ذكريات شاعر مناضل: 11- عودة إلى الحزن

11- عودة إلى الحزن


وقفت فى الجمع المحتشد أمام باب المسجد فى قريتنا "الزاوية" من رجال يتمتمون بالأدعية وبعض الآيات القرآنية القصيرة التى يحفظونها، وينتظرون أن تنتهى صلاة الجنازة على الميت داخل المسجد، والسير به إلى المدافن لمواراته التراب، ومن نساء وقفن على ناحية أخرى أمام باب المسجد، وهن يبيكن ويندبن الفقيد العزيز، كنت أقف ساهماً حائراً لا أدرى ماذا أفعل، وإذا بيد تمتد إلى من بين الزحام، لتمسك بيدى، وتجذبنى إلى خارج الزحام، إلى جانب منه، وانجذبت معها ثم نظرت إلى صاحبة اليد التى كانت ماتزال تمسك بيدى، فإذا بها هى "زينب عبد الوهاب" التى كنت أعرفها من قبل، وأعرف أنها ابنه عمتى "سكينة". ولم تقل لى "زينب" شيئاً، ولكنها قادتنى فمشيت إلى جوارها صامتاً حتى خرجنا من أمام المسجد، وانحنينا لنسير فى "درب أولاد على"، الذى سرنا فيه مسافة قصيرة، حتى وصلنا إلى منزل عمتى "هانم" -شقيقة والدى، وكنت أعرف المنزل، وأعرف هذه العمة من قبل. وجدت هناك فى ردهة المنزل الريفى جمعاً من النساء الريفيات من أقاربنا، منهن عمتى "سكينة"  شقيقة والدى أيضاً، وغيرها من القريبات، كما وجدت شقيقتى "هدى" التى كانت ترتدى هى الأخرى، ثوباً أسود. استقبلتنى "هدى"، وعماتى "هانم" و "سكينة" بالأحضان والقبلات، وأجلسننى على أريكة فى البهو.
وعلمت بعد قليل أن أختى "هدى" تقيم منذ فترة مع عمتنا "هانم" هذه وأن ذلك كان قد تقرر بعد وفاة والدى بقليل، إذ وجد أن إقامتها "بالسراى" لم تعد ملائمة بعد وفاة والدها، وعدم وجود أنا التى كانت متوفاه من قبل، لا سيما وأنها كانت فد عقد قرانها قبل وفاة الوالد على ابن عمنا، وابن خالتنا فى نفس الوقت: "أحمد عبد الحليم"، وتقرر إذن أن تقيم عند هذه العمة حتى تنقضى فترة الحداد على أبينا، وريثما يتم الاستعداد للزواج.
 وقررت العمتان على عجل، أن أبقى فى ضيافة عمتى "هانم"، مع أختى "هدى"، ريثما يتم تدبير أمرى، إذ أن عودتى للإقامة مع "بهيجة"، وفى منزل زوجها "الشيخ أحمد" لم تعد أمراً مناسباً، بعد وفاة نجلة "محمود" الذى كان قريناً وزميلاً لى، وأن فى ذلك إثقالاً عليه بأكثر مما يمكن احتماله، خاصة وأننى كنت قد نلت الشهادة الابتدائية. ولم تعد هناك ضرورة لبقائى فى "بولاق". أساساً. وتم إبلاغى بذلك باختصار، فلم أعلق عليه بالقبول أو بالرفض، إذ أن ذلك لم يكن فى استطاعتى حينذاك، وبقيت بدار عمتى هانم بعد ذلك، كأمر واقع أوجبته الظروف والأقدار.
 كانت عمتى "هانم" هذه أرملة كهلة، ترملت وهى فى العشرين من عمرها وقد قتل زوجها فى معركة ثأرية، وتركها ومعها ولداهما "عويس وعبد السلام" وأبنه هى "زينب"، وقد تفرغت هى لتربية أولادها وامتنعت لذلك عن الزواج، حتى إذا ما شب الولدان وأصبحا ملئ السمع والبصر، فوجئت بهما وهما يدخلان إليها محمولين على نقالتين، وعلمت أنهما قد قتلا سوياً فى الجرن، فى حقل بعيد، وأن قتلهما قد جرى بإطلاق الرصاص عليهما من أعداء مجهولين لم يعرفوا أبداً بعد ذلك. ورجى تشريح الجثتين، ثم دفنهما سوياً أمام ناظريها. من يومها وهى تلبس السواد دائماً، وتعيش وحيدة مع ابنتها الباقية "زينب" التى شبت، والتى ظلت ترفض الخطاب، حتى تمت خطبتها بعد ذلك إلى "إبراهيم محمد" -وهو ابن خال لها، وكانت ما تزال ممتنعة عن الزواج إلى ذلك الحين.
وفى مواجهة منزل عمتى "هانم" عبر درب أولاد على كان هناك منزل عمتى الأخرى "سكينة" -وهى شقيقة والدى أيضاً، وكانت هى الأخرى أرملة ترملت بعد وفاة زوجها، وعاشت لتربى ولديها منه: "محمد" الذى كان شاباً فى العشرين، و"أبو بكر"، الذى كان يصغرنى بسنتين، وكان مازال تلميذاً بالسنة الثانية فى مدرسة الواسطى الابتدائية، وكانت العمتان: "هانم" و "سكينة"  تكادان تعيشان معاً، فالمنزلان متقابلان لا يفصلهما سوى أربعة أمتار، هى عرض الدرب، لذلك فهما على اتصال مستمر طيلة النهار، وردحاً من الليل، إذ أن أبواب منازل الفلاحين لم تكن تغلق فى ذلك الحين، إلا ليلاً، حين يأوى أصحابها إلى النوم، وأظنها مازالت كذلك حتى اليوم.
ورغم أن عمتى "هانم" كانت تعد من الميسورين، وهى تمتلم حوالى العشرين فداناً، فإنها كانت تعيش -باختيارها- حياة الراهبات فهى لا تخلع السواد، وهى متقشفة فى معيشتها، لا تأكل اللحم، بل تعيش على الخبز الجاف والجبن القريش، ولا تأكل أى نوع من الفاكهة أو الحلوى، وتعتبر ذلك نوعاً من الخروج على طقوس الحداد على ولديها. وكانت ابنتها "زينب" تكاد تفعل مثلها هى الأخرى.
 وقد خرجت عمتى هانم، وابنتها زينب، عن بعض طقوس هذه الحياة المتقشفة، مراعاة لوجودنا، أنا وشقيقتى هدى، معهما فى المنزل، فكانتا لا تريدان أن تحملانا شظف عيشهما هذا، دون مبرر ودون سبب معقول.
وكانت عمتى هانم تسبغ على ودها وحنانها، ولوناً من العطف، يكاد يشبه عطف الأم على ولدها. وكذلك عمتى "سكينة" التى كانت تعطف على هى الأخرى، وتعاملنى برقة ومودة، وكأننى أحد ولديها "محمد وأبو بكر".
وكانت القرية، ودرب "أولاد على" كله، بعجان بالأقارب والقريبات.
كان هناك عمى "محمد" شقيق والدى، وعمى "الحاج جارحى" الأخ الأكبر غير القيق لوالدى، وكانت هناك العمات الآخريات، خلاف هانم وسكينة، "تفيدة" و"كوكب" و "نفيسة" و "فج النور"، أما عمتى "منيرة" فكانت تعيش فى القاهرة، ومعها شقيقتى "سعاد"، المتزوجة من ابنها -"الدكتور سعيد"- الصيدلى. وخلاف أعمامى وعماتى، كانت هناك خالتان هما "وليفة وبهية". وكان لهؤلاء الأعمام والعمات، والخالات، أبناء وبنات كثيرون، وأحفاد وحفيدات كثيرون وكثيرات، وكلهم يعيشون فى درب "أولاد على".
ورغم هذا الجمع العرمرم من الأقارب والقريبات الذين كنت أعيش بين ظهرانيهم، فقد كنت أعيش فى حزن وانطواء دائمين، قلما أتكلم، وقلما أضحك، لا أشارك فى لهو أترابى ولعبهم. وكأننى قد كبرت عن سنى عدة أعوام. وهكذا قضيت عطلة صيفية بائسة وحزينة، وكثيراً ما كنت أذكر هذا العام كله فيما بعد، وأسميه بينى وبين نفسى  "بعام الأحزان".
 على أن "أفضل ما تركه هذا العام، وتلك العطلة، فى نفسى، كان هو الانطباع الذى تركته فيها ذكرى عمتى "هانم"، وهو الانطباع الذى ظل يلازمنى بعد ذلك على مدى سنوات طويلة. كانت تتمثل لى دائماً، بشخصيتها القوية، وقدرتها اللامتناهية على الصبر والصمود لغدر الزمان، وبتقشفها وعزوفها عن الصغائر، وعن لغو الكلام، وكأنها شخصية تراثية بقيت من صدر الإسلام، وكنت أقرنها دائماً بضخصية "أسماء بنت أبى بكر"، عندما عرفت عنها فيما بعد من كتب التاريخ.
...
 فى أواخر أيام تلك العطلة عرفت أن شقيقتى "سعاد"، وعمتى "منيرة" قد تولتا مهمة تدبير إلحاقى بالمدرسة الثانوية، وتدبير أمر إقامتى أثناء مرحلة الدارسة فيها، وكان الحل الأمثل، هو إلحاقى بالقسم الداخلى فى إحدى المدارس الثانوية، وقام قريب لنا هو "اللواء أحمد عبد العليم"، بالتوسط فى ذلك، فتمت الموافقة على إدخالى بمدرسة شبرا الثانوية، وبالقسم الداخلى فيها، وبالمجان أيضاً، وذلك نظراً لتفوقى فى الشهادة الابتدائية، وحصولى على مجموع يعطينى الحق فى هذه المجانية. وكان "أحمد عبد العليم" فى حينها يعمل كبيراً للمهندسين فى اليخت الملكى "المحروسة"، وعميداً عسكرياً مهندساً فى سلاح البحرية بالقوات المسلحة، ومن ثم كان لا ترد له كلمة. وقد ظللت أحمل له جميلة هذا طيلة حياتى، إلى أن توفى إلى رحمة الله.
 قبل بدء الدراسة بأسبوع، ودعت شقيقتى هدى، وعمتى "هانم وسكينة" وسائر أقاربى وقريباتى بالزاوية، وسافرت إلى القاهرة، ثم إلى بيت أختى "سعاد"، وعمتى منيرة، فى حى اليكنية بالحلمية الجديدة.
وأخذتنى شقيقتى سعاد وزوجها الدكتور سعيد، إلى محل الفرنوانى المعروف فى ذلك الحين، والذى كان المحل الكبير الوحيد المملوك للمصريين، والذى ينافس المحلات الأخرى المملوكة للأجانب "اليهود بصفة خاصة" فى تجارة الملابس الجاهزة. وكان محلاً كبيراً يقع فى بداية شارع عبد العزيز بميدان العتبة الخضراء. واشتريا لى كل لوازمى من الملابس، بذلتين من الصوف "بالبنطلون الطويل"، وكرافتتين، وبيجامتين، وعدداً من القمصان، والفانلات والكلسونات والجوارب، وفوطتين للوجه، وحذائين، وشبشباً للحمام، وملاءتين للسرير السفرى، وفرشاة للأسنان، وأخرى للملابس، ومعجون أسنان، وحتى زجاجة كولونيا. ووضعت كل هذه الأشياء فى حقيبة كبيرة من الفيبر، كما اشتريا لى بعض الأدوات الكتابية، وقلم أبنوس جميل الشكل ماركة "سوان" عليها رسم بجعة، وكذلك حقيبة مدرسية صغيرة. وتكلفت كل هذه المشتريات .. أقل من عشرة جنيهات.
وهكذا أصبحت جاهزاً للمدرسة الثانوية، ولاستقبال مرحلة جديدة من حياتى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق