ذكريات شاعر مناضل: 57- فى الوادى المقدس طوى

57- فى الوادى المقدس طوى

 كان معتقل جبل الطور (1953) هو أول معتقل جرى افتتاحه فى عهد الثورة، والذى أودعت فيه عدداً ممن اعتبرتهم خصومها، من الشيوعيين، وأنصار السلام، والوفديين، وعناصر أخرى من المحسوبين على هذا الفريق أو ذلك، وكان عددهم حوالى المائة معتقلاً.
 وكانت المعاملة فى ذلك المعتقل مقبولة بصفة عامة، كان هناك احترام لآدمية الناس وكرامتهم، سواء فى الإقامة أو فى الطعام، أو فى المعاملة. ذلك أن قيادة الثورة كانت مازالت تتحلى بقدر  من الحياء، واحترام حقوق الإنسان. لم يكن هناك أى تعذيب أو إرهاب، سوى التعذيب المعنوى المتمثل فى مصادرة حرية المعتقلين، وعزلهم وإبعادهم عن أعمالهم وعائلاتهم ومواطن إقامتهم، مما يلحق بهم أضراراً وآلاماً جسيمة. وكانت وطأة هذا العذاب المعنوى على ثقيلة بوجه خاص، فقد تركت زوجتى وهى عروس، وفى الشهور الأولى من الحمل، وحيدة وبعيدة عن أسرتها، وبلا مال، فلم يكن معى أى مال أتركه لها، إذ كنا فى مستهل حياتنا العملية، ونعيش على ما يدره المكتب من موارد، يوماً بيوم، أو كما يقال: من اليد إلى الفم، بعد أن اتفقنا قبل رحيلى المفاجئ، على أن تسافر إلى القاهرة، للإقامة مع والدتها فى حلمية الزيتون. وكنت قلقاً على مكتبى وعلى أعمالى فيه، وكيف سيتصرف موظفوه فى القضايا والأعمال القضائية التى كانت موكولة إلى. وكنت قلقاً أشد القلق على يوسف صديق، بعد أن ساءت العلاقة بينه وبين "زملائه" فى مجلس القيادة، ودخلت فى مرحلة الجفاء والمخاشنة، ولم أكن أستطيع أن أتنبأ بكيف ستنتهى به ، وبعائلته هذه الأحوال.
 شيئان لا ثالث لهما كانا يهونان على هذه الهموم، أولهما الصحبة الرائعة للزملاء الذين كانوا يحيطون بى، وكانت صحبتهم تسرى عنى وترفع من معنوياتى، وتجعل الأيام تمر بى مر السحابة، لا ريث ولا عجل.
 ثانيهما، هو جمال المكان، بمناظره الخلابه المحيطة بنا، من رمال وجبال مختلفة الألوان والأشكال، ومن جوه الساحر الفتان، بهوائه العذب المضمخ برائحة البحر القريب، والنباتات الصحراوية الجبلية، ومن ذلك السكون الخاشع الذى يتمثل فيه جلال الوادى المقدس طوى. وقد ظل كل ذلك الجمال والجلال ماثلاً فى وجدانى ماحييت، وحتى اليوم، يتجدد إحساسى به كلما ذكرت ذلك الزمان، وهذا المكان. وبعد ذلك بخمسة عشر عاماً، بعد هزيمة يونية 1967، حينما سقطت سيناء أسيرة تحت الاحتلال الإسرائيلى، كتبت قصيدة بعنوان: أنشودة للوادى المقدس، جاء فيها:
 أنا لم أعرف من الطور سوى..
 ذلك الركن الذى كبلت فيه..
 وتقلبت على جمر الأسى..
 غير أنى رغم هذا أفتديه..
 ....
 أفتدى منه أكاليل السنى..
 أفتدى منه تباشير الصباح..
 أفتدى منه تباشير الحصى..
 أفتدى منه تهاويم الرياح
 ....
 صوت فرعون يدوى فى الجبال
 وصداه فى الفيافى لم يزل
 وخطاه وهو يجتاز المحال
 لم تزل محفورة فوق الجبل
 على أن إقامتى فى "جبل الطور"، بخيرها وشرها، لم تطل كثيراً. فبعد حوالى الشهر من تلك الإقامة، وبينما نحن فى قاعة الطعام، دخل علينا الأميرالاى، قومندان المعتقل، فألقى علينا التحية، ثم قال معتذراً:
 -أنا آسف إذ أعطلكم قليلاً عن تناول طعامكم، ولكن لدى خبر هام، إذ تلقيت الآن إشارة بترحيل أربعة منكم إلى القاهرة، هم الأساتذة: يوسف حلمى المحامى، ومحمد أبو الخير المحامى، وأحمد صادق عزام المحامى، ومحمود توفيق المحامى، واعتقد أنها بشرة خير لهم ولكم جميعاً. وسوف يتم الترحيل مساء اليوم، وسوف أصحبهم بنفسى الساعة العاشرة إلى الميناء ليستقلوا إحدى السفن إلى السويس. ألف مبروك.
 ولك يكد القومندان ينتهى من كلامه، حتى ضجت القاعة بالتصفيق، وهرع باقى المعتقلين إلى تقبيل الأربعة الذين سيتم ترحيلهم، وإزجاء التهانى لهم. غير أن أحد المعتقلين قال مازحاً:
 -إيه ده، كلهم محامين.. دى محسوبية!
 وتحول الباقون إلى الضحك، وخرج القومندان، وعاد المعتقلون إلى إكمال غدائم، ثم وقف أمين عبد المؤمن ليعلن:
 -بعد العشاء مباشرة، سنقوم بإقامة احتفال لوداع الزملاء الأعزاء الأربعة، قبل رحيلهم.
 بعد الغداء، انصرفت إلى حجرتى لأستعد للرحيل، وكان زملائى فى الحجرة: إبراهيم العطار، وفوزى حمزة، وحليم طوسون، فى حالة غريبة يختلط فيها الفرح بالحزن، على خروجى وعلى رحيلى ، وأسرع حليم فأعد لنا دوراً من النسكافية، احتفالاً بالمناسبة.
 بعد قليل حضر إبراهيم عبد الحليم، ومبارك عبده فضل، وجمال غالى، وهم الزملاء القياديون فى المعتقل، ليجتمعوا بى، فى حضور زملاء الحجرة، لمناقشة هذا التطور فى وضعنا، باعتباره حدثاً يتصل بالوضع السياسى. ودارت المناقشة حول النقاط التالية:
 -هل هذا الإفراج المتوقع، له صلة بالوضع السياسى العام، وهل يمكن اعتباره بداية انفراج فى العلاقة بين حركة الجيش، وبين القوى الوطنية والتقدمية، وحدتو بصفة خاصة، أم ماذا؟
 -هل لكون الزملاء الأربعة، من المحامين، دلالة خاصة، أم أنها مجرد مصادفة؟
 -ما هى واجبات التنظيم –حدتو- إزاء هذا التطور؟
 وطرحت كل هذه الأمور للمناقشة. وكان إبراهيم عبد الحليم شديد التفاؤل، فقد كانت له ثقة كبيرة بحركة الجيش، وأنها –طال الوقت أو قصر- سوف تنحاز إلى الخط الوطنى التقدمى. ولا شك أن اختيار هؤلاء الزملاء الأربعة- وكلهم من حدتو أو العاطفين عليها. أمر مبشر، وله دلالته. مما يعنى فى النهاية، ضرورة استمرار حدتو فى خطها السياسى، المؤيد لحركة الجيش، باعتبار ذلك هو الطريق الأمثل لتطوير الوضع السياسى برمته فى الاتجاه المطلوب.
 أما مبارك عبده فضل، فكان متشائماً، وكان لا يرى فى هذا الحدث الصغير كل هذه الأهمية، ويرجح أن يكون سببه هو الضغط الجماهيرى من نقابة المحامين للإفراج عن بعض المحامين من أعضائها، كما يرى أن حركة الجيش، بهذا الاعتقال للشيوعيين، والأعضاء من حدتو بصفة خاصة، ثم بكل القرارات التى اتخذتها خلال الشهر الفائت، قد أنزلقت أكثر فأكثر للاتجاه المعادى للشعب، وأنه يتعين على حدتو أن تراجع موقفها السياسى فى تأييد حركة الجيش، باعتباره موقفاً خاطئاً وضاراً.
 أما جمال غالى، فأمسك العصا من المنتصف، وقال أن الحدث فى حد ذاته، لا يكفى لاستخلاص أى من النتائج الجوهرية التى ذهب إليها الزميلان إبراهيم، أو مبارك. وأغلب الظن أنه نتيجة لعوامل أو تناقضات فرعية داخل القيادة.
 وبدا واضحاً أن رأى جمال غالى كان هو أسلم الآراء، وهو الذى اقتنعت أنا به، وإن كنت قد احتفظت بذلك الرأى لنفسى، انتظاراً لما يأتى به المستقبل القريب.
بعد العشاء، انعقدت الحفلة التى أعلن عنها أمين عبد المؤمن. ولم تطل كثيراً. اقتصرت تقريباً على خطبة عصماء أدلى بها أمين، قام خلالها بامتداح الزملاء المقرر الإفراج عنهم (كما أكد هو) وأثنى على أشخاصهم وخصالهم الحميدة، واستدل على ذلك باسمائهم. كالآتى:
 -يوسف حلمى –يوسف: جميل كسيدنا يوسف الصديق، وحلمى: من الحلم، وهو من أفضل الصفات التى يتحلى بها يوسف فعلاً.
-محمد أبو الخير: محمد، من الحمد، وهو اسم رسولنا الكريم، وأبو الخير: وهو رمز للخير والبركة التى يمثلها أخونا أبو الخير.
-أحمد صادق عزام: أحمد، من الحمد والثناء، وصادق، من الصدق والإخلاص الذى يمتاز به الزميل العزيز، وعزام، من الشجاعة وقوة العزيمة.
-محمود توفيق، محمود، من الحمد والأخلاق الحميدة، وتوفيق، من النجاح والتوفيق اللذين سوف يلقاهما زميلنا محمود بكل تأكيد.
وقد قوبلت خطبة الزميل أمين عبد المؤمن –الفكاهية هذه- بتصفيق متواصل، قطعه دخول أحد الضابطين، منادياً على المعتقلين الأربعة، للذهاب مع الكومندان إلى الميناء. فوقفنا خارج قاعة الطعام، ومر بنا سائر الزملاء المعتقلين، من شيوعيين وغير شيوعيين، للسلام وتبادل القبلات. ثم اتجهنا إلى الغرف، فأخذ كل منا حقيبته، وخرجنا من بوابة المعتقل.
 أقلتنا سيارة شرطة بوكس، وخلفنا سيارة أخرى تقل القومندان ومساعديه إلى رصيف الطور، لنجد على الرصيف، مدمرة أخرى، هى المدمرة "إبراهيم"، وهى تشبه المدمرة "طارق" التى جاءت بنا تمام الشبه، وعلمنا أنهما توأمتان، صنعا سوياً فى بريطانيا، وألحقتا بالأسطول المصرى.
 وبعد وداع سريع وتحية حارة من القومندان ومساعديه، تسلمنا قائد المدمرة إبراهيمن وسار بنا على سقالة المرسى، حيث هبطوا بنا –هو ومساعده- إلى باطن المدمرة، فأخذنا راحتنا على الدكك المرصوصة حول جدران المدمرة. وسرعان ما دارت ماكينات المدمرة، وبدأت فى التحرك، صوب ميناء السويس.
 أغدق علينا قائد المدمرة، ومساعدوه من الضباط، وسائر بحارة المدمرة الذين سنحت لهم الفرصة للتعامل معنا، أغدقوا علينا الكثير من الود والترحيب، وكرم الضيافة، طوال تلك الرحلة.
 وكنت أفكر فى ذلك الكائن الغريب، المسمى بالإنسان المصرى، وأعجب من قدرته على بذل كل هذا القدر من اللطف والإنسانية، عندما يتحرر من شيطان القسوة والتسلط، الذين يتسلطان عليه من حين إلى حين. وسبحان من خلق العباد.
فى السويس، استقبلنا ضباط للشرطة، ونقلونا إلى القاهرة، وإلى معتقل آخر، هو معتقل قسم شرطة روض الفرج.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق