الوطنية.
وكان صدقى يعرف مدى كراهية الشعب له ولتاريخة الأسود، فعمد إلى الخداع والتضليل، ودعا الشعب إلى نسيان ماضية، وإعطائه فرصة أخرى للتوبة وإصلاح أخطائه، هكذا بكل صفاقة وتبجح.
ونشطت صحيفة أخبار اليوم، فى الترويج لهذه الأكاذيب. وفور تكليف صدقى بالوزارة، بدأت المظاهرات من جديد، مظاهرات طلابية، ومظاهرات عمالية فى مختلف المناطق، وكانت -بصفة عامة- تجرى تحت قيادة اللجنة الوطنية للعمال والطلبة وبدعوة منها.
وفى جامعتنا، كانت معظم التيارات السياسية قد تجمعت تحت راية اللجنة، ما عدا مجموعة الإخوان المسلمين التى رفضت الانضمام إليها، بل وقفت منها موقفاً مناوئاً. وعندما قامت مظاهرتنا ضد صدقى، دهشنا لموقف الإخوان، إذ أخذوا مواقعهم المعتادة فى الحرم الجامعى، وبدأوا هتافاتهم المعتادة: الله أكبر ولله الحمد.. إلخ. ثم اعتلى زعيمهم وخطيبهم -مصطفى مؤمن- أكتاف زملائه، وألقى خطبة عصماء رحب فيها بإسماعيل صدقى، وبشر بالخير الذى سيحل بالبلاد على يديه، وقال فى هذا الصدد: "واذكر فى الكتاب إسماعيل، إنه كان صادق الوعد، وكان صديقاً نبياً". وهنا لم تستطع جموع الطلبة أن تضبط نفسها، فهجمت عليه وعلى إخوانه، وأشبعتهم ضرباً، حتى اضطروا إلى الفرار.
وتصاعدت حركة التذمر والتظاهر، وقررت اللجنة الوطنية، تصعيد النضال ضد دقى ونظامة، فأعلنت عن الدعوة إلى إضراب عام فى البلاد كلها، يوم 21 فبراير 1946.. من أجل المطالب الوطنية، وضد حكومة صدقى.
وحرصنا جميعاً على بذل كل ما فى وسعنا لإنجاح هذا الإضراب، ولذلك فقد تم التنسيق بين كل أنصار تلك اللجنة، على كيفية المشاركة فى الدعوة إليه والمشاركة فيه.
ولما كنت أقيم فى حى بولاق أبو العلا، فقد كان طبيعياً أن يكون مجال مشاركتى فى الإضراب، هو فى هذا الحى. وتنفيذاً لذلك، ففى صباح ذلك اليوم -الساعة الثامنة صباحاً، توجهت إلى الموقع المتفق عليه، وهو فى ناصية شارع بولاق الجديد، وشارع فؤاد. وهناك، وعلى الرصيف الممتد أمام محل زكى السماك، فى مواجهة مسجد السلطان أبو العلا، وقفت انتظر تجمع الآخرين لأشترك معهم فى أعمال الإضراب والتظاهر.
ولم أكد أقف هناك متطلعاً، حتى فوجئت بلورى من لوريات الشرطة، يتوقف على مقربة منى، ونزلت منه مجموعة كبيرة من المخبرين، ومن الجنود من حاملى الهراوات، كما نزل من كابينة اللورى شخص يرتدى الملابس المدنية، عرفت بعدها أنه معاون مباحث قسم بولاق، "الصاغ محمد السعدنى". ووقفت مكانى ثابتاً. ورآنى معاون المباحث، فتوجه نحوى وحوله عدد من المخبرين، وسألنى: انت طالب؟. فقلت له: نعم. فسألنى: فى كلية إيه؟. قلت له: الحقوق. فنظر إلى رباط عنقى الأسو، وسألنى: بتعمل إيه هنا؟. فقلت له: وانت مالك!. ونظر إلى المخبرين الواقفين حوله وأشار لهم إشارة معينه، وعلى الفور انقض على اثنان منهم، وأمسكنى كل منهما من ذراعى، وثبتانى، بحيث لا أستطيع الحركة. وهنا تقدم نحوى الرجل، وأخذ يصفعنى على وجهى صفعات متتالية، وأنا لا أستطيع الحراك. ظل يصفعنى وأنا لا أتحرك، وبدأ المنظر يلفت نظر المارة من أهل الحى، فتجمع عدد منهم حولنا، وبدأ بعضهم يبدى شيئاً من الاستياء. وتوقف الرجل، وأشار للمخبرين، فحملونى حملاً إلى اللورى، وألقوا بى فيه، وركب بعضهم معى، وسار اللورى نحو قسم بولاق أبو العلا. وفى الطريق أخذ المخبرون فى مواساتى بأقوالهم: لا حول ولا قوة إلا بالله، هو ات قلت له إيه؟ -ولم أرد، فقال واحد منهم: على كل حال دا راجل وسخ وابن شرموطة.
عندما وصلنا إلى قسم بولاق، انزلنى المخبرون، وأدخلونى إلى داخل القسم، ثم أدخلونى إلى حجرة الحجز، وهى حجرة فسيحة لم يكن بها أحد. وسألنى أحدهم. تشرب شاى أجبت بالنفى، فأخرج الرجل علبة سجائر من النوع الردئ. وسألنى: تشرب سيجارة؟ فأجبت بالنفى، فخرج من الحجز، وعاد بعد برهة وهو يحمل قلة ماء قد كسرت حافتها. وقال لى معتذراً، ما تأخذنيش، هانقفل عليك الباب ونمشى احنا، وانت خليك هنا لحد ما يرجع ابن الكلب. الله يخرب بيته. وبالفعل، اغلقوا الباب من الخارج وانصرفوا. بقيت فى غرفة الحجز وحيداً، ثم توجهت إلى أحد أركانها، فى مواجهة كوة بأعلى الجدار تسدها قضبان من الحديد. وجلست على أسفلت الأرضية وحيداً لا أعرف ماذا أفعل.
وطالت جلستى، وبدأت الخواطر تنهال على من كل شكل ونوع. ثم أحسست برغبة فى كتابة شعر، ولم يكن معى ورق أو قلم، ومع ذلك بدأ وجدانى يجيش  بالكلمات والأوزان، وأنا أصغوها وأعدل فيها فى صمت إلى أن أكتملت القصيدة. وهكذا ولدت قصيدة "غداً". بقيت فى غرفة الحجز حتى سمعت أذان العصر، وبعدها بحوالى ساعة، سمعت جلبة أمام باب القسم، ثم بعد قليل، فتح باب الحجز، ودخل المخبر الذى كان معى فى الصباح، وقال لى: معلهش، ما تآخذنيش. ابن الوسخة جه وعايزك فى مكتبه. قمت وتوجهت مع المخبر إلى غرفة تقع فى آخر ممر داخل مبنى القسم. وفتح الباب، ودخلت.
رأيت الصاغ محمد السعدنى جالساً وراء مكتبه وهو ينفث دخان سيجارة. وأشار إلى كرسى أمام المكتب، وقال: اتفضل.
جلست، وأخذ هو يتأملنى، ثم قال لى: تصدق بالله، أنا لى تلات تيام مانمتش، الله يخرب بيت دى شغلانة. معلهش يا أستاذ، غصب عنى، حقك على. ولم أعلق أو أنبس ببنت شفه.
وبعد قليل سألنى: أجيب لك أكل؟ -هززت رأسى نفياً.
فسألنى: تشرب شاى؟ هززت رأسى نفياً. أخرج علبة شائرة وفتحها وقدمها نحوى وسأل: تدخن؟ -فهززت رأسى نفياً.
وفجاءة رأيته يجهش بالبكاء، ودموعه تسيل من عينيه. ثم قال: معلهش يا أخى، حقك على، أتفضل بسلامة الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق