ذكريات شاعر مناضل: 5- يحيا النحاس باشا

5- يحيا النحاس باشا

كنا فى أواخر السنة الدراسية -الثالثة ابتدائى- إذ لم يبق على امتحان آخر السنة إلا أقل من الشهر. وكان المدرسون منهمكين فى مراجعة المقررات مع التلاميذ لإعدادهم -بقدر الإمكان لذلك الامتحان. وكان ذلك أمراً هاما للمدرسة ولمدرسيها على السواء، وخاصة أن امتحان النقل إلى السنة الرابعة الابتدائية يعتبر مقدمة لامتحان الشهادة الابتدائية الذى يعتبر نهاية المطاف لأى مدرسة ابتدائية. وكانت المدارس الأهلية تهتم بتحقيق أفضل النتائج فى ذلك الامتحان، إذ يتوقف عليه الكثير فى ذيوع صيت المدرسة بين الناس، ومن ثم زيادة إقبال الأهالى على إلحاق أبنائهم بها، وزيادة عائدها مما يدفعونه من مصروفات، كما يتوقف على تلك النتائج، مقدار الدعم الذى تقدمه الحكومة لها.
ونتيجة لرعاية شقيقتى لأمورى المعيشية وانتظام أحوالى، ولجهود الأستاذ محمد القماح -مدرسنا الخصوصى، ونتيجة لهذه المراجعة التى يقوم بها المدرسون معنا لكل المقررات، تحسن مستواى الدراسى، واكتسبت مزيداً من الثقة وفى نجاحى آخر العام.
وبصفة عامة، فقد كانت أحوالى الدراسية تسير على ما يرام. ثم حدث أمر لم أكن أتوقعة أو أتصوره. فذات يوم من تلك الأيام بعد عودتنا إلى الفصل بعد الفسحة الاولى، فوجئنا بتلميذ مازال واقفاً فى فناء المدرسة، فوجئنا به وهو يصيح هاتفاً: يحيا الإضراب العام، وتكرر ذلك الهتاف عدة مرات، فخرج العديد من التلاميذ من الفصول، وتدفقوا على الفناء، وأخذوا يهتفون بدورهم: يحيا الإضراب العام. خرجنا نحن أيضاً من الفصل، وأخذنا نهتف مع الهاتفين: يحيا الإضراب العام، وتزايد خروج التلاميذ واشتراكهم فى الهتاف حتى بات واضحاً أن المدرسة كلها قد اشتركت فيه.
عند ذلك خرج الناظر، سعد علام، من حجرته، وأقبل متقدماً داخل الفناء، يتبعه الأستاذ عبد السلام،ورفج أفندى ضابط المدرسة ومعلم الألعاب فيها، وعدد آخر من المدرسين. أشار الناظر إلى تلميذ محى الذى كان يقود الهتافات فتقدم هذا إليه فبادره الناظر بالسؤال: إضراب ليه يا محى؟ وأجابه محى: علشان نروح نستقبل النحاس باشا فى محطة مصر. وسأله الناظر، هو ها يوصل امتى يا محى. وقال محى: الساعة 12 الظهر يا فندى.. مكتوب كدة يا فندى. فأجابه الناظر: وها تخرج أنت بالمدرسة كلها يا محى؟ فأجابه محى: أيوه يافندى، وكل اللى عايز ييجى معانا. وقال الناظر: بس يا محى انت المسئول عنهم، مش عايز خناق، ولا ضرب طوب، ولا مشاكل، فاهم؟ وأجابه محى بثقة: حاضر يا فندى.. برقبتى يا فندى. وابتسم له الناظر فى ود وهو يقول طيب يا محى.. أتفضلوا. ثم نادى الناظر على بواب المدرسة قائلاً: افتح لهم الباب يا مرسى. واندفع مرسى ففتح الباب على مصراعية، وهنا انطلق محى ومعه عدد من أكبر التلاميذ سناً، وأقواهم أجساماً. وهو يقودون المظاهرة هاتفين: يحيا النحاس باشا.. يحيا النحاس باشا. وانطلق باقى التلاميذ خارجين من المدرسة -ونحن منهم- وسار الجميع منحرفين فى شارع الواجهة ثم منحرفين منه إلى شارع بولاق الجديد. ثم فى الشارع الجديد نحو السبتيه. كان يقود المظاهرة عدد من أكبر التلاميذ سناً، وأشدهم قوة. ومن المعروف أنه فى ذلك الزمان كانت المدارس الأهلية لا تتقيد فى قبول تلاميذها بالسن المقرر فى المدارس الحكومية -أى الميرى- بل تقبل بعض الذين تخطوا هذا السن ممن ترفضهم المدارس الحكومية، إما بسبب السن أو بسبب كثرة مرات رسوبهم، أو بسبب مشاغبتهم أو حتى اعتدائهم على المدرسين. ويحدث ذلك غالباً بسبب غنى عائلاتهم، وقدرتها على دفع مصروفات إضافية زائدة، أو بسبب نفوذ تلك العائلات وقوتها، كأبناء الفتوات وكبار الموظفين. وكان محى، وغيره من قادة المظاهرة، مثل: هريدى، وسعد جبر، وكمال عمران، من هؤلاء. وبعض هؤلاء كانوا طوال القامة، أقوياء الأجسام، وكانوا يرتدون البنطلونات الطويلة فى حين نرتدى نحن البنطلونات القصيرة، وكانت للكثيرين منهم شوارب نابته، وسمعنا أن بعضهم كانوا متزوجين، وكان لهم أولاد.
سرنا فى شارع بولاق الجديد نحو السبتية يقودنا محى، وهريدى، وجبر وهم يهتفون ونحن نهتف وراءهم:
يحيا النحاس باشا .. يحيا النحاس باشا.
زعيم الأمة .. النحاس.
حبيب الأمة .. النحاس.
يحيا النحاس باشا .. يحيا النحاس باشا.
وكنت قد عرفت قبلها أن النحاس باشا هو رئيس الوزراء، ورئيس حزب الوفد.
عندما وصلت المظاهرة إلى أمام منزلنا: 86 شارع بولاق الجديد، وجدتنى أفكر فيما أفعل، هل استمر فى المظاهرة حتى محطة مصر، وهل انتظر حتى أعود منها.. كيف أعرف طريقى فى الذهاب والعودة، وكانت هذه أول مرة أبتعد فيها عن طريقى المرسوم. من البيت إلى المدرسة، وبالعكس. كيف هذا وأنا غريب عن هذا البلد الكبير، ولا أعرف عنه أو فيه شيئاً، وكان محمود عمار قد انفصل عنى وتاه وسط زحام التلاميذ، ولا عجب فهو من أهل القاهرة ويعرف طريقه فيها. ووجدت نفسى أفكر: ماذا ستفعل شقيقتى إذا تهت أو حدث لى مكروه؟ ووجدت نفسى أتردد بين الاستمرار فى المظاهرة، أو الخروج منها. ولكننى كنت مازلت أسير.
ووصلنا إلىالسبتية، وإلى محطة الترام رقم 23، ووجدنا عدداً من القاطرات والعربات واقفة فيها، وقفز التلاميذ إلى العربات فاحتلوها، وأنا معهم، وإن كنت ما أزال متردداً.
وتحرك الترام، وكان السائق والكمسارى يضحكان فى سرور وهما يشعران بأنهما يشتركان فى عمل وطنى.
سار الترام مسرعاً جداً وأنا يزداد ترددى وخوفى وقررت أن أنزل من الترام عندما يقف فى المحطة القادمة، حيث يمكننى أن أجد طريق عودتى قبل أن تضيع منى معالم الطريق، ولكن الترام أخلف ظنى، فبدلاً من الوقوف بالمحطة تزايدت سرعته وهو يتجاوزها منطلقاً بأقصى سرعته. وهنا لم أجد أمامى حلاً سوى القفز من الترام وهو فى أقصى السرعة.
قفزت من الترام وأنا أحمل حقيبة كتبى، ولم أكن أعرف فى ذلك الوقت مدى خطورة هذا التصرف على سلامتى، بل وعلى حياتى. لم أكن أعرف أن القفز من جسم متحرك كالترام أو القطار أو السيارة، يحتاج إلى خبرة، وإلى تدريب، وإلا ساءت العاقبة.
لم أعرف بالضبط ماذا يحدث لى. وجدت نفسى طائراً فى الهواء وأنا احتضن حقيبة الكتب. ثم أسقط على الأرض بقوة، ثم اعتدل مرة أخرى لأطير فى الهواء، ثم أسقط على الأرض، وهكذا .. عدة مرات، إلى أن توقفت هذه العملية العجيبة. ووجدت نفسى أنهض من على الأرض واقفاً على قدمى فى ذهول، ومعى حقيبتى.
كنت غير مصدق بالنجاة. وتجمع حولى بعض المارة الذى شهدوا ما حدث. وأخذوا يتفحصوننى ليعرفوا ما بى من إصابات وأخيراً قال بعضهم لى: حمدلله على السلامة، لقد نجاك الله من خطر جسيم. وقال أحدهم وكان شيخاً معمماً: والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين.
بعد أن تمالكت نفسى عدت أدراجى على الطريق بمحاذاة شريط الترام، إلى السبتية، ثم إلى شارع بولاق الجديد، ثم فى اتجاه المنزل رقم 86.
وقبل أن أدخل إلى المنزل، توقفت عند ضريح سيدى عبد الواحد، فقرأت له الفاتحة، شربت كوزاً من الماء المعطر بماء الزهر مما يعده الشيخ حمزة على منضدته التى جعلها سبيلاً للعطاش.
وأمام باب المنزل وجدت بعض الأشخاص متجمين أمام دكان الأسطى محمود الحلاق، وهو يستمعون من الراديو المعلق على رف فى الدكان إلى خطبة يلقيها شخص بقوة وبلاغة، وعرفت أنه مصطفى النحاس باشا، وأنه يلقيها على مستقبليه فى محطة مصر، وهو يشرح لهم فيها ما حدث معه فى رحلته التى يعود منها. وسمعته يردد فى خطابه كلمة مونترو .. مونترو .. يرددها فى لهجة غريبة عرفت فيما بعد أنها لهجة فرنسية، وعرفت أن مونترو هذه هى مدينة فى سويسرا، وأنه حدث فى مونترو اجتماع دولى كبير، اشترك فيه وفد مصرى برئاسة النحاس باشا -رئيس وزراء مصر وقتها، وانتهى الاجتماع إلى توقيع معاهدة دولية تاريخية بإلغاء الامتيازات الأجنبية فى مر، تحقيقاً لسيادتها واستقلالها، وسميت المعاهدة - بمعاهدة مونترو.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق