ذكريات شاعر مناضل: 24- ويلات الحرب

24- ويلات الحرب


فى صيف سنى 1944 كان العالم فى أسوأ حالاته، إذ كان لهيب الحرب العالمية الثانية يندلع بأقصى قوته فى أرجاء مختلفة من العالم، ناشراً فيها الموت والدمار والجوع.
فعلى الجبهة الروسية (الشرقية) كانت قوات المحور قد اكتسحت من قبل فى 22 يونية سنة 1941 الحدود الغربية من الاتحاد السوفيتى، وتوغلت فيها -خلال ثلاثة أسابيع فقط ما بين 400 إلى 600 كيلو متراً، وأخذت تدك موسكو وليننجراد بالطائرات والمدافع وهى واقفة أمامها. واندفعت جحافلها نحو البحر الأسود وشبه جزيرة القرم وهى تقتل وتدمر، وتنشر النار والموت والدمار فى كل مكان. كما اتجهت جحافل كثيفة أخرى تجتاح حوض نهر الفولجا، وتتجه لاحتلال مدينة ستالينجراد. ولكن الأوضاع ما لبثت أن تغيرت شيئاً فشيئاً، وأخذت الأخبار تتوالى عن المتاعب الكبيرة للقوات الألمانية، خاصة مع حلول فصل الشتاء الروسى، ومع استبسال موسكو وليننجراد فى الصمد والدفاع، ومع تصاعد حركة المقاومة للشعب الروسى، وقوات الجيش الأحمر، وعرف العالم كله مدى المقاومة العنيدة التى كان يبديها الروس، رجالاً ونساءً، وأطفالاً، للقوات الغازية.
 أما فى حوض نهر الفولجا، وفى مدينة ستالينجراد، فقد كانت ورطة قوات المحور أعظم وأخطر، إذ بينما ظلت قوات المحور تحاصر المدينة الباسلة وتضربها ضرباً لا هوادة فيه براً وجواً، ورغم أنها احتلت أجزاء كبيرة من المدينة وضربت معظمها، إلا أن المقاومة البطولية والأسطورية ظلت تدور طوال خمسة شهور (من 1942/8/21 إلى 1943/2/2)، إلى أن استطاعت قوات المقاومة العسكرية والمدنية أن تفك الحصار عن المدينة الباسلة، وأن تقوم هى بمحاصرة قوات المحور، وأن تلحق بها هزيمة مدوية، حتى اضطرت قوات المحور إلى الاستسلام، واضطر قائدها الفليد مارشال فون باولو إلى الاستسلام للأسر، وإلى تسليم كل أسلحته.
ثم أخذت جيوش المحور تتحول من الهجوم الصاعق، إلى الدفاع، فى حين تحول الجيش الأحمر من الدفاع إلى الهجوم، وهو الهجوم الذى لم يتوقف إلا باحتلال برلين نفسها. وتلا ذلك قيام الجيش الأحمر بتحرير كل الدول التى كان المحور قد استولى عليها فى أوربا الشرقية والوسطى.
وكذلك كانت الحرب تدور جواً وبراً فى مناطق مختلفة من المحيط الأطلنطى بين ألمانيا وبريطانيا، وفى البحر الأبيض وجنوب أوروبا، وفى المحيط العادى بين الولايات المتحدة واليابان، وشاركت الصين والهند وشعوب شرق آسيا الأخرى بأدوار بارزة فى ذلك الصراع الدامى.
أما على الجبهة الغربية، فى شمال أفريقيا، فقد كانت قوات المحور التى هاجمت أراضى مصر -من الأراضى الليبية- واخترقت حدودها، وأخذت تتوغل فيها فى اتجاه مدينة الإسكندرية حتى وصلت إلى منطقة العلمين، على بعد أربعين كيلومتراً فقط من الإسكندرية. وكانت قوات المحور قد ألحقت بالقوات البريطانية هزائم متوالية، خاصة بعد أن تولى قيادتها المارشال الألمانى روميل، الملقب بثعلب الصحراء. وغدت مدينة الإسكندرية مهددة بالسقوط الوشيك، بل إن مصر كلها باتت مهددة بشكل خطير، بل إن القيادة البريطانية كانت تتجه إلى إغراق الدلتا كلها بمياه البحر المتوسط، لوقف تقدم القوات الألمانية والإيطالية: لولا أن عارضت الحكومة المصرية فى ذلك الإجراء الخطير، الذى توقف بعد ذلك، عندما حصل التحول فى مجرى الحرب، بعد أن تولى الفيلد مارشال مونتجومرى قيادة القوات البريطانية، وبعد وقوع معركة العلمين فى نوفمبر سنة 1942، التى ألحقت فيها قوات بريطانيا وحلفائها، هزيمة مدوية بقوات المحور، وهى هزيمة أدت إلى تحولها من هجومها الصاعق إلى الدفاع وإلى الانسحاب الذى أستمر على طول الشاطئ الشمالى لأفريقيا، ثم إلى أوروبا بعد ذلك.
 وطوال مرحلة الهجوم الذى شنه المحور تجاه مصر، كانت الغارات الجوية التى تشنها قواته تتواصل، وتشتد وطأتها على مدينتى الإسكندرية والقاهرة، وعلى غيرهما من المواقع الأخرى ذات الأهمية العسكرية.
 واستمرت رحى الحرب دائرة على أشدها على الجبهة الغربية، حتى تم لقوات التحالف الغربى، بمشاركة أمريكا ومعونتها، فتح الجبهة الثانية، بإنزال قوات التحالف فى نورماندى بغرب فرنسا، فى المدة من 6/6 إلى 1944/9/25، وبدء الانسحاب الألمانى الذى أنتهى بألمانيا إلى الهزيمة والاستسلام.
وصاحب ذلك استسلام اليابان أيضاً لأمريكا وحلفائها، على أثر ألقاء القنبلة الذرية الأمريكية على هيروشيما يوم 1946/6/29، ثم على ناجازاكى بعدها بقليل.
وبذلك كله انتهت الحرب العالمية الثانية، التى سببت للبشرية كلها، ويلات لا تعد ولا تحصى.
 ولم تكن مصر بعيدة عن ويلات هذه الحرب وآثارها المدمرة، فإنه وإن كانت مصر لم تعلن الحرب إلى جانب بريطانيا على ألمانيا أو إيطاليا، بصفة رسمية، بل آثرت أن تعلن وقوفها على الحياد فيها، وفقاً لسياسة تجنيب مصر ويلات الحرب "تلك السياسة التى أعلنتها وتمسكت بها كل الحكومات التى تعاقبت عليها فى تلك الفترة، منذ بداية الحرب، وحتى نهايتها (تقريباً)، رغم أن، بريطانيا ظلت تمارس الضغط عليها لإعلان دخولها الحرب إلى جانب الحلفاء، حتى كفت أخيراً عن ذلك الضغط، بعد أن تبين لها أن هذا الموقف الذى أعلنته مصر، كان أنفع لها هى من دخول مصر الحرب رسمياً، ذلك لأنه كان يحد من هجمات المحور، وهجمات طيرانه بصفة خاصة، على المرافق المصرية، التى كانت موضوعة كلها فى خدمة المجهود الحربى البريطانى طبقا لأحكام معاهدة 1936، وطبقاً للسيطرة الفعلية لبريطانيا على مصر، ولواقع الاحتلال العسكرى البريطانى على أراضيها، فقد كانت السيطرة البريطانية على مصر، عسكرياً، وسياسياً، واقتصادياً، أمراً واقعاً يغنى عن الإعلان الرسمى للحرب على المحور إلى جانب بريطانيا.
وقد دفعت مصر ثمناً فادحاً من جراء هذه الحرب، فالحرب هى الحرب، بويلاتها وآثارها المدمرة، على حد قول زهير بن أبى سلمى فى معلقته:

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمو
وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
وتضرى إذا ضربتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرحى بثفالها
وتلقح كشافاً ثم تنتج فتتئم 
فتنتج لكم علمان أشأم كلهم
كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم

 وكان شأننا فى تلك الحرب التى لم نكن طرفاً فيها، هو كما قال الشاعر العربى القديم عن حرب البسوس:

لم أكن من جناتها علم الله
وإنى بحرها اليوم صالى

وقد تحملت مصر، التى كانت ترزح من قبل تحت أثقال ترهق كاهلها، الكثير من الأعباء والأحمال الباهظة فى فترة الحرب العالمية الثانية:
 فمن الناحية السياسية، اشتدت القبضة البريطانية على الإرادة الوطنية لمصر بسبب ظروف الحرب، وزيادة وطأة الاحتلال العسكرى بتزايد أعداد القوات البريطانية المحتلة، على ما رأيناه فى حادث4 فبراير سنة 1942، وعلى ما تمثل فى الكثير من وقائع التدخل المستمر ، السافر والمستتر، فى شئون الحكم. وتمثل ذلك أيضاً فى فرض الأحكام العرفية على البلاد، وفرض الرقابة على الصحف، طيلة سنوات الحرب، وما أدى إليه كل ذلك من القمع والاعتقالات الواسعة، التى كانت تتم وفقاً لأوامر السفارة البريطانية.
 ومن الناحية الاقتصادية: فقد أناخت الجيوش البريطانية بكلكلها على المرافق المصرية، وفى مقدمتها السكك الحديدية، والطرق، والكبارى، والمرافق المدنية الأخرى (الكهرباء والمياه، والمجارى)، فزادتها ضعفاً على ضعف، حتى باتت فى نهاية سنى الحرب فى أشد حالات الانهاك والاستهلاك. ولما كان اعتماد بريطانيا فى تموين جيوشها، يعتمد أساساً على الانتاج المصرى، ولما كانت الجيوش البريطانية -ككل جيوش الدنيا- تزحف على بطونها، فقد كانت تأكل الأخضر واليابس من المنتجات الغذائية المصرية، دون أن تدفع مليماً واحداً ثمناً لها، لا هى ولا سائر السلع والخدمات الأخرى، مكتفية بإصدار التعليمات إلى ابنك الأهلى المصرى، الخاضع لها، بأن يطبع أوراقاً نقدية خضراء، لا رصيد لها إلا سندات على الخزانة البريطانية لم تسدد قيمتها إلى بعد سنوات طويلة من انتهاء الحرب، بثمن بخس، وبعد أن كانت قد فقدت معظم قيمتها.
وكل ذلك كان يصب فى طاحونة التضخم النقدى المتواصل، ويؤدى إلى مزيد من الفقر والجوع، والمرض. وقد بلغ الارتفاع فى تكاليف المعيشة فى مصر فى خلال سنوات الحرب العالمية الثانية إلى 350% رغم أنه لم يتجاوز فى بريطانيا نفسها 150%، وبلغ العجز فى الميزان التجارى المصرى 100 مليون جنية كل عام، بعد أن كان يميل لصالح مصر قبل الحرب (سنة 1939) بثلاثة أرباع مليون جنية (ولنأخذ فى الحسبان أن هذه الأرقام كانت بمقاييس ذلك العصر).
يضاف إلى كل ما تقدم، حجم الخسائر الكبيرة فى الأرواح والمنشئات والمرافق، التى نجمت عن الغارات الجوية التى وقعت على البلاد، وخاصة على القاهرة والإسكندرية.
وكانت هذه العوامل الاقتصادية هى المقدمة للمزيد من الاضطراب والانهيار الاجتماعى الخطير، بعد أن انهارت طلائع الطبقة الوسطى الجديدة، وازداد العمال والفلاحون انسحاقاً على انسحاق. وتمثل ذلك فى الكثير من الظواهر الاجتماعية والصحية التى نورد منها ما يلى:
 -ذكر حافظ عفيفى باشا (رئيس مجلس إدارة بنك مصر وقتذاك) إن أربعة ملايين شخص من المصريين يعيش كل منهم على دخل يقل عن جنية واحد شهرياً، أى بنحو ثلاثة قروش فى اليوم.
-وصلت البطالة فى فترة الحرب إلى حوالى 2 مليون عامل.
-بالنسبة للأراضى الزراعية كان 12 مليون شخص لا يملكون شيئاً على الإطلاق (من 16 مليوناً هم كل عدد السكان)، وفى المدينة تركزت الثروة العقارية فى أيدى عشرة آلاف شخص فقط، عن من كبار التجار، وكبار أصحاب الأسهم والسندات. والودائع، وأعضاء مجالس إدارة الشركات.
-وعن الأوضاع الصحية للشعب، سجلت الأرقام التالية، فى سنوات الحرب:
-عدد المصابين بالبلهارسيا هو 12 مليوناً (أى ثلاثة أرباع السكان، 16 مليوناً).
-عدد المصابين بالديدان المعوية= 8 مليوناً (أى نصف عددالسكان).
-عدد المصابين بالرمد الحبيبى= 14 مليوناً (أى 90% من السكان).
-عندما تم فحص طلاب الجامعة للخدمة العسكرية تبين أن 83% منهم غير لائقين صحياً.
وعندما تحولت الملاريا فى الصعيد إلى وباء (فى منتصف عام 1943) رصدت الحكومة مبلغ 300 جنية لوضع خطة قومية لمقاومة الوباء. وكانت الحكومة توزع على الفقراء فى الصعيد لمقاومة انتشار المرض، كيلة ذرة عويجه، 1 كيلو زيت بذرة قطن، نصف كيلو سكر، للفرد.
وعن الأوضاع المعيشية للشعب، سجلت البيانات الآتية:
-قررت مصلحة الإحصاء فى عام 1942 أن ما يلزم العامل وزوجته وأولاده لإشباع الحاجات الأساسية -إلى حد الكاف لا يقل عن 439 قرشاً فى الشهر، بينما أن متوسط الأجر الشهرى للعامل لا يتجاوز 243 قرشاً فى الشهر، وكان متوسط الأجر السنوى لهذا العامل لا يتجاوز 35 جنيهاً فى السنه، انخفضت بعد ذلك على امتداد العامين التاليين حتى أصبحت قيمتها الشرائية لا تساوى أكثر من  ثمانية جنيهات.
وعلى الصعيد الاجتماعى أيضاً، وفى المجال الجنائى -الذى هو المحصلة النهائية لحالة المجتمعات، سجلت الأرقام التالية:
-زاد عدد جرائم السرقة بين عامى 1940 ، 1944 من حوالى 55 ألف جنحة إلى 110 ألف جنحة سنوياً.
-ارتفع عد الجنايات فى القاهرة وحدها بين عامى 1942، 1943 بنسبة 56% وبلغ فى الإسكندرية نسبة 136%.
-ازداد استهلاك المخدرات حيث قدر فى عام 1939 بما يساوى 1896 كجم أفيون وحشيش، فوصل فى عام 1942 إلى 3987 كجم، وسيواصل القفز بعد ذلك إلى 13286 كجم.
-ازداد انتشار ممارسة الدعارة، فبينما بلغ عدد النساء اللاتى قبض عليهن فى عام 1942 - 1943 وهن يحرضن المارة على الفسق، بلغ هذا العد فى سنة 1943 - 1944 - إلى 5155 امرأة.
...
وفى ختام هذا الاستعراض التعيس لما حل بمصر من مصائب فى سنوات الحرب العالمية الثانية، فقد ذهب بعض الباحثين إلى القول بأن مصر فقدت فى تلك السنوات، ليس فى ميادين القتال، وإنما فى الميادين الخلفية للفقر والمرض والاستغلال، قوافل من الشهداء تزيد أعدادهم على شهدائها الأبرار الذين قدمتهم لحماية ترابها الوطنى على امتداد جميع الحروب المصرية -الإسرئيلية خلال ربع قرن من الزمان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق