ذكريات شاعر مناضل: 27- على سلم كلية الحقوق

27- على سلم كلية الحقوق


ظللت أذهب إلى كلية الحقوق صباح كل أيام الأسبوع الذى تلا افتتاح الدراسة. كنت أتوجه إلى المدرج الكبير وأجلس فى أى مكان خال من الصفوف العليا للمدرج، حتى تبدأ المحاضرة، أو حتى يعلن اعتذار الأستاذ، وكانت ميزة الجلوس فى أعلا المدرج، هى سهولة الخروج من بابه الخلفى إلى السلم الحلزونى، ومنه إلى الخارج، وحتى أتجنب المزاحمة عند الخروج كما أتجنب المزاحمة عند دخول المدرج.
وفى تلك الأيام حضرت عدداً آخر من المحاضرات، محاضرة فى الشريعة الإسلامية -للشيخ محمد الخفيف، وكان أستاذاُ وقوراً وعالماً ضليعاً فى مادته، ومحاضرة أخرى فى تاريخ القانون، للدكتور أمين بدر، ومحاضرة ثالثة فى القانون الدستورى، للدكتور سيد صبرى، وهو أستاذ جليل متمكن من مادته. وفى تلك المحاضرات أيضاً، كان يتكرر المشهد الذى وجدته فى المحاضرات السابقة، الأستاذ يكر محاضرته بسرعة، والطلبة يكتبون بنفس السرعة، وكأن الأمر هو حصة إملاء لا أكثر ولا أقل. لم يكن هناك أيه أسئلة أو أى حوار، بل لم يكن هناك أى اتصال بيت الأستاذ وطلابه، وعرفت فيما بعد، أن هذا كان أمراً طبيعياً فى محاضرة  يلقيها أستاذ على طلبة يبلغون من العدد حوالى 500 طالب، إذ لم يكن هناك مجال لأكثر من الإملاء والكتابة.
ورأيت فى الكلية، عدداً من الأساتذه الكبار المعروفين، والذين كانوا يحاضرون على السنوات الأخرى، رأيت العميد الدكتور محمد مصطفى القللى، الأستاذ فى الإجراءات الجنائية، والدكتور حامد زكى الأستاذ فى القانون المدنى، والدكتور سليمان مرقص، أستاذ القانون المدنى أيضاً، والدكتور على راشد أستاذ قانون العقوبات والدكتور عبد المنعم الشرقاوى أستاذ قانون المرافعات، والدكتور حامد سلطان، أستاذ القانون الدولى... وغيرهم، وكانوا جميعاً من الأعلام المشهورين فى عالم القانون، ومنهم من تبوأ مناصب وزارية فى خلال السنوات القليلة التالية.
وكانوا جميعاً يشعرون بأهميتهم العلمية والأجتماعية، ويعتزون بأنفسهم إلى درجة الكبرياء.
وخلال ذلك الأسبوع عرفت الطريق إلى بوفيه كلية الحقوق، حيث التقيت ببعض الزملاء القدامى: كمال عبد الحليم، عمر الطاهر، محمود نديم عبد المعطى، كما تعرفت بعدد من الزملاء الجدد، إسماعيل صبرى عبدالله، ناهيد أبو زهرة، مصطفى حسنى، عبد الماجد أبو حسبو وغيرهم. وعرفت الطريق أيضاً إلى بوفية كلية الآداب، وهو البوفيه الأفضل فى الجامعة كلها فى ذلك الحين، وكانت أفضليته ترجع أساساً إلى من يؤمه من طالبات فى كلية الآداب اللطيفات الأنيقات (بالعكس القلة القليلة من الطالبات فى كلية الحقوق حينذاك) كما ترجع أفضليته أيضاً -وبعد ذلك- إلى ما يقدمه من المشروبات والمأكولات الطيبة، بخلاف بوفيه الحقوق، الذى كان لا يقدم إلى القهوة والشاى، والينسون.
وخلال ذلك الأسبوع أيضاً، ذهبت إلى مكتبه عبدالله وهبه بحى عابدين، حيث اشتركت فى الملازم التى كانت تصدر فى كل المواد المقررة علينا فى السنة الأولى بالكلية. وسددت الاشتراك المطلوب، وأخذت البطاقة الدالة على ذلك، لتقديمها إلى المختصين كلما جئت لاستلام الملازم، وعرفت أن تلك الملازم كانت تسلم إلى الطلبة أسبوعاً بأسبوع، فى أيام محددة.
...
عندما مر الأسبوع الأول مند بدء الدراسة، وقعت أحداث هامة فى الوضع السياسى فى مصر.
ففى 7 أكتوبر 1944 تم توقيع ميثاق الجامعة العربية، وأصبح وجود هذا الكيان الذى يمثل ركيزة أساسية للعمل من أجل الوحدة العربية، والتضامن العربى، والكفاح المشترك العربى، أصبح حقيقة ثابته.
وفى اليوم التالى لذلك مباشرة، أى فى 8 أكتوبر سنة 1944، تلقى رئيس الوزارة الوفدية، الذى كان له الدور الأكبر فى تحقيق ذلك الإنجاز، تلقى خطاباً من الملك، بإقالة وزارته، وقد صيغ هذا الخطاب بعبارات عدائية سيئة.
وفى نفس اليوم كلف الدكتور أحمد ماهر، رئيس الحزب السعدى، الذى هو انشقاق على حزب الوفد، بتشكيل الوزارة الجديدة، فألفها من كل أحزاب الأقلية المعادية للوفد، الحزب السعدى طبعاً، وحزب الأحرار الدستوريين برئاسة الدكتور محمد حسين هيكل، والحزب الوطنى، برئاسة حاظ رمضان، ثم حزب الكتلة الوفدية، برئاسة مكرم عبيد، حديث العهد بالانشقاق على الوفد. ودل اشتراك مكرم عبيد وحزبه الجديد فى تلك الوزارة، على قوة صلته بالسراى، وعلى أن انشاقه على الوفد، لم يكن بعيداً عن مؤامرات القصر وأعوانه.
وفى اليوم التالى 10 أكتوبر 1944 أعلن أحمد ماهر قراره بحل مجلس النواب، ذى الأغلبية الوفدية الساحقة، وبإجراء انتخابات جديدة، وقرر حزب الوفد فوراً مقاطعة تلك الانتخابات، لقناعته بأنها سوف تزور، شأنها فى ذلك شأن العديد من الانتخابات التى كانت تجريها أحزاب الأقلية المناوئة للوفد -قبل ذلك.
وكان طبيعياًً أن يرفض حزب الوفد أنصاره كل تلك الإجراءات، وأن تنتفض البلاد كلها غضباً منها، واعتراضاً عليها.
وقد أذيعت تلك القرارات بكل وسائل الإعلام المتاحه. أذيعت فى الإذاعة، ونشرت فى كل الصحف الصادرة وقتها، سواء من جانب الحكومة وأجهزتها، أو من جانب الوفد وأنصاره، وكل طرف من هذين الطرفين، يذيعها وينشرها بالطريقة التى تتفق مع موقفه وأهدافه.
لذلك، فعندما توجهت إلى الجامعة صبيحة اليوم التالى، فى 10 أكتوبر 1944 رأيت منظراً غير الذى كنت أراه فى الأيام السابقة.
زال المنظر الهادئ والوقور الذى كانت تتحلى به الجامعة، وتتحلى به كلية الحقوق بصفة خاصة، وحلت محله "حالة" أخرى. حالة من الهرج والمرج والغضب والهياج، لا تتفق مع جمال المكان وجلاله.
على سلم كلية الحقوق، وأمامه، وقف عشرات من الطلاب، أصبحوا مئات بعد قليل، وهو يتفون فى حماس وانفعال:
يسقط الظلم، يسقط الاستبداد، عاش الوفد، عاش النحاس حبيب الأمه، استفتوا الشعب، يحيا النحاس باشا. وكان يقود هذا الجمع نفر من زعماء الطلبة الوفديين، يقودهم طالب قوى البنيان، عرفت أن اسمه مصطفى موسى، وأنه زعيم الطلبة الوفديين جميعاً، ويحف به عدد آخر من الطلبة البارزين.
وعلى الجانب الأيسر كان هناك جمع آخر يقف على سلم مبنى إدارة الجامعة وأمامه، يقودها طالب أبيض البشرة، وسيم الملامح، عرفت أن اسمه "أمين عبد المؤمن" وأنه زعيم طلبة الكتلة الوفديه، حزب مكرم عبيد، ومعه عدد آخر من زعماء الفرق المتحالفة ضد الوفد. وكانوا يهتفون فى حماس وانفعال، هم أيضاً:
يعيش جلالة الملك العظيم، عاش ملك مصر والسودان، يسقط الوفد عدو الملك، يسقط مصطفى النحاس، يسقط أعوان الإنجليز، يسقط حكم الفساد، يسقط حكم المحسوبية.
وفى الحديقة التى تتوسط الحرم الجامعى، حول النصب التذكارى للشهداء، كان يتجمع فريق ثالث من ذوى اللحى، يقودهم شخص ذو لحية وزبيبة صلاة، طالب فى كليه الهندسة، اسمه (كما عرفت) مصطفى مؤمن، وكان هذا الفريق يهتف بهتاف واحد.
 الله أكبر ولله الحمد، القرآن دستورنا، الرسول زعيمنا، الجهاد سبيلنا، الله أكبر ولله الحمد.
 وتستمر الهتافات، ويزداد عدد الطلبة، ويتصاعد الحماس والغضب ويهتف الوفديون:
استفتوا الشعب، استفتوا الشعب.
ويرد خصوم الوفد:
يسقط الاستبداد، يسقط حكم الفساد.
ويردد الإخوان:
الله  أكبر ولله الحمد، الله أكبر ولله الحمد.
وفى غمار التهاف والحماس، وقعت بعض الاشتباكات بالأيدى، أو بالأحزمة الجلدية، أو ببعض الفروع التى كانت تقطع من أشجار الحديقة. ويتحول المشهد إلى صراع ونباح وهياج جنونى، إلى أن ينتهى بتدخل عاقل من بعض ضباط الحرس وأفراده، للتفريق ما بين المتعاركين.
وكنت أنفر أشد النفر من هذا المنظر، واكتفى بالمشاهدة، دون أن أسمح لنفسى بالانخراط فى هذا الهرج والمرج السخيف. وأحمد الله حين يتوقف كل ذلك اليهاج، بحلول منتصف اليوم، واتجاه الجميع إلى الانصراف.
عدة أيام متتالية والمشهد يتكرر بحذافيرة، والدراسة معطلة، فلا محاضرات، ولا أى نوع من النشاط. إلى أن عاد الهدوء إلى الموقف. وإن كان هدوءاً نسبياً ومؤقتاً، قابلاً للانفجار فى أى وقت. ولأى مناسبة.
وتتوالى الأيام إلى أن يذاع نبأ جلل، هو اعتيال الدكتور أحمد ماهر يوم 24 فبراير سمة 1945، برصاصات من مسدس أطلقها عليه شاب فى البهو الفرعونى بمجلس النواب. وكان الشاب يدعى "محمود العيسوى"، وكان محامياً شاباً ينتمى إلى الحزب الوطنى، ويعمل فى مكتب الأستاذ عبد الرحمن الرافعى، المؤرخ الشهير، وأحد أقطاب الحزب الوطنى، الذى كان مشتركاً فى الوزارة التى يرأسها القتيل. وحين سئل القاتل عن أسباب اغتياله للقتيل أجاب: لأنه أعلن دخول مصر الحرب على ألمانيا، وهى حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل. (وقد انتهت الحرب بعد ذلك ببضعة شهور).
وتم تكليف محمود فهمى النقراشى باشا، سكرتير الحزب السعدى، بتأليف الوزارة، فألفها بنفس التشكيل.
...
قبل أن ينتهى العام الدراسى، وتبدأ الامتحانات، ببضعة أيام، فوجئت بنبأ سيئ، إذ أخبرنى بعض الزملاء بأن هناك قائمة معلقة فى لوحة الإعلانات بمدخل الكلية، بأسماء مجموعة من الطلاب الذى تقرر حرمانهم من أداء الامتحان، لأنهم لم يحصلوا على نسبة الحضور المطلوبة لحضور الامتحان، وأن من بينهم اسمى. وجريت إلى تلك اللوحة، وتحققت من صحة النبأ. وقد وقع على ذلك النبأ كالصاعقة. وتداولت مع بعض الزملاء فيما يمكن عمله لتلاقى هذه الكارثة، واختلفت الآراء، وإذ بصديقى كمال عبد الحليم يتطوع كعادته للمعاونة، فيقترح على أن أذهب إلى وكيل كلية الحقوق، الدكتور الشيخ عبد الوهاب خلاف، فى منزله، لأخذ رأيه فيما أفعل، وللاستعانة به فى حل المشكلة. واتفقنا على اللقاء فى صباح الغد مبكراً. وقد كان. توجهنا إلى منزل الدكتور خلاف، وكان كمال قد حصل على عنوانه، وكان المسكن فى شارع يدعى شارع الأهوانى، بجوار سينما الأمير بشبرا، ودخلنا على الرجل وهو فى جلباب نومه، وشرحنا له الأمر، طالبين رأيه ومساعدته. وأبدى الرجل أسفاً ادقاً وقال بأنه لا يمكنه أن يفعل شيئاً، إذ لابد من تنفيذ القرار. وربما، إذا قدمت تظلماً، أن يكون هناك أمل، فى الاكتفاء بالحرمان من امتحان الدور الأول، والسماح بأداء الامتحان فى الدور الثانى. وهذا مجرد احتمال، وهو أقصى المستطاع.
 وخرجنا من عند الرجل وأنا أعانى شعوراً بالضياع، وتعبجت كيف حدث ما حدث، وأنا لا أعرف شيئاً عن نسبة الحضور هذه، ولم يخبرنى أحد بشئ عنها، ولم أعلن بأى تنبيه بشأنها. وعجبت أن يحدث هذا فى كلية "الحقوق" التى كان يجب أن تكون مثالاً يحتذى فى تحقيق العدلة مع طلابها، والأغرب من ذلك أنى عرفت بعد ذلك، أن هناك دفرتاً للحضور يوضع على منضدة فى أحد الدهاليز التى تكاد تكون خفية، فى مبنى الكلية، وأنه متاح لمن يشاء من التلاميذ أن يوقع عليه قبل الساعة التاسعة صباحاً، ولم أكن  قد عرفت عن ذلك شيئاً. والأعجب من ذلك أننى قد عرفت بأنه كان يمكن أن أتفق مع الفراش المكلف بهذاا الدفرت ليقوم هو بالتوقيع نيابة عنى يومياً، مقابل خمسة وعشرين قرشاً كل شهر، أى والله، خمسة وعشرون قرشاً كل شهر، كان يمكن أن يتجنبنى هذه الكارثة التى حلت بى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق