ذكريات شاعر مناضل: 36- الوحدة مع اسكرا

36- الوحدة مع اسكرا


كان العام الدراسى لسنة 46 - 47 قد بدأ فى موعده المقرر فى أول أكتوبر، ولكن المظاهرات كانت تعم الجامعة وكل الجامعات والمعاهد والمدارس، كما تعم الكثير من المصانع والمناطق الصناعية فى البلاد، احتجاجاً على المفاوضات الجارية. وكان الشعار الغالب على تلك المظاهرات: بيفن بيفن، يسقط صدقى.. يسقط بيفن، يسقط صدقى عدو الشعب. وكانت اللجنة الوطنية للعمال والطلبة هى التى تنظم وتقود معظم المظاهرات، وكان الشيوعيون فى الجامعة، واليساريون فيها بالتنسيق بينهم، وبالتنسيق مع الوفديين.
وفى 1946/11/13 -عيد الجهاد الوطنى- ألقى النحاس باشا- زعيم حزب الوفد. خطاباً تاريخياً هاجم فيه مشروع المعاهدة، وأعلن رفض الوفد لها، وزادت حدة المظاهرات الشعبية فى كل مكان.
وفى 6 ديسمبر 1946 قدم صدقى استقالته. وتم قبول الاستقالة، وكلف النقراشى بتشكيل الوزرة، فشكلها من أحزاب الأقلية، واعلن اتجاهه إلى استئناف المفاوضات. واستمرت المظاهرات والإضرابات رداً على هذا الإعلان، ورفضاً لأى مفاوضات مع بريطانيا.
وكنا -كالمعتاد- نذهب إلى الجامعة لا لتلقى المحاضرات، بل للمشاركة فى العمل السياسى.
...
بعد الإفراج عن كمال عبد الحليم بعد حملة صدقى، اجتمعنا معه -أنا والمجموعة مرتين أو ثلاث مرات، أخبرنا بعدها بأنه سوف يتوقف عن العمل معنا، وأننى سأكون أنا المئوول عن المجموعة. وأبلغنى بأننى سأحضر اجتماعات لجنة القسم- وهى المستوى الأعلى- بصفتى المسئول عن مجموعتنا، ومعنى هذا أننى قد صعدت إلى عضوية اللجنة الأعلى، وهى قسم طلاب الجامعة. وتم توصيلى بتلك اللجنة، وبدأت أحضر اجتماعاتها، بالإضافة لاجتماعات لجنتى الأولى، لجنة كلية الحقوق.
كان مسئول لجنة القسم هو أمين (مختار العطار)، وكان أعضاؤها هم: صبحى زغلول، ومبارك عبد فضل، وأنا. وزميل آخر يدعى فتح الله. وكانت الاجتماعات تتم برئاسة أمين، وفى منزل صبحى زغلول بجزيرة بدران بشبرا. وكانت الاجتماعات تجرى على النحو المعروف، غير أن جدول الأعمال كان يتضمن بنداً جديداً هو: عرض النشاط، ومنه عرض اجتماعات لجان المستوى الأدنى، واستعراض محاضر اجتماعاتها، والبت فى بعض المسائل التى وردت فى تلك المحاضر والتى تحتاج إلى موافقة المستوى الأعلى. أما محاضر اجتماعات لجنة القسم، فكان يرفعها أمين -مسئول القسم إلى المستوى الأعلى، وهو لجنة المنطقة.
واستمر الوضع بالنسبة لى على هذا النحو عدة شهور، إلى أن حدث تغيير كبير فى شكل التنظيم، بعد أن تمت الوحدة مع منظمة "اسكرا" فى مايو سنة 1947.
كنت قد كتبت مقالين لجريدة الوعى، وهى النشرة الداخلية -السرية- التى يصدرها التنظيم لأعضائه، حاملة طرح المساهمات الفكرية والسياسية للأعضاء، وتبادل الخبرات والآراء بينهم. أحد المقالين كان عن موضوع "الجبهة الوطنية" عرضت فيه رأيى فى أهمية قيام تلك الجبهة، وأهمية دورنا فى إقامتها، وعن توافر الشروط الملائمة لنجاح مهمتنا فى بنائها، وكان ذلك موضوعاً يشغل الكثيرين من الزملاء، كما يشغل بال قيادة التنظيم. أما موضوع المقال الثانى فكان عن أهمية العمل بين الفلاحين، وعن الإمكانيات الثورية الكبيرة وسطهم، وخاصة الفقراء منهم. وقد نشر المقالان فى عددين متتاليين من المجلة، التى كانت تصدر كل شهر. بعد ذلك أبلغنى "أمين" أن المقالين قد أثارا رد فعل جيد لدى قيادة التنظيم، وأن الزميل "أبو حجاج" وهو "هنرى كورييل"، المسئول السياسى للتنظيم يرغب فى مقابلتى، لمناقشتى فيما جاء بهما. وحدد لى موعداً لمقابلة "أبو حجاج".
قابلته لأول مرة، ولم أكن قد التقيت به من قبل، غير أنى كنت قد عرفته -شأنى فى ذلك شأن الكثيرين- مما نشر عنه فى الصحف، بمناسبة اعتقاله فى حملة صدقى، ومن الصور التى نشرت له فى تلك المناسبة، صورة وهو يرتدى القميص والشورت، وينتعل صندلاً بسيطاً، ومع الصور كانت هناك عناوين ومانشتات كبيرة عن القبض على زعيم الشيوعية فى مصر، المليونير اليهودى هنرى كورييل، إلى آخر ذلك المهرجان الذى صاحب حملة صدقى.
كان ميعاد لقائى به غريباً، فكان على أن أقف لانتظاره على الرصيف الموازى لسينما بارادى "الصيفية" فى شارع عبد العزيز، فى مواجهة محل عمر أفندى، وسوف يحضر هو فى الوقت الفلانى، ليلقانى، وعندما سألت "أمين" كيف سيعرفنى وأعرفه؟ أجابنى: لا تقلق، فسوف تتعارفان.
فى الموعد المحدد كنت واقفاً فى المكان المتفق عليه، وأنا لا أعرف من أين سيأتى الرفيق "أبو حجاج"، ولم تطل حيرتى، كما لم يطل انتظارى، ففى الساعة المحددة بالضبط، لا قبل دقيقة منها، ولا بعد دقيقة، توقفت سيارة بجوارى مباشرة، ورأيت "أبو حجاج" يقودها. ثم فتح زجاج النافذة اليمنى الأمامية، ونادانى بصوت خفيض: بشار؟ (اسمى الحركى)، فلما قلت له: أيوه، أشار لى بأن أركب إلى جانبه، ففعلت، وانطلق بى مبتعداً فى الطريق. وكانت تلك هى سيارته الستروين التى اشتهرت بعد صورها التى نشرت فى الصحف، بمناسبة الحملة، وكانت شوارع القاهرة هادئة فى تلك السنوات، خاصة فى ساعات المساء.
كان أبو حجاج رجلاً نحيلاً يميل إلى الطول، وبجسمه انحناءة بسيطة عند الكتفين، وكان غزير الشعر أسوده وسيم القسمات، يرتدى نظارة سميكة العدسات.
مضى بى فى السيارة إلى أن توقف فى مكان هادئ على شاطئ النيل فى منطقة الجزيرة، ونزلنا، وجلسنا على السور الحجرى المنخفض المطل على النيل. ثم بدأ حيثه.
أعرب لى عن سروره لرؤيتى. وعن إعجابه بما جاء بالمقالين، ثم بدأ يناقشنى فيهما، الواحد تلو الآخر. وسألنى عن مدى معرفتى بأحوال الفلاحين، فقلت له إننى من عائلة فلاحية، وقد نشأت بين الفلاحين وعشت، ومازلت أعيش بينهم. ثم انتقل إلى موضوع الجبهة، فقال لى إنه موضع فى غاية الأهمية بالنسبة للشيوعيين، وبالنسبة لتنظيمنا بصفة خاصة. ثم سألنى عن الأحزاب والمنظمات التى اقترح الاتصال بها لدعوتها إلى الجبهة، وعما إذا كنت أعرف أحداً منها. وأجبته عن كل ذلك. وأخيراً انتقل إلى سؤالى عن أحوالى الخصية، وعن دراستى، وعن قراءاتى، وعن الشعر الذى أكتبه، وقالى لى إنه قرأ بعض أشعارى فى مجلة أم درمان، وأنها أعجبته، كما أعجبته قصيدتى التى نشرت فى مجلة الفجر الجديد. وافترقنا، على أن يكون بيننا لقاء آخر، فى نفس المكان، ونفس الزمان، الأسبوع التالى.
وقد كان، والتقينا. ومضى بى فى السيارة الستروين، إلى مكان آخر على النيل، فى الركن الشمالى من كورنيش الزمالك، ودار الحديث فى موضوعى الجبهة، والعمل مع الفلاحين، وأشار لى إلى أن العمل مع الفلاحين فى الريف، يحتاج إلى محترفين متفرغين للعمل الثورى، ثم سألنى عما إذا كنت على استعداد لذلك، أى هل أقبل أن أكون محترفاً ثورياً. فاعتذرت له بظروفى كطالب، وإننى أود أولاً أن أنهى دراستى، فأقرنى على ذلك، وقال لى إن ذلك أيضاً شئ مهم، وأنه مفيد للقضية أيضاً. ثم سألنى هل تحب أن تنضم إلى مكتب الدعاية الخاص بالمنطقة. فوافقت. وافترقنا على ذلك، على أن يتم الاتصال بيننا مستقبلاً، عن طريق أمين.
وفى أبريل من عام 1947 حدث أمران هامان. الأول هو صدور مجلة الجماهير التى كانت تصدرها منظمة "أسكرا"، وقد صدرت أولاً كمجلة نصف شهرية، ثم أصبحت أسبوعية بعد قليل، وكان يشارك فى تحريرها عدد كبير من العناصر اليسارية من مختلف المنظمات ومن غير المنتمين إلى أى تنظيم كما كان يرأس تحريرها الشهيد شهدى عطية، وقد شاركت أنا فى ذلك بنشر بعض قصائدى بها، وكانت أولاها هى قصيدة هوان، التى سبق الحديث عنها، كما شارك كمال عبد الحليم فيها بنشر العديد من قصائده. والأمر الثانى، هو أننا بدأنا نعرف بأن هناك محادثات بين تنظيمنا "الحركة المصرية للتحرر الوطنى" وتنظيم أسكرا من أجل الوحدة. وكان المفهوم أن إتمام هذه الوحدة يقتضى وقتاً يتم خلاله: الاتفاق على المبادئ الفكرية والسياسية اللازمة لقيام الوحدة، ويتم خلاله قدر كافى من التنسيق الكفاحى بين التنظيمين، يضمن تعارف أعضاء كل منهما بأعضاء الآخر، من خلال العمل الكفاحى المشترك، وهو مايضمن مستقبلاً وحدة الفكر والإرداة والعمل. فى التنظيم الموحد. ولكن تم الاتفاق على إنجاز الوحدة التنظيمية سريعاً، وذلك فى شهر مايو سنة 1947، وبا لى، ولكثير من الزملاء، أن هذه السرعة جاءت تحت ضغط القواعد على القيادتين، وخاصة على قيادة "أسكرا" كنتيجة مباشرة للتعاون المتزايد بين تلك القواعد من الفريقين فى النشاط الجماهيرى -وخاصة فى المجال الطلابى، وما أحدثه ذلك من شعور بأهمية الوحدة، وسعياً إلى اكتساب مزيد من القوة فى ذلك العمل الجماهيرى.
وكنا نشعر بشئ من الخوف من هذه العجلة فى إنجاز الوحدة التنظيمية قبل الاتفاق الواضح على "المقومات"، أى على الأسس السياسية والتنظيمية لتلك الواحدة، أخذا بقول لينين: "لكى نتحد، ومن أجل أن نتحد، يجب أن نقوم بتحديد الخطوط الفاصلة".
إذن فقد أعلنت الوحدة بين التنظيمين: "الحركة المصرية للتحرر الوطنى، وإسكرا"، وقام التنظيم الموحد، باسم: "الحركة الديموقراطية للتحرر الوطنى". اختصاراً: "حدتو". ورغم كل شئ. فقد استقبلنا إعلان الوحدة بالترحيب والفرحة، والأمل. وبدأ العمل السريع على تحقيقها فى ثلاثة محاور: العمل الجماهيرى فى المجال الطلابى والعمالى، تحقيق الدمج التنظيمى، استكمال وضع المقومات الفكرية والسياسية.
وفى سبيل ذلك شكلت لجان مشتركة للدمج التنظيمى، ولتوحيد العمل فى المجالين العمالى والطلابى، وتم تكليف الرفيق "يونس"- هنرى كورييل الذى اختير مسئولاً سياسياً للتنظيم الموحد، بكتابة مشروع تقرير بالخط السياسى للحزب.
وسرنا فى تحقيق عملية الدمج التنظيمى، متغلبين على الصعوبات الناشئة عن اختلاف التكوين النظرى والثقافى والنضالى بين كوادر التنظيميين السابقين. وشعرت كوادر "الحركة المصرية للتحرر الوطنى سابقاً". بأن كوادر "اسكرا"، سابقاً، هم أساساً، أشخاص أثرياء، أو "بورجوازيون" لم يصهرهم النضال، ومازالوا فى حاجة إلى إعادة تكوينهم نضالياً، فى حين كانت عناصر "اسكرا" تنظر إلى كوادر "الحركة المصرية" باعتبارهم أشخاصاً عمليين، تنقصهم الثقافة، والتكوين النظرى.
وعلى الجبهة العمالية، لم تكن هناك صعوبات تذكر فى عملية الدمج بين عناصر التنظيميين، إذ أن اسكرا لم تكن لها كوادر أو عناصر كثيرة فى وسط العمال، بعكس الحركة المصرية التى كان لها تفوق ملحوظ فى هذا المجال. ولكن الصعوبات جاءت من اتجاه آخر، هو المجال العمالى نفسه، وما وقع فيه من قلاقل واضطرابات كثيرة.
فقبيل قيام "حدتو" قام عمال النسيج بالمجلة الكبرى، فى 1947/6/2 بإضراب كبير، اشترك فيه 26 ألف عامل، واجهته الشرطة بعنف بالغ، واشتركت فى قمعه دبابات من الجيش، وكانت مظاهرات العمال تسير وهى تحمل رايات حمراء صبغت بدماء شهدائهم، وكان العمال يعتفون خلالها بشعارات سياسية، وشعارات اقتصادية واجتماعية فى نفس الوقت.
وفى نفس التوقيت أعلن عمال شبرا الخيمة إضراباً تضامنياً مع عمال المحلة، شارك فيه 20 ألف عامل، كانوا يرددون نفس الهتافات، ويرفعون نفس الشعارات.
كذلك قامت إضرابات ومظاهرات عمالية مماثلة من كل من: عمال شركة ماتوسيان للدخان فى الجيزة، عمال النسيج بالإسكندرية، عمال الترام بالقاهرة، عمال شركة شل للبترول.
وقد لعبت كوادر العمال فى التنظيم الجديد، دروها فى تنظيم تلك الإضرابات والمشاركة فيها بصورة واضحة وقيادية. كما أصدرت قيادة التنظيم نداء إلى الفلاحين لتكوين نقابات لهم، تدافع عن مصالحهم، وتتيح لهم المشاركة فى النضال الوطنى والاجتماعى العالم. وتابعت تلك القيادة اهتمامها بالقضية الوطنية، وأصدرت بشأنها العديد من البيانات والمطبوعات.
ومن الناحية التنظيمية ما أن بدأت عملية الدمج بين التنظيمين حتى أثيرت مسأله جوهرية هى: معارضة الأساس الذى يقوم عليه التنظيم، وهو التنظيم الفئوى، وهو تنظيم الأعضاء والكوادر حسب لمجموعات الفئوية التى ينتمون إليها، فكانت هناك أقسام للطلبة، وأخرى للعمال، وثالثة للحرفيين، ورابعة للأجانب.. إلخ، وكان هذا هو النظام المتبع فى كلتا المنظمتين، وتم تنفيذ الدمج بعد الوحدة على أساسه. ولكن سرعان ما أثير الاعتراض عليه، وخصوصاً من جانب الكوادر القادمة من أسكرا، وطالبت هؤلاء بإلغائه وإعادة التنظيم على أساس جغرافى. وساد هذا الرأى فتقرر الأخذ به وتطبيقه. واحتاج ذلك إلى مجهودات كثيرة ألقت بأعبائها على عاتق الكادر، فى وقت مبكر من قيام الوحدة.
بالنسبة لى، كنت عضواً فى لجنة قسم الطلبة فى الحركة المصرية، التى كان المسئول عنها "أمين" - "مختار العطار"، وكان أعضاؤها: صبحى زغلول ومبارك عبده فضل، وأنا وزميل آخر يدعى، فتح الله. ولم نكد نبدأ عهد الوحدة، حتى تقرر حل قسم الطلبة، وتوزيع أعضائه على لجان الأحياء، وكان نصيبى هو الالتحاق بقسم بولاق أبو العلا، الذى كان مسئوله: سعد المهدى، وأعضاؤه أنا، وإبراهيم عرفة، وصبرى جبر، وزميل آخر كان يدعى "علام". كنت قد أسندت إلى المسئولية عن خليه فى حى بولاق، مكونة من: كمال عمران، والعوادلى وزميل آخر، كانوا قادمين من اسكرا. وبدأت الرحلة فى ظل "حدتو".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق