ذكريات شاعر مناضل: 41- نكبة فلسطين

41- نكبة فلسطين


كانت نكبة فلسطين هى أكبر ضربة وجهها الاستعمار الغربى إلى الأمة العربية قبل اضطراره إلى الرحيل عن ارضيها. وكانت تلك النكبة محصلة لعدة عوامل، منها الأطماع الصهيونية، والتآمر الاستعمارى، والتواطؤ الرجعى العربى.
فعلى مدى القرون الطويلة، ومما قبل الفتح العربى لأراضى فلسطين، التى كانت الإطبراطورية الرومانية تسيطر عليها. كان العرب هم الأغلبية الساحقة من سكان فلسطين، ولم يكن بها فى أى وقت من الأوقات إلا أقلية ضئيلة من اليهود، الذين كانوا يعيشون فى سلام ووئام مع العرب. وكانت الأحلام اليهودية لا تتجاوز حلم اليهود بالحضور إلى فلسطين -القدس- للحج والزيارة، أو حتى للإقامة فى الأرض المقدسة، دون أن تتعدى تلك الأحلام إلى انتزاع فلسطين من سكانها العرب، وطردهم منها، وإقامة دولة يهودية عليها.
ولكن الوضع قد تغير، مع ظهور الحركة الصهيونية الحديثة فى أورزبا أساساً -ومنذ مؤتمر بازل سنة 1894 الذى دعا إليه نبى الصهيونية- تيودور هيرتزل، والذى تنبى الحلم الصهيونى، بانتزاع فلسطين من أهلها، وبإقامة الدولة اليهودية عليها، وتأسيس آليه تنظيمية وسياسية تعمل على تحقيق هذا الهدف بكل الوسائل، ألا وهى الوكالة اليهودية.
وسعت الحركة الصهيوينة إلى استغفال الدولة العثمانية، التى كانت فلسطين واقعة تحت سيطرتها، مستغله ظروف التدهور الذى كانت تعانية تلك الدولة. ولكن دون جدوى، إذ كانت الدولة العثمانية ما زالت بها بقية من القيم، منعتها من الاستجابة إلى محاولات الصهيونيه وإغراءاتها.
وحين وقعت فلسطين تحت الاحتلال البريطانى بعد قيام الحرب العالمية الأولى سنة 1914، بدأت تتجمع عوامل التآمر الصهيونى مع الاستعمار -البريطانى والغربى- على تحقيق المؤامرة التاريخية الكبرى ضد العرب، والمتمثلة فى نكبة فلسطين.
-وفى عام 1917 صدر وعد بلفور المشئوم، وهو التصريح الذى أعلن به مستر "بلفور"- وزير خارجية بريطانيا (اليهودى) أن بريطانيا تنظر بعين العطف، إلى مشروع إقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين، وقد مر هذا التصريح فى حينه دون أن توليه الدول العربية القائمة وقتذاك، ما يستحقه من اهتمام. والسبب الأساسى لذلك، هو وقع العرب جميعاً فى براثن الاستعمار وقتها، وانشغالهم بهمومهم الناتجة عن ذلك الوضع الاستعمارى، ووقوعهم ثانياً تحت وطأة أوضاع استبدادية ثقيلة فى كل أنحاء العالم العربى، تحول بينهم وبين أى تحرك فعال لمقاومة تلك المؤامرة، ولإدراك خطرها الجسيم على مستقبلهم جميعاً.
وكان وعد بلفور هذا -هو الحلقة الرئيسية فى تحقيق تلك المؤامرة، وكان فى الواقع -كما قيل عنه- وعد من لا يملك لمن لا يستحق.
وكان وراء هذا الوعد، من جانب الصهيونية: تحقيق خطوة كبيرة نحو هدفها المعلن، فى إقامة دولة يهودية على أرض فلسطين -من النيل إلى الفراتا، وضمان المساعدة المستمرة من جانب بريطانيا وحلفائها الغربيين، السياسية والمالية والعسكرية، لها فى تحقيق أهدافها.
أما من جانب بريطانيا -وحلفائها بعد ذلك- فهو إقامة قاعدة ثابته لها فى هذه البلاد، لحراسة مصالحها، وضمان سيطرتها، واليلوية دون توحد الشعوب العربية فوق أراضيها.
بعد وعد بلفور، وفى ظل الانتداب البريطانى الذى قررته عصبة الأمم بعد قيامها فى أعقاب الحرب العالمية الأولى، بتواطؤ من الدول الغربية التى كانت تسيطر على تلك العصبة، بعد ذلك، وفى الفترة ما بين صدور وعد بلفور، وبين قيام الحرب العالمية الثانية سنة 1939، بدأت مرحلة جديدة من مراحل تنفيذ المؤامرة، وهى مساعدة عملية الهجرة الواسعة لليهود، من مختلف بقاع العالم -وخاصة من أوروبا- إلى أرض فلسطين، مع الضغوط المتواصلة على عرب فلسطين، بمختلف الأساليب، للهجرة منها. وساعد على ذلك، تصاعد المد الفاشيستى فى أوروبا وما كان يمثله من اتجاهات عنصرية معادية لليهود. والذى كانت الصهيونية العالمية تغذية سراً، وتروج لمخاطره بين اليهود. فى حين عمدت الصهيونية، بتواطؤ مع سلطة الانتداب البريطانى، إلى ممارسة ضغوط مستمرة على عرب فلسطين، ودموية فى كثير من الأحيان، لإرهابهم ودفعهم إلى ترك أرضهم ومدنهم وقراهم، وفى نفس الوقت الإسراع فى استقبال اليهود، ومساعدتهم على التوطن والاستيطان.
-وبعد أن انتهت الحرب العالمية، وبدأت حركة صاعدة لتحقيق اليقظة العربية. وبعد قيام جامعة الدول العربية، وتحول عدد من الدول العربية إلى انتهاج سياسة أكثر استقلالية وتحرراً، ومنها مصر وسوريا ولبنان والسعودية والعراق، طلبت تلك الدول عرض قضية فلسطين على مجلس الأمن، والمطالبة بإيجاد حل لها يحقق استقلالها وحريتها، ويضع حداً للصراع المتصاعد الذى يدور على أرضها بين العرب واليهود.
وقد طرح على المجلس وقتها، مشروع قدمه الاتحاد السوفييتى، بقضى بإنهاء الانتداب البريطانى على فلسطين، وإقامة دولة ديموقراطية تضم العرب واليهود على أراضيها.
غير أن اليهود -بتأييد من الدول الغربية- أعلنوا رفضهم للمشروع، ومما يؤسف له أن الدول العربية الممثلة فى المجلس، قد أعلنت هى الأخرى -رفضها له.
وقدم إلى المجلس مشروع آخر، هو مشروع التقسيم، وكان يقتضى بتقسيم أراضى فلسطين إلى دولتين، واحدة عربية، وأخرى يهودية، وذلك بمراعاة نسبة تواجد الطرفين وقتئذ على أرضها، وكانت النسبة وقتها هى: عشرة فى المائة من اليهود، والباقى من العرب، وأرفق بمشروع القرار، مشروع تقسيم الأرض على الطبيعة، وهو المشروع الذى وضعه الوسيط الدولى -داج همرشولد- النرويجى (والذى اغتاله اليهود بعد ذلك)، وكان يعطى أغلب الأراضى الفلسطينية للعرب.
وكان الاتحاد السوفييتى -الذى كان يمثله وقتها اندريه جروميكو، من أكثر الدول حماساً للمشروع، باعتباره أفضل الحلول السيئة، كما قال جروميكو وقتها. وقد وافق مجلس الأمن على المشروع فى 1948/11/29، غير أن الدول العربية -ومنها مصر- ظلت رافضة له. وأذكر أن مظاهرات حاشدة قد قامت بعد هذا التاريخ ولعدة أيام متتالية، لمعارضة مشروع التقسيم والتنديد به، وكانت تلك المظاهرات تتوجه إلى مبنى الجامعة العربية، الذى كان يقع وقتها بشارع البستان، بمنطقة باب اللوق.
وفى ذلك الوقت أصدرت الحركة الديموقراطية بياناً تعلن فيه موافقتها على مروع التقسيم، وتطالب الحكومة بالموافقة عليه والأخذ به. وقد نشر هذا البيان حينه فى صحيفة الملايين والتى كانت تصدرها فى ذلك الوقت، كما وزع فى منشورات على نطاق واسع.
وفى نفس الوقت، أعلنت بريطانيا قبولها بمشروع التقسيم، كما أعلنت أنها سوف تنسحب من فلسطين فى موعد أقصاه 1948/5/15.
وظلت مصر، وباقى الدول العربية تعلن رفضها لمشروع التقسيم، ولكنها لم توضح خطواتها التالية لرفضه، وخطتها لوقف تنفيذه. وكان التصور القائم وحدها هو أن ترسل الدول العربية -ومنها مصر- متطوعين مسلحين، للقتال إلى جانب الفلسطينيين، والعمل معهم على منع تنفيذ قرار التقسيم، وظل الوقت يمر والموقف المصرى على حاله من الغموض والتردد، إلى أن فوجئنا جميعاً، وفى يوم 1948/5/15 -أى فى اليوم ذاته الذى حددته بريطانيا لإتمام انسحابها من فلسطين بدخول الجيش المصرى إلى فلسطين. وقيل وقتها إنه سيدخل هو وباقى الجيوش العربيةة (لطرد العصابات الصهيونية، ومنعهم من إقامة ولة يهودية فى فلسطين).
وفى نفس تلك الليلة، كانت "العصابات الصهيونية" قد أعلنت قيام دولة إسرائيل، وفقا لمشروع التقسيم. وبعد دقائق من الإعلان، قامت أمريكا بإعلان اعترافها بتلك الدولة، وتبعتها العديد من الدول، ومنها الاتحاد السوفييتى.
وثبت بعد ذلك، أن رفض الدول العربية لقرار التقسيم، ثم دخولها الحرب فى فلسطين، إنما كان حلقة من حلقات المؤامرة التى دبرتها الدول الغربية، هى والصهيونية العالمية، ضد فلسطين، والعرب جميعاً.
وثبت أن بريطانيا قد زينت هذه السياسة للعرب، رفض التقسيم، ودخول الحرب، وأوهمتهم أنها ستقوم بمساعدتهم سراً، وإمدادهم بالأسلحة اللازمة لتحقيق انتصارهم. وهذا كله لم يتحقق منه شئ.
وثبت أن الملك فاروق كان له دور جوهرى فى تلك المؤامرة، وأنه قد اندفع إليها، سعياً إلى تحقيق طموحاته فى أن يصبح زعيماً للعرب، وخليفة على دولة عربية موحدة.
ومرة أخرى، أصدرت الحركة الديموقراطية منشوراً آخر، تعلن فيه اعتراضها على الزج بالجيش المصرى فى تلك الحرب، وتحذر من عواقبها، وتوضح أن تلك الحرب تصب فى مصلحة المخطط الصهيونى الاستعمارى الرامى إلى إجهاض القضية الفلسطينية، وإجهاض مشروع التقسيم، ويعطى للصهيونية الفرصة فى اغتصاب الأراضى المخصصة للفلسطينيين لإقامة دولتهم عليها، كما يضع مصر والدول العربية الأخرى أكثر وأكثر، تحت الهيمنة الأمريكية والبريطانية عليها.
 ورغم أن الأحكام العرفية كانت قد أعلنت، وأن حملات القبض والاعتقال كانت تتوالى على الشيوعيين، وعلى المنتمين للحركة الديموقراطية بصفة خاصة، لأنها كانت التنظيم الشيوعى المعارض لدخول الحرب، رغم ذلك، فقد قمنا بتوزيع تلك المنشورات فى مواجهة المخاطر الجسيمة التى كانت تتمثل فى ذلك، لا من جانب البوليس فحسب، بل أيضاً من جانب الإخوان المسلمين وغريهم من المؤيدين لتلك الحرب، ومن جانب بعض الجماهير المضللة بتلك الاتجاهات.
وجرت وقائع الحرب فى ظل معطيات كانت لا تعطى أملاً فى تحقيق أى انتصار، وتمثلت تلك المعطيات فى: الجيش المصرى كان فى حالة سيئة، فقد كان سلاحة ضعيفاً، وتريبه كذلك، وانتهزت عناصر الفساد الماثلة فى السراى وأعوانها الفرصة لتحقيق ثراء فاحش عن طريق ممارسة السمسرة فى صفقات أسلحة تالفة من مخلفات الحرب العالمية الثانية، من إيطاليا، ومن بدو الصحراء الغربية، كانت معظمها تصيب من يستعملونها بالقتل والجروح، دون أن تسبب للعدو أذى يذكر. مما سمى بعد ذلك بفضيحة الأسلحة الفاسدة. ولم تكن حالة الجيوش العربية الأخرى أحسن حالاً من الجيش المصرى، بل كان ينقصها ما لدى الجيش المصرى من المقومات اللازمة لتحقيق الانتصار. كذلك فقد عهد الأمير عبدالله، أمير شرق الأردن بمهمة القيادة العامة للجيوش العربية، وكان معنى ذلك، ترك هذه القيادة للجنرال الإنجليزى جلوب، ليتحكم فى الموقف كله لصالح بريطانيا، أى لصالح إسرائيل.
ودارت رحى المهزلة التى سميت "بحرب فلسطين"، ورغم بسالة من خاضوها من المصريين، والعرب، والفلسطينيين، ورغم الدماء العربية الزكية التى أريقت فيها، فقد انتهت إلى الهزيمة المحققة، وتساءل المتسائلون:
هل كان ما حدث هو مجرد خطأ فى الحساب، أم كان غفلة وغباء، أم كان أكبر من ذلك. وفى رأيى أنه كان كل تلك الأسباب مجتمعة، وكان محصلة للحالة المصرية، والحالة العربية فى ذلك الحين.
-بعد حصار الفالوجا، الذى حوصرت فيه قوات مصرية تشكل قسماً مهماً من الجيش المصرى الذى دخل فلسطين، والذى استمر ثلاثة أشهر، قبلت مصر وقف إطلاق النار فى أوائل سنة 1949.
-وبعد المفاوضات التى أجريت بين الجانبين بوساطة من الأمم المتحدة فى رودس، عقدت الهدنة فى 1949/2/24.
وعاد الجيش المصرى مطأطأ الرأس، مهدر الكرامة، ليبحث بعد ذلك عن أسباب هزيمتة وإهانته، وليحاول تصفية الحساب مع من خذلوه وأهانوه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق