ذكريات شاعر مناضل: 45- ضاقت فلما استحكمت

45- ضاقت فلما استحكمت


لم تبق وزارة على ماهر باشا فى الحكم إلا ستة عشر يوماً فقط، تمكن فيها الرجل -الملقب "برجل المهمات الصعبة"- من توجيه ضربة قاصمة إلى الحركة الوطنية، تمثلت فى تصفية الحركة الفدائية فى منطقة القنال، بالاعتماد على قوات الاحتلال البريطانية بالدرجة الأولى. ثم على قوات الأمن المصرية، كما تمثلت فى مطاردة وتشتيت الطلائع الوطنية للشعب من مختلف الاتجاهات، وفتح أبواب السجون والمعتقلات لإلقائهم فيها، وفى غلق ومصادرة الصحف الوطنية. وكان نصيب الحركة الديموقراطية للتحرر الوطنى -حدتو- من تلك الضربة جسيماً، فأغلقت جريدة الملايين، لسان حال الحركة والتى كان يملكها أحمد صادق عزام، المحامى التقدمى، ويرأس تحريرها الكاتب الزميل إبراهيم عبد الحليم، كما أغلقت صحيفة الكاتب -لسان حال حركة أنصار السلام، التى كان يصدرها الأستاذ يوسف حلمى، ويرأس تحريرها الزميل سعد كامل، كما ألقى القبض على جمع كبير من أعضاء وقيادات حدتو، ومن أعضاء حركة السلام، وألقى بهؤلاء وهؤلاء جميعاً فى السجون والمعتقلات. وبذلك ظللت أنا -ومن بقى من الزملاء- خارج الأسوار، نحاول وصل ما انقطع من خطوط اتصالنا، ومن إعادة تشكيل هيئات تنظيمنا. وتمكنت -بعد محاولات وجهود- من إقامة اتصال مع بقايا قسم حى شبرا، لنواصل نشاطنا فى إصدار النشرات المنددة بالمؤامرة التى شارك فى نسجها الاستعمار والسراى والبوليس السياسى، مؤامرة حريق القاهرة، والإطاحة بحزب الوفد من السلطة، وإعادة فرض الأحكام العرفية على البلاد. وكانت القوى المعادية، قد ملأت شوارع القاهرة بملصقات ملونة حسنة الطباعة، كتب عليها تحت رسم الألسنة اللهيب عبارة: الشيوعيون فعلوا هذا. ورداً على ذلك، انخرط زملاؤنا فى توزيع نشرات، وكتابة شعارات على الجدار. تقول: الاستعمار والرجعية أحرقوا القاهرة.
 كانت فترة حكم على ماهر، فترة كئيبة سوداء، ولكنها لم تطل كثيراً، إذ ما لبث أن اضطر إلى الاستقالة، لتفاقم الصراعات الداخلية بينه وبين رجال القصر، وكلف نجيب الهلالى باشا بتشكيل وزارة جديدة من العناصر الموالية للإنجليز والقصر، لمواصلة أداء الدور الذى كان على ماهر يؤديه.
لدأ الهلالى عهده بأن أعلن ما يسمى بسياسة "التطهير"، تحت شعار "التطهير قبل التحرير"، وكان ذلك يعنى: ملاحقة انحرافات عهد حكومة الوفد، والمحاسبة على السرقات ووقائع الرشوة والمحسوبية واستغلال النفوذ والاستثناءات، وإرجاء عمل أى شئ فى القضية الوطنية، بحجة أنها لا تحتاج منه إلا أسبوعاً واحداً يتم فيه التوقيع على وثائق الاتفاق بين مصر وبريطانيا، على جميع المسائل المعلقة. أى أن كل شئ معد متفق عليه سلفاً، وأن الصفقة جاهزة للتنفيذ. ووقع على عاتق البقية المتبقية من القووى الوطنية والشيوعية الأخرى، مقاومة هذه المؤامرة وكشف أبعادها. وكانت الوسيلة المتاحة أمامنا فى ذلك الأمر، لا تعدو كتابة وطباعة المنشورات، وتوزيعها فى الجامعات، والمصانع، وفى الشوارع والطرقات.
...
كنت أنتظر، بعد أن نلت شهادة الليسانس، وتقدمت بها إلى جهة عملى، أن تقوم الوزارة -وزارة المعارف- بتعديل وضعى الوظيفى، بنقلى إلى وظيفة تتفق مع مؤهلى الجديد، ومن ثم تعديل درجتى ومرتبى، وذلك وفقاً للقانون، وللقواعد الإدارية المقررة فى هذا الشأن، وقد تقدمت إلى الوزارة بطلب كتابى، أحيل إليها بتوقيع الدكتور عاطف البرقوقى -ناظر المدرسة، عن طريق المنطقة التعليمية الشمالية. وكانت أجابتى إلى هذا الطلب، أمراً مفروغاً منه، وليس إلا مسألة وقت. ولكن الوقت بدأ يمر دون أن أتلقى رداً على طلبى، وقيل لى: الصبر طيب. ويم الحكومة بسنة كما يقول المثل. ومع ذلك فقد واصلت العمل كمعاون بمدرسة شبرا الثانوية، بنفس الهمة والحماس، خاصة وأننى لاحظت أن الناظر، ووكيلى المدرسة، وسائر المدرسين كانوا يعاملوننى بمزيد من الاحترام، نظراً لأننى أصبحت أحمل مؤهلاً عالياً.
 وكنت قد قرأت إعلاناً فى الصحف من مجلس الدولة. عن مسابقة سوف يقوم بإجراءها -للخريجين الجدد- من كليات الحقوق- لاختيار بعضهم للتعيين به بوظيفة "نائب"، وهى أولى درجات السلم القضائى بالمجلس. وتقدمت بطلب وبصورة من المستندات الملطوبة، وأعلنت بتحديد يوم للامتحان، وذهبت فى الموعد المحدد، وأديت الامتحان التحريرى، وكان فى مادة "القانون الإدارى". وبعدها بأسبوع واحد، تلقيت كتاباً من المجلس، بتوقيع رئيسه الدكتور عبد الرازق السنهورى باشا، يهنأنى فيه بالنجاح فى ذلك الامتحان، ويخطرنى فيه بموعد الامتحان الثانى، فى مادة "القانون المدنى"، بعد أسبوع آخر.
وأخذت أستعد للامتحان. ولكننى قبل حلول ميعاده بيومين، شعرت فجأة بألم فى أسفل عنقى، حولت أن أتجاهلة، ولكنه بدأ يزداد، مما اضطرنى إلى الذهاب إلى الطبيب، الدكتور سيد عفت، كبير أطباء الأمراض الباطنة فى ذلك الوقت، الذى كشف على، ثم أمرنى بالتوجه إلى الدكتور عبدالله الكاتب، الجراح الشهير. وذهبت إلى الكاتب فى نفس اليوم، وبعد أن وقع الكسف على، قال لى: عندك ورم فى الغدة الدرقية، وتحتاج إلى عملية جراحية عاجلة. سأكتب لك خطاباً للدخول إلى مستشفى الكاتب بالعجوزة، وتذهب إليها الليلة، وصباح باكر سأجرى لك العملية. أخبرته بظروفى، وطلبت إرجاء العملية إلى ما بعد امتحانى بمجلس الدولة، ولكنه رفض طلبى بحسم، وأبلغنى أن الأمر لا يحتمل الإرجاء.
وفعلاً. دخلت ليلتها إلى المستشفى، وأجريت لى العملية فى اليوم التالى، وبقيت بالمستشفى عشرة أيام، ضاع خلالها الامتحان. فأدركت أن هذه إرادة الله الذى لا راد لقضائه.
كان أخى الأصغر، محمد -أخى لوالدى- قد زارنى فى المستشفى، وكان قد تزوج حديثاً، ويقيم هو وزوجته "آمال" ابنة عمتنا منيرة، فى بيت والدنا "السراية"، ودعانى وألح على فى الدعوة، أن أذهب لقضاء بضعة أيام معه هناك، بعد شفائى من العملية، للراحة والنقاهة. وكنت بعد الخروج من المستشفى مازلت فى أجازة مرضية، وتحت الملاحظة من جانب الدكتور الكاتب، ولكننى كنت أشعر بالتعب والإرهاق، ولا أطيق البقاء فى جو القاهرة، وأشتاق فعلاً إلى جو الريف الهادئ، فشددت الرحال إلى الزاوية.
بعد أن استرحت قليلاً فى السراية، ذهبت لزيارة عمتى "هانم"، التى رحبت بى، وهنأتنى على الشفاء، وعلى حصولى على "الشهادة الكبيرة" ثم سألتنى، عما أنوى أن أفعله. أخبرتها بوضعى، وبأنه على أن انتظر حتى تقوم الحكومة بتعديل وضعى إلى وظيفة أفضل، وبأنه على أن أنتظر حتى تقوم الحكومة بتعديل وضعى إلى وظيفة أفضل، أو إذا لم أشأ ذلك فإن على أن أسير فى طريق آخر. فسألتنى: طريق آخر.. زى أيه؟ فقلت لها: زى المحاماه. فابتسمت السيدة الأمية، وقالت بحكمتها الفطرية: يا ابنى الحرية مافيش أحسن منها.
وكان معنا -شيقيقى محمد- وبعض أقاربنا وقريبتنا الآخرين- ورأيتهم جميعاً يؤيدون هذا الاتجاه. وعندما أخبرتهم بأننى لا أملك المال اللازم للسير فى هذا الطريق، سألتنى عمتى هانم: قد إيه المبلغ اللى يلزمك؟. فقلت لها: ميت جنية، بادرت، بشهامتها المعروفة، وقالت لى: سأبيع فداناً من الأرض، وباكر يكون معك الميت جنية.
انصرفت من عندها وأنا مازلت متردداً. وما أن خرجنا أنا وأخى محمد، حتى رأيته متحمساً جداً للفكرة. وتوجهنا أنا وهو إلى بندر الواسطى، وذهبنا لزيارة صديق لنا هناك، هو محمد حسن، الذى كان يعمل فى تجارة القطن، فرحب بى وهنأنى على النجاح والشفاء، وقادنا الحديث إلى مسألة الوظيفة أو المحامه، فرأيته ينبرى لتفضيل اختيار المحاماه، وتسخيف الوظيفة، وكان له أسلوب ظريف فى شرح أفكاره، فقال لى: الوظيفة يعنى هاتكتب عقد مع الفقر طول عمرك. إنما الحرية مفيش أحسن منها. وهى نفس العبارة التى قالتها لى عمتى "هانم". ونحن جالسون، دخل ضيف إلى مجلسنا، وقدمه إلينا محمد أبو حسن، بأنه: راغب أفندى -أحسن وكيل محامى فى الواسطى، وقريب الأستاذ يواقيم غبريال المحامى الكبير فى مصر، وبعد أن جلس راغب أفندى- إذا محمد حسن يفتح له الموضوع، وإذا به يندفع متحمساً لتأييد الفكرة، ويقول إنه مستعد للعمل معى بدون أى شروط، وأضاف: إنه من حسن الحظ إن هناك مكتباً فى المدينة قد خلا هذه الأيام، لمحام اسمه الأستاذ جرجس عبد الله، وأنه يمكننا الحصول عليه من الآن، لأن صاحبة قد عين قاضياً.
 وشعرت أن القدر أخذ يلعب بأنامله الذهبية، لينسج حولى خيوطاً لشبكة لا فرار منها.
وفى اليوم التالى، أعطتنى عمتى هانم المائة جنية، وأعطينا للأستاذ جرجس عبدالله خمسين جنيهاً، مقابل تنازله لى عن شقة المكتب، بأثاثها، وبالقضايا القليلة التى كانت فيها، وبقيت معى خمسون جنيهاً لأدفعها لنقابة المحامين رسوم القيد فى جدول المحامين. وحدث ذلك خلال أيام، عدت فيها إلى القاهرة، فقدمت استقالتى من الوظيفة، وشكرت الدكتور عاطف البرقوقى وكل من لقيته من المدرسين والموظفين والفراشين، ودفعت رسوم القيد بالنقابة، وأديت اليمين القانونية أمام محكمة الاستئناف، وأصبحت محامياً. وتعجبت للسرعة التى تم بها التحول الكبير فى مجرى حياتى، وكنت أردد المقولة الصوفية التى تقول: علامة الإذن التيسير.
ثم قابلت الأستاذ على الشلقانى، المحامى الكبير، وزميلى فى حدتو، وفى حركة السلام، وأخبرته بما كان من أمرى، واتفقت معه على أن التحق بمكتبه فى القاهرة -لفترة انتقالية- أتلقى فيها تدريباً علمياً، أتفرغ بعدها للعمل بمكتبى بالواسطى. وقد كان.
بدأت فى استكمال ما يلزم لمكتب الواسطى، من أثاث، ومطبوعات، ولافتات وعينت كاتباً آخر مع راغب أفندى، اسمه سيدهم أفندى -وفراشاً للمكتب، ثم بدأت فى حضور بعض الجلسات بمحكمة الواسطى فى القضايا المتخلفة من عهد الأستاذ جرجس عبدالله، كما بدأت أحضر أمام النيابة فى بعض تحقيقات جديدة.
وكنت أقيم فى تلك الأثناء مع شقيقى محمد بالزاوية -فى السراية.
كما كنت أقيم بالقاهرة -بمنزل شقيقتى بهيجة- بقية أيام الأسبوع، وأذهب إلى مكتب الشلقانى مساء، ثم أحضر عنه فى بعض القضايا بمحاكم القاهرة والجيزة. واشتريت روباً للمحاماه، وما هى إلا أسابيع، حتى أصبحت وكأننى ولدت محامياً.
ومع ذلك فقد استمرت صلتى بالتنظيم، واجتماعاتى بلجنة قسم حى شبرا، مع الزميل فتح الله -مسئول القسم، ولكنى تلقيت تكليفاً بأن أكون مسئولاً عن نشاط المنظمة بمديرية الفيوم، فذهبت إلى هناك، والتقيت بالزميل محمود مرسى، المسئول عن النشاط بها، واجتمعت معه ومع زملائه الآخرين بلجنة الفيوم -فى عدة لقاءات.
وفى تلك الأثناء كان نجيب الهلالى فد تقدم باستقالته من الوزارة، ضيقاً بألاعيب الملك ورجاله، وقد قدمت استقالته إلى الملك وهو جالس على مائدة القمار، فقهقه الملك عاليا وقال: هو فاكر نفسه راجل ويستقيل؟ ثم وقع بقبول الاستقالة فى الحال. وتولى حسين سرى الوزارة، وظل بها 17 يوماً ثم استقال، وكلف الهلالى بالوزارة مرة أخرى، فقبل التكليف فوراً.
...
كان يوسف صديق قد عاد من السودان منذ عدة شهور، واستأجر شقة جديدة فى حى شبرا، خلف سينما أمير، وما أن بدأ يستقر فيها، حتى نقل إلى العريش. فذهب إلى هناك مع زوجته -شقيقتى "عليه"، وابنه حسين، وابنته الصغيرة نعمت.
وكنت معتاداً على أن ألقاه كلما جاء إلى القاهرة لأمر ما، ثم علمت فى منتصف شهر يولية 1952 أنه جاء مع أسرته إلى القاهرة، وأنه يستعد للرحيل مرة أخرى إلى السودان. وأخبرنى فى ذلك اللقاء بأمر انضمامه إلى تنظيم ثورى بالجيش يسمى "تنظيم الضباط الأحرار"، وقال لى إن ذلك قد تم بمعرفة حدتو وبموافقتها.
وفى يوم 22 يولية 1952 كنت قد حضرت من الواسطى إلى منزل شقيقتى بهيجة، وأثناء تواجدى هناك، فوجئت بتوفيق سعيد الأزهرى، ابن شقيقتى سعاد يحضر إلى برسالة من يوسف صديق، يطلب منى فيها الحضور لمقابلته بشقته فى شبرا لأمر هام.
ذهبت للقاء يوسف على الفور، فوصلت إليه فى حوالى الساعة الخامسة بعد الظهر، ووجدته فى حالة صحية سيئة، وأخبرنى أنه يعانى من نزيف فى رئته اليسرى، ويتناول علاجاً لوقفه. ثم قال لى: بس مش ده الموضوع المهم اللى أنا بعت لك علشانه، أنا عايز أبلغك إننا أنا والضباط الأحرار -سنقوم بانقلاب عسكرى الليلة. وحبيت أشوفك علشان أبلغك، وعلشان تعمل حسابك تعمل اللازم إذا حصل لى أى حاجة، وتكون أنت المسئول عن الولاد، هنا، وهناك فى البيت التانى. فوجئت بهذا الأمر الخطير، ولم أكن قد سمعت بهذا الأمر من قبل، وأبديت دهشتى وانزعاجى ولكنه طمأننى بأن قيادة حدتو تعلم به، وتوافق عليه. ومع ذلك فقد سألته مرة أخرى: وهل أنت واثق من هذا التنظيم، ومن هؤلاء الضباط؟. هل أنت واثق من وطنيتهم ورجولتهم؟ وكنت، ومعى كل الشيوعيين فى ذلك الوقت نستريب فى أمر الانقلابات العسكرية، خاصة بعد ما علمناه من امرها فى سوريا وفى أمريكا اللاتينية، وما عرف عنها من أنها ألعوبة فى يد المخابرات الأمريكية. ولكن يوسف بدا مطمئناً من هذه الناحية، وقال لى: أنا لا أعرفهم كلهم، أنا أعرف بعضهم فقط، وهم "أشخاص أكثر منى وطنية وإخلاصاً". وسألته: ومن رئيس هذه الحركة؟ فقال لى: أنت تعرفه، إنه اللواء محمد نجيب.
ورغم قلقى من الانقلاب العسكرى، سواء فى حد ذاته، أو فى ما يحمله من خطر على يوسف، وخصوصاً وهو فى حالة صحية غير مطمئنة، إلا أنه بدأ يداخلنى بعض الشعور بالطمأنينة النسبية، وكنت قد رأيت اللواء محمد نجيب فى زيارة لى ليوسف بمنزله الآخر بحلميةالزيتون، وأحسست نحوه بنوع من الراحة، ولكنى وقتها لم أكن أعرف شيئاً عن الانقلاب العسكرى أصلاً ولا عن دوره فى انتخابات نادى الضباط. فأسلمت أمرى وأمر يوسف إلى الله، وتمنيت له ولزملائه النجاة والتوفيق.
 وطلب منى يوسف أن أصاحبه، وخرج وأنا معه، إلى عيادة طبيب اسمه عبد العزيز الشال، فى دوران شبرا، قالى لى إنه يتولى علاجه من النزيف، وتركنى أمام العمارة التى توجد بها العيادة، ودخل إليها وحده، ثم عاد وأخبرنى أن ذلك الطبيب، قد أعطاه حقنة لوقف النزيف.
ثم ركبنا أتوبيس رقم 8 من دوران شبرا إلى العتبة، وهناك نزلنا وأخذنا أوتوبيس رقم 10 المتجه إلى مصر الجديدة، ونزلنا فى محطة روكسى، بأول مصر الجديدة،  وكنت خلال ذلك الطريق أعجب من هذا الانقلاب العسكرى، الذى يتوجه الضباط القائمون به إلى غايتهم وهم يركبون الأتوبيسات.
نزلنا فى محطة روكسى، ووقفنا على الرصيف بتلك المحطة بضعة دقائق، حتى حضرت سيارة عسكرية من نوع البيك أب، يقودها جندى، ويجلس إلى جانبه ضابط. ووقفت السيارة، ونزل منها الضابط، وتقدم نحو يوسف محيياً، وسلم يوسف على، ثم انطلق هو والضابط إلى السيارة، التى أخذتهما وسارت، إلى المجهول.
وعدت أنا بالأتوبيس المقابل، وأنا فى حالة تشبه الذهول.
ذهبت إلى مكتب الشلقانى بشارع عدلى بوسط القاهرة، ووجدته هناك هو وكل الزملاء المحامين بالمكتب أحمد الشلقانى (شقيقه)، وعلى عبد البارى، وطه الحلبى، وأبو السعود الصدر. جلست معهم نتبادل أحاديث عابرة، ثم أعطانى على دوسيه القضايا، وقال لى إنها قضية قتل خطأ بمحكمة كفر عمار -القريبة من الواسطى- بتاعتك يا عم، والمتهم فيها سائق أوتوبيس، وشركة الأتوبيس مدعى عليها بالحق المدنى، وعليك الحضور عن الشركة (وكنت أعلم أن المكتب وكيل عن تلك الشركة فى قضاياها).
أخذت دوسيه القضية، ولكن بدا على -على خلاف العادة- شئ من الترد والتململ، فسألنى الأستاذ على: إيه.. فيه مانع؟ فأجبته: ياريت ياخدها زميل تانى. فسألنى فى شئ من الارتياب: ليه.. عندك ميعاد غرامى بكره؟ فأجبته بالنفى، ولكنى لم أقدم له مبرراً آخر، واضطررت للقبول دون كلام.
عدت إلى منزل شقيقتى بهيجة، فقضيت الليلة هناك، وفى الصباح، ارتديت ملابس، ووجدتهم جالسين إلى مائدة الأفطار، وكان الراديو معلقاً على رف بالصالة، حيث مائدة الطعام وكانت الساعة السابعة والنصف صباحاً، فقمت بتشغيل الراديو، إلى أن ضبطته على محطة القاهرة: وكانت هناك بعض الموسيقى تذاع، ثم سمعت صوت المذيع يقول: هنا القاهرة، وأرهفت السمع، فإذا به يقول بصوت واضح الجدية:
بيان من اللواء أركان حرب محمد نجيب القائد العام للقوات المسلحة إلى الشعب المصرى: بنى وطنى:
اجتازت مصر فترة عصيبة فى تاريخها الأخير من الرشوة والفساد، وعدم استقرار الحكم، وقد كان لكل هذه العوامل تأثير كبير على الجيش، وتسبب المرتشون، والمغرضون فى هزيمتنا فى حرب فلسطين، وأما فترة ما بعد هذه الحرب.. إلخ.
 واستمعنا إلى البيان، وقلت وأنا لا أكاد أصدق ما سمعت: الحمدلله الحمدلله. وأبدى الجميع دهشتهم وعدم فهمهم لما يحدث، فقمت بإيضاح الموقف لهم على قدر ما أستطيع. ثم أخذت حقيبة أوراقى -وبها دوسيه القضية، وروب المحاماه، ونزلت، فى طريقى إلى كفر عمار، لحضور الجلسة، ولأبدأ مع مصر، مرحلة جديدة من مراحل حياتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق