ذكريات شاعر مناضل: 4- صدق الوفاء

4- صدق الوفاء


فى اليوم لوصولى إلى القاهرة، توجهت إلى مدرستى الجديدة "صدق الوفاء الابتدائية".
خرجت من المنزل فى الصباح الباكر برفقة زميلى الجديد "محمود عمار"، وسرنا يمينا فى شارع بولاق الجديد لمسافة قصيرة، ثم اتجهنا يميناً مرة أخرى إلى شارع "الواجهة"، وهو الشارع الذى تقع فيه مدرستنا.
كانت المدرسة تحتل مبنى عتيقاً تقع واجهته الأمامية، وبوابته الخشبية الكبيرة على شارع الواجهة فى منتصف المسافة بين شارع بولاق، وشارع "الأحمدين". حين دخانا إلى فناء المدرسة، كانت تموج بالتلاميذ، وظل التلاميذ يتقاطرون بعد ذلك إلى أن امتلأ بهم الفناء، وكانوا يفرغون نشاطهم فى الكلام والضحك والجرى كاعادة الأولاد فى مثل سنهم. وبعد قليل رن جرس المدرسة إيذانا ببدأ اليوم الدراسى. وعلى الفور برز ضابط المدرسة ونفخ فى صفارته ثم صاح "طابور". وعلى الفور انقطعت حركة التلاميذ، وأسرعوا إلى أماكنهم فى طابور ثلاثى الأضلاع، ثم وقفوا صامتين ساكنين برهة قصيرة. وفجاءة خرج الأستاذ "سعد علام" ناظر المدرسة من حجرته بجوار البوابة الخارجية متوجها ليقف فى مواجهة الطابور فى ضلعه الرابع الشاغر. كان رجلاً فى أواسط العمر، حسن المظهر، نشط الخطوات، وقوراً، قوى الشخصية، تدعو شخصيته إلى الطاعة، والأحترام، نفخ الضابط مرة أخرى فى صفارته وصاح: نشيد العلم. وعلى الفور ارتفع العلم المصرى الأخضر بهلاله ونجومه الثلاثة، على ساريته فوق بوابة المدرسة، وانطلقت حناجر التلاميذ لتؤدى النشيد فى نشاط وحماس:
"بلادى بلادى فداك دمى ... إلخ".
وبعد أن انتهى النشيد، رفع الناظر يده بالتحية، وأشار للضابط الذى صاح بالتلاميذ: "محلك سر".. ثم نفخ فى صفارته مرة أخرى وصاح: "إلى الفصول" .. "للأمام سر".
اندفعت الصفوف الثلاثة كل فى اتجاه إلى فصولها، وسرت أنا وزميلى فى أحد هذه الطوابير إلى سلم ذى درجات قليلة، وإلى شرفة على جانبيها غرفتان، وعلى باب أحدهما لافته صغيرة تقول: ثالثة أول، وعلى الثانية لافته أخرى تقول: ثالثة ثانى. وكانت تلك هى غرفة فصلنا. ما هى إلا لحظات حتى دخل الأستاذ "عبد السلام" مدرس اللغة العربية والدين "إلى الفصل صائحاً": قيام. فوقف التلاميذ فى تختهم ساكنين، إلى أن قال: جلوس، فجلسنا فى هدوء وانضباط، إلى أن بدأ فى إلقاء درسه.
كان الأستاذ عبد السلام أزهرياً ولكنه هجر الزى الأزهرى وتحول إلى أفندى مطربش. وكان مدرساً قوياً فى مادته، قوى الشخصية ولكنه عصبى المزاج، تخالط صوته غنة أقرب إلى الخنف خاصة حين يرتفع صوته، بيده دائماً عصا خيزران، يشير بها مهدداً طول الوقت، ولا يتوانى عن استعمالها فى ضرب المخالفين أو المقصرين عند اللزوم.
ومع توالى الحصص، توالى حضور المدرسين.
إلى جانب الأستاذ عبد السلام، كان هناك الأستاذ ناشد، مدرس الحساب، والأستاذ فهمى، مدرس اللغة الإنجليزية، والأستاذ فرج مدرس العلوم "الأشياء الصحية" والرسم، أما حصة الألعاب الرياضية فكان يتولاها الأستاذ يسرى ضابط المدرسة.
فى الفسحة الأولى، بعد الحصة الثانية، كان التلاميذ يندفعون من كل الفصول إلى الفناء، حيث يعوضون سكونهم الطويل بالجرى واللعب والشقاوة، أو فى التوجه إلى مقصف المدرسة "الكانتين"، المقام فى كشك صغير من الصاج، تباع فيه بعض أنواع الحلوى، والمرطبات، والشطائر، ولكن أهم ما كان يباع فيه، هو أطباق المكرونة بالصلصة الحمراء، التى كان التلاميذ يفضلونها على أى شئ آخر، ويطلبونها بإلحاح وهم يصيحون بعامل الكانتين: مكرونة يا حسن. وربما أكون أنا التلميذ الوحيد الذى لم يذق هذه المكرونة، فقد كنت أعجز عن الحصول على طبق منها طوال الفسحة، لشدة الزحام عليها، ولصغر سنى وحجمى ولعدم قدرتى على المزاحمة.
سارت الأمور على ما يرام فى أمور فى أمور الدراسة. وانتظمت فيها بصورة أخذت تؤتى ثمارها على أدائى المدرسى، وساعد على ذلك انتظام أحوالى المعيشية بفضل الرعاية التى كنت أتلقاها من شقيقتى بهيجة. ثم إن الشيخ أحمد، زوج أختى، كان قد اتفق مع مدرس خصوصى، هو الأستاذ "محمد القماح" على الحضور إلى المنزل كل مساء، لإعطاء درس خصوصى لنجله محمود، ثم تقرر أن يعطينى الدرس أنا أيضاً مع محمود، فكان فى الواقع خير معين لنا على استذكار وفهم دروسنا.
حين ذهبت للحياة والمعيشة فى بولاق، كان شارع بولاق الجديد هو الشارع الرئيسى فى ذلك الحين، وتتفرع منه ومن حوله، شبكه كبيرة من الشوارع الفرعية، والحارات، والأزقة التى لا حصر لها، وكان يمتد طولاً من أمام مسجد "السلطان أبو العلا"، فى جنونه إلى منطقة "السبتية" فى أقصى شماله. وكان ذلك الشارع، فى أوائل عهدى فيه، مازال تحت الغنشاء والاستكمال، وكان الجزء الشمالى منه، وهو المنطقة الواقعة أمام مسجد "سيدى السباعى" مازال بقايا تل صغير من الركام والتراب والطين، هو بقايا قرافة قديمة من عهود غابرة، كان العمال مازالوا يعملون على إزالتها بالفئوس والكوريكات والمقاطف، لتسوية أرضها بالشارع الجديد واستكمال مسيرته فيها. وكثيراً ما كنت أرى هؤلاء العمال وهم يعملون، وهو يلتقطون بعض العظام والجماجم البشرية من الركام الذى يعملون على إزالته، ليزيحوها جانباً، ريثما يتم نقلها والتخلص منها.
كان المنزل رقم 86 بشارع بولاق الجديد، الذى كنت أقيم فيه مع شقيقتى وأسرتها، يقع فى منتصف ذلك الشارع. وكان مكوناً من أربعة طوابق، فى كل منها شقتان. وكنا نقيم فى إحدى شقتى الدور الثالث.
وفى أسفل العمارة كان هناك محلان، أحدهما لحلاق اسمه الاسطى محمود، كان الشيخ أحمد، زوج شقيقتى زبوناً عنده، ويحلق فيه ذقنه صباح كل يوم. كما كنت -أنا وزميلى محمود، نقص عنده شعر رأسينا من حين لآخر، ولم تكن ذقنانا فى حاجة إلى حلق، لأنهما لم تكونا قد نبتتا أصلاً فى ذلك الوقت. أما المحل الآخر  فكان لصائغ يهودى، يعمل فى بيع وشراء وارتهان المصوغات، كما يعمل بالتسليف بالربا فى بعض الأحيان.
ولصق العمارة، من جانبها الشمالى، كان (ومازال) يقع ضريح صغير لأحد الأولياء، اسمه "سيدى عبد الواحد". وكان الضريح عبارة عن حجرة بها ضريح له قبة صغيرة ومغطى بقماش من الحرير الأخضر، كنا نراه من المافذة المطلة على حديقته. كانت حديقة ذلك الضريح جنة صغيرة بهيجة، تظللها شجرة وارفة من أشجار "ذقن الباشا" ذات العطر الفواح، وتحيط بها، حول ممر صغير، خمائل صغيرة من شجيرات الريحان، والعطر، والنعناع. وكان هناك رجل غريب الهيئة، يرعى الضريح والحديقة، اسمه الشيخ حمزة، ولم يكن هذا الرجل مصرياً بالتأكيد، فقد كان رجلاً كهلاً ذا وجه أبيض مشرباً بالحمرة، وله لحية كبيرة وكثيفة حمراء العشر. ويرتدى جلباباً ناصع البياض، ويضع على رأسه قلنسوه من اللباد الأصفر اللون، كما كان ينتعل بخف أصفر اللون. وكان الشيخ حمزة يجلس على دكة خشبية صغيرة  فى حديقة الضريح. وأمامه منضدة صغيرة رصت فوقها أكواز من الزنك، مملوءة بالماء النقى البارد، الممزوج بماء الزهر والذى يعده الشيخ حمزة ويبذله لزائرى الضريح أو لعابرى السبيل، والذى يعتبره هو ويعتبره الناس سبيلاً من الأسبله الخيرية التى كانت معروفة فى ذلك الزمان. ومن حين لآخر ينهض الشيخ حمزة من مجلسة، فيقوم بملئ الأكواز التى فرغت من أبريق فخارى كبير موضوع إلى جواره فى ظلال الشجرة، ويقطر فيها من زجاجة يحتفظ بها من زجاجات ماء الزهر، وقد يقوم برى النباتات العطرية المزروعة فى حديقته الصغيرة، من رشاشة ماء يملأها من صنبور يقع فوق حوض صغير فى ركن من أركان الحديقة. لم يكن الشيخ حمزة يكلم أحداً ولم يكن أحد يعلم بأى لغة يتكلم إذا شاء الكلام، وأغلب الظن أنه لم يكن مصرياً ولا عربياً، وربما كان تركياً أو ألبانياً أو قوقازى الأصل، ولم يكن فى وسعى، وأنا فى تلك السن الصغيرة، أن استجلى مثل هذا الأمر. وكان الشيخ حمزة مترفعاً، وكان إذا أراد أحد أن يمنحه شيئاً من النقود، يشير له بأن يضعها على مائدة سبيل المياه، ولا يأخذها بيده، سواء كانت مليماً، أو قرشاُ. وكذلك كان يفعل إذا قد له أحد بعض الشموع أو أعواد البخور، إذ يشير إليه فى صمت بأن يضعها على رف بارز من نافذة الضريح.
كان محمود عمار هو زميلى ودليلى فى التعرف على البيئة التى انتقلت للحياة فيها. وكان شارع بولاق الجديد، هو شارع السوق الرئيسية فى حى بولاق، بحيث أنه لم يكن يختلف كثيراً عن الشارع الرئيسى فى مدينة الواسطى. كانت هناك دكاكين على جانبى الشارع، بقالون وجزارون وبائعون خردوات.. إلخ، ولكن كان هناك كثيرون من الرجال والنساء يبيعون الخضر والفاكهة وغيرها من السلع، إما على عربات اليد، أو من سلال أو مقاطف موضوعة على الأرض فى عرض الطريق.
وكنا نسير فى شارع بولاق جنوبا إلى مسجد السلطان أبو العلا ونتفرج على المسجد الفخم من خارجه فقط، كما نتفرج على المحلات المختلفة المحيطة به وما تعرضه من سلع، الكشرى، والفسيخ، والحلويات.. إلخ. وكنا نتخطى ذلك إلى السير على كوبرى أبو العلا لنشم هواء النيل العليل ونتفرج على المشاهد المحيطة به، بل كنا نتجاوز ذلك إلى السير فى المنطقة المجاورة للكوبرى بحى الزمالك، فى مغامرة جريئة للإطلال على الجو الأجنبى، أو على الحياة الراقية. وكان لباسنا فى تلك الجولات هو جلبابنا الأبيض وأحذيتنا الرياضية من الكاوتش الأبيض.
أو كنا نسير فى شارع "بولاق الجديد" شمالاً إلى ميدان سيدى السباعى، ثم إلى منطقة السبتية الأرقى نوعاً من مناطق بولاق. وهناك، فى حى السبتية، كنا نرى مدرسة عباس الابتدائية الأميرية، الأرقى بكثير من "صدق الوفاء"، أو مدرسة "الأميرة فوزية الثانوية للبنات" والتى كانت فوق مستوى خيالنا. وكنا نرى محطة ترام السبتية، وقاطرات وعربات ترام رقم 23، الذى كان يربط هذا الحى الشعبى بميدان باب الحديد، ووسط القاهرة.
وهناك أيضاً، سينما السبتية الوطنى، التى كانت محط أحلامنا، والتى كنا نذهب إليها فى أيام الخميس لنشاهد صور وافيشات الأفلام المعروضة فيها، وقد ندفع أحد عشر مليماً، لنأخذ تذكرة بالدرجة الثالثة "الترسو" لنشاهد مالذ وطاب من الأفلام التى تعرض بها، من أفلام مصرية مثل، أفلام بدر لاما، وبائعة التفاح، والمعلم بحبح.. إلخ، أو من المسلسلات الأجنبية مثل تومكس، وأربعين فرسخ تحت البحر، ورعاة البقر وأفلام شارلى شابلن، ولوريل وهاردى وهناك كنا نستمتع ونسعد بالفن السينمائى -الجديد علينا- فى أكثر صورة سذاجة وشعبية.
وقد تقودنا المغامرة إلى السير فى أرجاء حى بولاق الأخرى الممتدة على جانبية شرقاً وغرباً: شوارع درب نصر، والشيخ فراج، والشيخ على، والعدوية، وعشش الترجمان، أو الأحمدين، والواسطى، ودرب مسعود، والجوابر، ووكالة البلح، وورشة القطن، وغيرها من الحوارى والأزقة والمجاهل. وكثيراً ما كنا نتوه فى خضمها، ولا نجد طريقنا للخروج منها إلا بصعوبة. وقد ندخل إلى مكان فلا نستطيع العودة منه إلى المكان الذى دخلنا منه، بل نضطر إلى السير فى حلقات مفرغة حتى يساعدنا الحظ بالعودة إلى شارع بولاق ولو فى منطقة أخرى منه، أو بالخروج إلى شارع رئيسى آخر، مثل شارع فؤاد، أو السبتيه، أو غيرها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق