ذكريات شاعر مناضل: 17- صلاة الفجر

17- صلاة الفجر


كان الدكتور أحمد البدرى ناظر مدرستنا يقيم مع عائلته فى فيللا صغيرة تقع على مقربة من المدرسة فى منطقة غربى حلوان. وكان -كما علمنا من بعض طلاب القسم الخارجى من أهالى حلوان- من أبناء دمياط النابهين، وقد سافر بعد حصوله على ليسانس الآداب -قسم فلسفة- من جامعة القاهرة، فى بعثة إلى فرنسا، وعاد بعد سنوات إلى مصر وهو يحمل درجة الدكتوراه فى الفلسفة من جامعة السوربون فى باريس. ثم عين بعد عودته إلى مصر مدرساً للفلسفة وعلم النفس فى المدارس الثانوية، وتزوج دمياطية من أقربائه الأثرياء فى دمياط، وها هو الآن، يعمل ناظراً لمدرستنا فى حلوان، ويقيم بها مع عائلته المكونه من هذه الزوجة، ومن ابنتين شابتين تدرسان فى مدرسة حلوان الثانوية للبنات، الواقعة جنوبى المدينة، على مقربة من الكابريتاج. وعلمنا أيضاً أن الدكتور البدرى كان له ابن شاب - بكريه- مات منذ بضع سنوات غريقاً فى مياه البحر المتوسط، فى مصيف رأس البر، حيث كانت الأسرة كلها تقضى العطلة الصيفية هناك، ومن أجل ذلك فإن الدكتور البدرى يرتدى دائماً الكرافتة السوداء، ولا يغيرها أبداً. وعلمنا أيضاً أن الدكتور البدرى هو مؤلف كتب الفلسفة التى تدرس فى المدارس الثانوية، وأنه قد وضع إلى جانبها عدة كتب أخرى، منها: تأثير الفلسفة الإغريقية على الفكر الإسلامى، ودور أرسطو فى تربية الإسكندر الأكبر، وغيرها من الكتب التى كانت توجد نسخ منها فى المكتبة العربية بالمدرسة.
كان الدكتور أحمد البدرى رجلاً وسيم الوجه، رياضى الجسم، يميل إلى الطول، أسود الشعر، مع ظهور واضح للشيب فى سالفيه، وفى جانبى رأسه. وكانت له عينان سوداوان واسعتان يخالط بياضهما أحياناً، شئ من الحمرة. وكان حليق الذقن والشارب، حسن الزى والثياب، وقوراً هادئاً ودوداً، وإن كان يبدو فى بعض الأحيان ساهم النظرة، وتبدو على عينية ظلال حزنه الدفين.
وكان كثير الاهتمام بالطلاب، وخاصة طلاب القسم الداخلى بالمدرسة، حريصاً على الإشراف الدقيق على شئونهم. كان يعتبرهم أبنائه، فى عهدته وأمانته، لكونهم بعيدين عن أعين آبائهم وأهليهم، من أجل ذلك كان دائم الحضور إلى مقر الداخلية، فى أوقات متنوعة. فإلى جانب إشرافة على المدرسة كلها بقسميها الداخلى والخارجى أثناء الدراسة، فقد كان يحضر إلى القسم الداخلى كثيراً، ويشارك طلابه طعام العشاء أو الإفطار، ويمر عليهم فى أوقات المذاكرة فى الفصول المخصصة لذلك فى السراى الرئيسى بالمدرسة.
فوجئنا به ذات مساء ونحن فى فصول المذاكرة، وهو يوجه إلينا الدعوة لصلاة الفجر معه فى اليوم التالى -لمن يشاء- بمصلى المدرسة، وأكد أن حضور الدعوة اختيارى -لمن يشاء- وأن جرس القسم الداخلى سيدق إيذاناً بها قبل أذان الفجر بقليل. ودهشنا لذلك الأمر، ولكننا سررنا به باعتباره دليلاً على مودة الرجل لنا، ونوعاً من تغيير نظام الحياة الرتيب.
وفى الساعة الخامسة فجراً، سمعنا جرس الداخلية وهو يقرع، كما فوجئنا بأحد الفراشين يؤذن. وأسرعنا إلى الدور السفلى، حيث المصلى، وكان عبارة عن قاعة فسيحة مفروشة بالسجاد، وتقع فى ناحية من البهو الرئيسى، على مقربة من مكتب الناظر. ثم طلب الناظر من طالب بالسنة الخامسة يدعى "عامر" كان مشهوراً بالتدين والتقوى، أن يؤمنا جميعاً، والدكتور البدرى معنا، وفعل، وأدينا الصلاة، ثم أشار الناظر لنا بالجلوس فجلسنا على السجاد، وأشار الدكتور، فدخل اثنان من الفراشين وكل منهم يحمل سلة كبيرة وضعها أمام التلاميذ. ونظرنا فإذا بالسلتين مليئتان بحبات التفاح الأحمر. ووزع الفراشان التفاح على الحاضرين، بينما قال "عامر" لنا: هذه نفحة حب ومودة، يقدمها لنا ناظرنا العزيز، وهى هدية منه هو شخصياً. أكلنا التفاح وشكرنا للكتور البدرى هديته ومودته، وانصرفنا مسرورين.
وتكررت من الدكتور البدرى هذه الدعوة على صلاة الفجر، وعلى أكل التفاح أو الفاكهة الأخرى، أو على أكواب من عصير البرتقال، وخاصة فى أيام الجمعة أو العطلات الأخرى، وتزايد عدد حاضرى الصلاة.
وهكذا كن ناظرنا الفيلسوف يربينا بالحكمة والمودة والموعظة الحسنة. وبهذه الحكمة والوقار والموعظة الحسنة، كان الدكتور أحمد البدرى يدير كل شئون المدرسة الأخرى، الدراسة، والأنشطة الأخرى. وكانت علاقته بسائر الأساتذة والعاملين الآخرين، حتى الفراشين، علاقة والد بأولاده، وسار كل شئ بسلاسة وسهولة ويسر فى مجراه الطبيعى.
كانت هيئة التدريس منتقاه ومتكاملة وقديرة. كانت هيئة تدريس اللغة العربية، يرأسها الأستاذ أحمد محمود، المدرس الأول، وكان رجلاً كفؤاً ووقوراً وحسن الخلق، وكان معه المدرسون: الأستاذ حافظ، والأستاذ عمر الدسوقى، والأستاذ على قابيل. وكان على قابيل هو مدرسى فى فصل ثانية ثانى، وكان يقدر موهبتى فى اللغة العربية، وفى موضوعات الإنشاء بصفة خاصة، وتعبيراً عن هذا التقدير كان يسمينى: عباس محمود العقاد. وكان المستر هول هو المدرس الأول للغة الإنجليزية، وكان إنجليزياً قحاً لا يتكلم إلا باللغة الإنجليزية بالمدرسة، كما يشرف على فريق كرة القدم بها، على اختيار أفراد الفريق، وعلى تدريباته، وعلى المباريات التى يشارك فيها، وكان معه مدرسان إنجليزيان آخران، هما: المستر هيجنز، والمستر وينجفيلد، الذى كان هو مدرسى بالفصل. وكان المستر هيجنز يشرف على فريق الهوكى بالمدرسة. كانت الوزارة حريصة على حسن تعليم اللغات الأجنبية فى المدارس حرصها على حسن تعليم اللغة العربية، ولذلك فقد كانت تعهد بتعليم تلك اللغات الأجنبية، الإنجليزية، والفرنسية، إلى مدرسين إنجليز، وفرنسيين، حتى تضمن التعليم الجيد لهاتين اللغتين، لغة، ونطقاً، ولذلك كان مستوى خريجى المدرسة الثانوية فى معرفة ونطق الإنجليزية والفرنسية مستوى معقولاً. أما اللغة الفرنسية فكان لها مدرسان هما: المسيو مونييه بيل، ومحروس أفندى. وكان أولهما هو المدرس الأول، وكان فرنسياً، وكان شخصاً غريب الأطوار، بأناقته المبالغ فيها، ومرحه الدائم، أما الآخر فكان مصرياً من خريجى المدارس الفرنسية بمصر، الليسية الفرير.. إلخ.
وكان لسائر المواد الأخرى، العلوم، والرياضة، والمواد الاجتماعية، مدرسون أكفاء. وكانت لكل الأنشطة المدرسية الأخرى، الرياضية، والثقافية قياداتها المتميزة. وكانت بالمدرسة مكتبة إنجليزية يديرها المستر هول، ومكتبة عربية يديرها الأستاذ أحمد محمود، وكانتا تؤديان دوراً تثقيفياً جيداً.
وفى يوم من أيام شهر رمضان، زار القسم الداخلى زائر عظيم، هو الدكتور محمد حسين هيكل باشا، وكان وزيراً للمعارف فى ذلك الوقت، كما كان كاتباً وسياسياً وصحفياً شهيراً، وكان زميلاً وصديقاً للدكتور أحمد البدرى ناظر المدرسة. زارنا فى شهر رمضان، وتناول معنا طعام الإفطار فى مأدبة اشتملت -إلى جانب الأطعمية الرمضانية المعروفة على بعض أصناف الحلوى الشرقية، والقمر الدين، وغيره من المشروبات.
بعد أن انتهت المأدبة، قام الطالب الفنان أحمد الكردانى بتقديم فاصل غنائى فكاهى، وبعض الاسكتشات الأخرى، ثم قام هو وبعض أفراد فريق التمثيل بالمدرسة، بأداء أغنية وحوى ياوحوى، وبأيديهم فوانيس رمضان. وفى النهاية، نهض الوزير، وألقى كلمة طيبة حيا فيها الطلبة، كما حيا صديقة ناظر المدرسة. وقام الدكتور هيكل بتوزيع هدايا تذكارية على بعض الطلبة المتفوقين، وكانت نسخاً من كتابه الشهير "حياة محمد". وأنتهى الحفل بالتصفيق والهتاف بحياة مصر.
وبقيت بهجة هذا الحفل وما تركه فى نفوسنا من مسرة بضعة أسابيع، إلى أن صدمنا بنبأ فاجع غريب، هو اختفاء الدكتور أحمد البدرى، ناظرنا المحبوب، اختفاؤه عن عمله بالمدرسة، وعن منزله، فى نفس الوقت. ولم يقدم أحد أية معلومات شافية لتفسير هذا الاختفاء.
كل ما عرف بعدها هو أن الدكتور أحمد كان من عاداته أن يخرج وفت الفجر إلى المنطقة الجبلية الواقعة إلى الشرق من حلوان، ليتجول فيها مفركاً ومتأملاً فى هدأة الليل وسكونه، ثم ليصلى الفجر بها، ثم ليشاهد منظر شروق الشمس فى تلك البرية. ثم يعود إلى بيته ليتناول افطاره مع زوجته وابنتيه. كان يفعل ذلك فى بعض الأيام التى يحس فيها بحاجته الروحية والنفسية لأداء تلك الطقوس. ولكنه خرج فى هذا اليوم الموعود ولم يعد بعدها إلى بيته أو إلى مرسته. وأبلغت أسرته الشرطة، وأجرت الشرطة والمباحث أبحاثاً وتحريات متواصلة، وجئ بالكلاب البوليسية، وقصاصى الأثر، غير أن كل ذلك لم يسفر عن أى نتيجة.
وعشنا نحن طلاب مدرسة حلوان، وخاصة طلاب القسم الداخلى بها، أياماً وأسابيع عديدة، ننتظر ونسأل عن الأخبار دون جدوى، ونفوسنا نهب للقلق والحيرة، والظنون والتخمينات. ومما قيل إنه قد أكلته ذئاب الجبل، أو أن بعض الأشرار قد قتلوه ودفنوا جثته فى الجبل، وقيل أنه كان ولياً من أولياء الله وأن الملائكة حملته إلى حيث أراد الله له حياة أجمل وأفضل. وهذا ما منحنا بعض العزاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق