ذكريات شاعر مناضل: 68- ما تحت الأرض

68- ما تحت الأرض

لم أكن قد جربت الحياة تحت الأرض من قبل، وإن كان زملائى الثلاثة الآخرون فى القيادة المؤقته لحدتو قد سبقونى إليها، منذ بضعة شهور. والحياة "تحت الأرض" هو تعبير يقصد به الأختباء والتخفى داخل المجتمع ذاته، وهى الحياة التى يلجأ إليها المناضلون الثوريون، هرباً من الوقوع فى قبضة السلطات. وهاأنذا أصبحت جزءاً من هذا العالم. وكنت فى هذا أقتفى خطوات زميلى عبد الجابر خلاف، الذى كان مسئول التنظيم والأمن والاتصال - والمالية - فى القيادة المؤقته، والذى كانت له سابقة خبرة بهذه الحياة.
كانت للحياة تحت الأرض قواعدها وقوانينها، بل وقاموسها الخاص. وكان الشخص التى قدر له أن يمر بهذه التجربة، عليه أن يحفظ هذه القواعد عن ظهر قلب، وأن يلتزم بها بكل صرامة. الاعتبار الأول لمن يعيش تحت الأرض، هو أن يحافظ على أمانة، وعلى ألا ينكشف أمره أمام أحد. عليه أن يتصرف بطريقة عادية جداً، كما يتصرف الشخص العادى، بحيث لا يلفت أنظار أحد إلى الالتفات إليه أو الاهتمام بأمره، وكأنه الشبح الذى يعيش بين الناس وهم لا يشعرون بوجوده، وهذه مهارة خاصة يكتسبها الإنسان بالممارسة وليس بالكلمات، شأنها فى ذلك شأن السباحة، أو ركوب الدراجه، أو المشى على الحبال.
يجب على من يعيش تحت الأرض أن يحسن اختيار مسكنه، واسمه، ومهنته، وملابسه، وكلماته مع من يتحدث إليهم، بحيث لا يبدو غريباً على بيئته بأى شكل كان. كما يجب عليه أن يتفادى الأماكن المزدحمة جداً، كالمقاهى، ودور السينما، والمطاعم، التى يرتادها كثرة من الناس، فيكون عرضه لأن يتعرف عليه أحد من روادها. كما يجب عليه أن يتفادى كثرة السير فى الشوارع خوفاً من تعرف أحد من المارة أو رجال الشرطة عليه، وأن يختار دائماً وسيلة المواصلات - الأوتوبيس أو الترام، التى يؤمها عامه الناس.. إلخ.
وقد استطعت أن أتقن هذه القواعد، بدليل أننى عشت فى شقتى بالمنيل حوالى سته شهور دون أى خطأ واحد.
ولكن المشكلة التى كانت تزعجنى، وتزعج كل زملائى المحترفين الهاربين، كانت هى المشكلة المالية. فحياة الهارب المختفى، تحت الأرض، تحتاج طبعاً إلى مال ليعيش منه، فى مسكنه، ومأكله، ومواصلاته، بحيث لا يضطره العوز المادى إلى التصرف بطريقة قد تمس اعتبارات أمنه، ولم يكن ذلك يتوفر لنا دائماً. كنا نحن الأربعة. ومعنا ثلاثة آخرو فى القاهرة، وأربعة آخرون فى منطقة بحرى - نعيش حياة المحترفين، ومن ثم نحتاج إلى مبلغ كبير - نسبياً- من المال. وكان الرفيق عبد الجابر خلاف - "عبد الحكيم" - هو المسئول عن تدبير هذا المال بحكم مسئوليته التنظيمية والمالية. وكان يبذل فى ذلك جهوداً جبارة، حتى يمكنه الوفاء بتلك الاحتياجات. كانت الموارد المالية تأتى من الاشتراكات، والتبرعات، التى يقدمها الأعضاء والعاطفون، ومن ثمن مبيعات النشرات والمطبوعات التى نقوم بإعدادها وتوزيعها. غير أنه مع توالى حملات القبض والاعتقال، وانحسار نطاق الأعضاء والعاطفين، كانت تقل حصيلة تلك الموارد باستمرار. وكان أحد الموارد الهامة هو ما يرسله الزملاء المسجونونوالمعتقلون من مساعدات ماليه، يحصلون عليها من بعض عائلات المقتدرين منهم للإنفاق منها على احتياجاتهم داخل السجون والمعتقلات، وكانت هذه المساعدات غير منتظمة ولا مستقرة، إذ كانت تتأثر بالعديد عن تدبير احتياجاتنا نحن المحترفون رغم الجهود الهائلة التى كان يبذلها. وكان الرفيق صلاح حافظ، يلجأ أحياناً إلى بعض معارفه والعاطفين عليه من العاملين فى مجال الصحافة والفن، للتبرع لصندوق المنظمة ببعض المعونات.
ومع ذلك،فقد كانت النقود تشح، أو تنقطع عنا تماماً، لعدة أيام أحياناً. وأذكر فى إحدى تلك المرات، أننى نزلت إلى الشارع، لأذهب إلى محل صائغ فى منطقة الروضه، لأبيع له دبلة خطوبتى الذهبية، لأشترى علبه حليب أطفال لابنتى ليلى التى كانت ما تزال رضيعة فى هذا الوقت. ومازالت سهير- حتى الآن - تذكر هذه الواقعة بألم.
كان الزميل - بدير على النحاس - عضو اللجنة القيادية، ومسئول منطقة بحرى يطلب منى أن أسافر معه إلى الزقازيق، لحضور اجتماع للجنة المنطقة هناك، وذلك للرد على بعض تساؤلاتهم السياسية، بصفتى المسئول السياسى للمنظمة، وفهمت منه أن هؤلاء الرفاق يحتاجون إلى شئ من الدعم المعنوى يشد من عزائمهم فى مواجهة المصاعب العديدة التى تحيط بهم - وكانوا جميعاً من المحترفين الثوريين.
ذهبت معه بالقطار إلى الزقازيق، وأمضيت مع المجموعة يوماً وليلة، فى أحاديث ومناقشات متصلة. كانوا أربعة: منهم: صابر زايد (المرحوم)، ومحمد عمارة (الدكتور والمفكر الإسلامى الشهير الآن)، ورفيقان آخران. وكان صابر عاملاً، وكان هو المسئول عن الجهاز الفنى للمنطقة. شرحت لهم الوضع السياسى القائم، وما حدث فى أزمة مارس، وهزيمة الجبهة الوطنية الديموقراطية وأسبابها، ودارت مناقشات طويلة حول هذه الأسباب، شرحت لهم فيها رأيى فى هذا كله من وجهة نظرى المستقاة من واقع التجربة المباشرة. تناول الحدث مواقف أطراف الجبهة، ومسئولية كل طرف عن هزيمتها. ولكنى بلورت حديثى أخيراً فى مدى مسئوليتنا نحن، فقلت لهم إنه إذا كان على الثوريين، والشيوعيين خاصة، أن يقيموا التحالفات والجبهات، فى مراحل مختلفة من كفاحهم، إلا أن التجربة أثبتت أن الحزب الشيوعى، ينبغى أن يكون دائماً هو العمود الفقرى لهذه الجبهة، وهو أساس بنيانها ومصدر قوتها. ونحن لم نكن كذلك، فاستهانت بنا الأطراف الأخرى، فإنصرفت عنا وألقت براية الجبهة تحت أقدامها، وهرولت كل منها تبحث عن مصالحها الخاصة، وهذه طبيعة الجبهات. وكنا قد تناسيناها، لذلك دفعنا الثمن. وسرنى أن الرفاق لم ينازعوا فى صحة هذا التحليل.
كنا فى تلك الفترة قد دخلنا فى مأزق آخر، هو مأزق الخلاف مع رفاق اللجنة المركزية الدائمة لحدتو، الذين كانوا كانوا كلهم فى السجون فى ذلك الوقت، ما عدا كمال عبد الحليم وكان محور الخلاف أمران:
الأول، حول ما يسمى: بيان السجن الحربى، وكنا قد سمعنا من مصادر كثيرة، وخاصة من خلال اتصالنا بالمنظمات الشيوعية الأخرى التى كنا نلتقى بممثليها فى لجنة الوحدة، أن رفاقنا من قيادة حدتو - الذين كانوا مسجونين فى السجن الحربى خلال أزمة مارس، وكان منهم كمال عبد الحليم قبل الإفراج عنه صحياً، وكانوا قد وقعوا على رسالة سميت فيما بعد - بيان السجن الحربى، أيدوا فيها مجلس الثورة بقيادة جمال عبد الناصر، فى الصراع الذى كان دائراً بينه وبين محمد نجيب، وخصومه الآخرين. وكنا قد سألنا كمال عبد الحليم عن هذه القصة فلم يجبنا بإجابة واضحة، وكانت القيادة الدائمة للمنظمة لم تشر إلينا فى هذا الوقت بأى شئ عن هذا الأمر، رغم أنه أصبح مصدر قلق لنا فى علاقتنا بأعضاء التنظيم والعاطفين عليه، ومصدر حملة متواصلة علينا من المنظمات الشيوعية الأخرى. بصفته دليلاً جديداً على خيانة حدتو وانتهازيتها.
كتبنا إلى زملاء الثيادة الدائمة فى السجن (سجن مصر) نستعلم عن هذا الأمر، كتبنا لهم عن ذلك أكثر من مرة، وكان منهم عدد من الزملاء الذين قيل إنهم وقعوا على بيان السجن الحربى الذى كانوا به وقتذاك. كنا نريد إيضاحاً من الزملاء عن هذه المسألة، وطالبنا - بنسخة من هذا البيان الذى لم نكن قد أطلعنا عليه، وبتفسير الزملاء لهذا الأمر. وبدلاً من الاجابه لعى تساؤلاتنا، فوجئنا برسائل غاضبة تنهال علينا، وتتهمنا بأننا نعمل على إحداث انقسام جديد فى المنظمة، وكان انقسام بدر حديث الحصول. عدد كبير من الزملاء المسجونين وقعوا على رسائل الغضب هذه، ومن سجون مختلفة، بل ومن رفاق فى خارج البلاد.
والثانى: وهو مرتبط بالسبب الأول، هو أننا فوجئنا أيضاً باتهامات موجهة إلينا، بالتلميح لا بالتصريح، بأننا نعمل على تغيير الخط السياسى للمنظمة، وهو خط تأييد الثورة، وعلى عزل القيادة الدائمة لها، وتنصيب أنفسنا كقيادة بديلة لها.
وصاحب ذلك - إحساسنا بالتضييق المالى علينا، وبالتراخى عن إرسال المعونات المالية إلينا، فى وقت كنا قد بدأنا نشعر فيه بوطأة الأزمة الماليه وهى تلتف حولنا. وخامرنا الشك فى أن يكون ذلك أمراًمقصوداً، أو حتى "شبه مقصود"، وهو أمر لا يمكننا أن نقطع به. وفيمت بعد، بعد أن قبض علينا - نحن الأربعة، ودخلنا إلى السجون، وتقابلنا مع هؤلاء الرفاق المعنيين بهذه الأزمة وجهاً لوجه، وبقينا معهم فى السجون سنوات طويلة، لم يقم أحد منهم بمواجهتنا بأى شرح أو تفسير لهذه المواقف. وظل ذلك قائماً حتى الآن، وحتى أصبحت غالبية أطراف هذه الأزمة تحت التراب، والأمر لم يخرج من نطاق الظن إلى نطاق اليقين، ولكننى ظللت أشعر طوال هذه السنوات، وفى مناسبات مختلفة منها، بأن هذه المسألة قد تركت حساسية فى نفوس هؤلاء الرفاق تجاهنا - أعضاء القيادة المؤقته - وتجاهى أنا بصفة خاصة.
ولا أدل على صحة شعورى هذا مما قرأته مصادفة منذ وقت قريب فى كتاب أصدره الزميل مبارك عبده فضل - عنوانه "حدتو" شهادتى للتاريخ، الصادر من دار الثقافة الجديدة سنة 2000، فى حديثه عن دور القيادات الحزبية من دار السجون أو خارجها، قال فى صفحة 159 منه: "وكانت هذه القضية محل صراع حاد فى حدتو فى سنة 1953 - 1954، حين تولت اللجنة المؤقته (محمود توفيق - عبد الجابر خلاف- صلاح حافظ.. إلخ) مهام وقيادة حدتو فى الخارج بعد اعتقال وسجن قادتها المركزيين، كانت اللجنة القيادية المؤقته تحاول انتزاع السلطة الحزبية من الرفاق المركزيين فى حدتو. أو على الأقل تحاول تقليص سلطاتهم إلى أبعد الحدود، وفى النهايةانتصرت السياسة المبدئية التى تقول أن وضع الرفيق فى قيادة الحزب لا يتغير بدخوله السجن أو الأعتقال ". وهكذا تكشفت لى - بعد حوالى 46 سنة من تلك الأحداث (من سنة 1954 إلى سنة 2000) حقيقة مواقف ومشاعر هؤلاء الرفاق، بالرغم من أنهم لم يواجهونا أو حتى يفاتحونا بأى شئ فى هذا الشأن طوال هذه السنين، ولا فى أى مرحلة من مراحلها. وسبحان من يعلم دخائل النفوس. وها أنذا أرد على الرفيق مبارك فيما قاله عنى وعن زملائى، ولو بعد وفاته بعشر سنوات، يا رفيق، لقد كنتم مخطئين تماماً فى هذا الموقف، إذ أننا - أنا وزملائى فى القيادة المؤقته، لم نكن نحاول انتزاع السلطة المركزية منكم، أو "على الأقل" نحاول تقليص سلطاتكم إلى أقصى الحدود!! كا ما أردناه، هو أن نفهم أو نعرف شيئاً عن أمر وأمور تور حولنا، وتؤثؤ علينا أبلغ التأثير. ومما أسفت له أنه عندما قرأت هذا الكلام أخيراً، كان مبارك عبده فضل قد توفى منذ عشر سنوات، ولو كنت قد أدركته حياً، لكنت قد ذهبت إليه، وأكدت له، وأقسمت له بأغلظ الإيمان، أن شيئاً مما تطرقت إليه ظنونه هو وباقى رفاق اليقادة المركزية، لم يكن له أى نصيب من الصحة، وأننا - أنا ورفاق القيادة المؤقته، لم نكن نحاول انتزاع السلطة الحزبية منهم، ولم نكن "على الأقل" نحاول تقليص سلطاتهم إلى أبعد الحدود"، وأن هذا الأمر لم يكن يخطر لنا على بال، وكان كل ما يهمنا، هو أن نفهم، وأن نعرف مايدور حولنا من أحداث، وأن نقوم لواجباتنا الثقيلة فى هذه الظروف الحاكلة السواد، على أفضل نحو مستطاع. وعلى كل حال، فربما كانت أجواء ذلك الوقت، عام 53، 54، المليئة بالدسائس والمؤامرات، هى التى أوحت إلى هؤلاء الرفاق بتلك الأوهام والظنون. سامحهم الله.
وقع لى حادث بسيط فى أحد تلك الأيام، ولكنه اذطرنى إلى ترك شقة المنيل خلال ساعات، إذ بينما كنت خارجاً من باب العمارة التى تقع فيها الشقة، إذ وجدت أمامى وجها لوجه، أحد زملاء الدراسة فى الحقوق، وفى مدرسة شبرا الثانوية فى سنة التوجيهية، هو أخونا حامد توفيق، وكان شخصاً ودوداً ولطيف المعشر، ولم أكن أشك أبداً فى أمره وعندما رآنى صاح وهو يتجه لمصافحتى:
-محمود وفيق- أيه رياح طيبة، ماذا تعمل هنا يا عزيزى؟
لم أكن أستطيع أن أصارحة بوضعى، فلجأت إلى الكذب، وربما لو صارحته لما عمل أى شئ يضر بى- ولكن ربما يحدث ذلك منه بحسن نيه. على كل حال- فإن أمنى كان قد انكشف. وبات على أن أترك هذا المسكن فى أقرب وقت ممكن. قلت له، إننى كنت فى زيارة لبعض أقاربى الذين كانوا يقيمون فى تلك العمارة، ثم أنهيت الأمر سريعاً بالنظر إلى ساعتى، واستأذنته فى الانصراف دون أن أعطية فرصة لمزيد من الحديث.
فى ذلك اليوم، توجهت إلى حى السيدة زينب، ثم سرت فيه متجهاً إلى ميدان باب الخلق فى شارع الخليج المصرى، وإذ بى أحد هناك عمارة جديدة غريبة الشكل، عمارة صغيرة المساحة بشكل ملحوظ، ولكنها مرتفعه جداً، وكأنها بصغر مساحتها وارتفاعها مجرد مئذنه مسجد، ووجدت على بابها لافته "شقة للإيجار". توجهت إلى بواب العمارة، وسألته عن الشقة، فقال لى إنها فى الدور الأعلى - الثانى عشر - وكان كل دور فى تلك العمارة يتكون من شقة واحدة. طلبت منه أن يصحبنى لكى أتفرج على الشقة، وصحبنى الرجل فى مصعد العمارة الصغير، وتفرجت على الشقة، فأعجبتنى، ووجدتها تكاد تكون منعزله عن العالم بارتفاعها، وبعدها عن العمارات الآخرى، وعن أى جيران سواء من داخل العمارة أو من خارجها. وأعجبتنى أيضاً نظافتها، وأنها لا تحتاج إلى أى إصلاحات أو حتى تنظيف. وسألت عن إيجارها، فعلمت أنه عشرة جنيهات واتفقت مع الرجل على الذهاب معه مساء إلى صاحب العمارة لكتابه العقد، ودفع أجرة الشهر. فى المساء، كنت قد عرضت الأمر على الزميل خلاف، فأقرنى على تصرفى، وأعطانى مبلغاً من النقود يفى بمتطلبات الموقف.
ثم ذهبت إلى البواب فى مغرب ذلك اليوم، فأصطحبنى إلى صاحب العمارة فى عيادته بباب الخلق، وكان هو الدكتور "جمعه" طبيب العيون المعروف. كتبنا العقد باسم محمود على - المحامى - وتعمدت إسقاط اسم "توفيق" باعتباره هو الاسم الأساسى لى، ودفعت أجرة الشهر مقدماً، وكنا فى آخر شهر أكتوبر سنة 1954، وتسلمت مفتاح الشقة. وفى ظهيرة اليوم التالى ذهبت إلى عمارة المنيل ومعى سيارة نقل، استأجرتها من شارع الأزهر، فقمنا بنقل العفش، وتابعت سيارة النقل بسيراة تاكسى، وكانت معى سهير، وليلى، وتوجهنا إلى الشقة الجديدة، التى أعجبت سهير كثيراً، رغم غرابة أمرها. وكانت هناك بلكونه لطيفة، بدأت ليلى تلعب فيها، وهى بين الأرض والسماء. أعجبتها الإقامة فى الشقة الجديدة، وكان الشئ الوحيد الذى أزعجها فيها، أن المصعد، كان كثر الأعطال، بسبب طلوع السلم أو نزوله، وكان على أنا - فى مثل تلك الحالة، أن أنزل وأصعد، الأثنى عشر دوراً، لشراء اللوازم، أو لقضاء المصالح. ولكن من حسن الحظ، أنه كان هناك مقهى صغير أسفل العمارة، كنت أجلس عليه أحياناً، انتظر عودة المصعد إلى العمل، بعودة التيار الكهربائى .
سارت بنا الحياة فى مجراها المعتاد، ثم أحست سهير بحاجتها إلى الراحة مع تقدمها فى حالة الحمل، وأخذت ليلى وذهبتا إلى بيت والدتها فى حلمية الزيتون، وبقيت أنا وحدى أتدبر أمرى فى ذلك البرج السماوى الذى كنت أقيم فيه. وكنت أنزل منه وأعود إليه من حين إلى حين، لأباشر مهامى التنظيمية، إلى أن حدث ما ليس فى الحسبان.
كان ذلك يوم الأربعاء، الموافق 14 ديسمبر سنة 1954، وفى تمام الساعة الحادية عشر صباحاً، توجهت إلى شقة زميلنا عبد الجابر خلاف. فى إحدى العمارات بشارع الدرى، بمنطقة العجوزة، وكان ذلك هو الوقت المتفق عليه لاجتماعنا الأسبوعى. طرقت الباب بالطريقة المتفق عليها، طرقة واحدة، ثم طرقتان، وفتح الباب، وأدخلنى خلاف إلى غرفة جلوسه، حيث وجدت هناك كلاً من صلاح حافظ، وبدير النحاس، وبدأنا نستعد لعقد الاجتماع، ونشرب الشاى الذى كان عبد الجابر قد فرغ من إعداده. وقبل أن نبدأ اجتماعنا. سمعنا طرقاً خفيفاً على الباب، لم نعره اهتماماً، وحسبناه طرق طفل صغير من أبناء الجيران.وتكرر الصوت، فذهب عبد الجابر لفتح الباب واستطلاع الأمر. وما أن قام خلاف بفتح الباب، حتى سمعنا أصواتاً عالية، انفتاح الباب بقوة وأصوات أقدام تقتحم الشقة، وعدد من الرجال يقتحمون مكاننا ويتولى كل منهم الإمساك بواحد منا من عنقه ومن ملابسه. وأدركنا حقيقة الأمر.
كانوا عدداً من ضباط المباحث العامة يرأسهم شخص طويل عريض، يخالط شعره قليل من الشيب، عرفنا بعد ذلك أن اسمه - المقدم عبد الرحمن عشوب، المفتش بقسم مكافحة الشيوعية، ومعه خمسة ضباط آخرون، وعدد كبير من المخبرين فى ملابس مدنية، قاموا بالقبض علينا، ووضع الكلبشات فى أيدينا. ثم قاموا بتفتيش ملابسنا، وتفتيش الحجرة والشقة كلها فلم يعثروا بها إلا على بعض الأوراق التى لا قيمة لها. ثم سألوا كلا منا عن اسمه، وعمله، وعنوان اقامته. أما أنا فقلت أن اسمى هو محمود توفيق، فهز عشوب رأسه مؤمناً على كلامى، وعن عنوانى قلت لهم إننى أقيم بالواسطى وليس لى عنوان بالقاهرة، وكنت مطمئناً إلى أنهم لا يعرفون مسكنى الجديد، الذى كان مليئاً بخيرات الله، من الأوراق، المخطوطة والمطبوعة. وكنت اتصرف بثقه وثبات بينما عشوب ينظر إلى ساكتاً وهو يتأملنى بشئ من الدهشة.
كنت قد قررت التزام موقف الإنكار فى كل شئ إلا اسمى وعملى كمحام. وكنت أعرف أن الاعتراف هو سيد الأدلة، فلم أكن أريد أن أسهل عليهم مهمة إدانتى وإدانتة زملائى.
عندما فتشونا لم يجدوا معنا أى نقود، كل ما كان معنا نحن الأربعة لم يتجاوز أربعة قروش ونصف. وأعادوا تفتيشنا وتفتيش الشقة عدة مرات، فلم يجدوا سوى هذه القروش الأربعة والنصف، التى جمعوها من جيوب أربعة زعماء شيوعيين، منهم اثنان من المحامين، وثالث صحفى شهير،  ورابع موظف حكومى، وكانوا يبدون استغرابهم ودهشتهم لهذا الأمر، ولسان حالهم يقول: أمال فين الفلوس بتاعة موسكو؟ وحتى المخبرين كانت تبدو عليهم الدهشة، وخيبة الأمل.
ساقونا إلى مقر المباحث العامة بالجيزة، وبعد قليل أخذونى أنا فى سيارة بوكس مع ضابط يدعى: محمود مراد، وبعض المخبرين، إلى الخارج، وسألنى الضابط، يا محمود، فين بيتك؟ -فقلت له: فى الواسطى فسكت ثم أمر السائق اطلع يا اسطى، وفوجئت بالسيارة تسير حتى وصلنا إلى ميدان السيدة زينب. وسألنى الضابط: يا محمود.. فين بيتك؟ فقلت له: فى الواسطى، فأشار للسائق، فسار السائق حتى دخل إلى شارع الخليج، فسألنى: يا محمود.. فين بيتك؟ فأجبته معانداً: فى الواسطى، فتوقفت السيارة، أما باب العمارة التى أسكن فيها. وما أن رآنى البواب والكلبشات فى يدى حتى تقدم إلى منزعجاً وهو يصيح: إيه يا أستاذ محمود، كفا الله الشر. قلت له فى سرى: الله يخرب بيتك.
وكان الضابط قد وجد فى جيب بنطلونى الصغير مفتاح الشقة، وأخذه، وعندما وصلنا إلى باب الشقة، برفقة البواب، أخرج الضابط المفتاح وأدخله فى الباب فانفتح، فنظر إلى وهو يضحك سائلاً، يا محمود، فين بيتك؟ - فقلت له أيضاً: فى الواسطى.
فبدأ عملية التفتيش، وخرج منها بكم من الأوراق الخطية والمطبوعة، وبآله كاتبه، ثم خرجنا، إلى مقر المباحث العامة بالجيزة.
فيما بعد، بمجرد أن التقينا وحدنا، أنا ورفاقى الثلاثة: عبد الجابر خلاف، وصلاح حافظ، وبدير النحاس، أخذنا نناقش ظروف القبض علينا، محاولين أن نحدد كيفية وقوع الضربة، وما هو الخطأ، أو الأخطاء التى أدت إليها، كما أننا بمجرد أن وصلنا إلى سجن القناطر الخيرية الذى نقلنا إليه بعد ذلك، عرضنا الأمر على لجنة تحقيق شكلها الرفاق المركزيون هناك، وفقاً للنظام الذى كان متبعاً وقتذاك فى مثل هذه الحالات، ونوقش هذا الأمر من جميع زواياه مناقشة تفصيلية دقيقة، لم نتواصل إلى إجابة شافية لهذا السؤال. بل وصلنا فقط إلى مجرد افتراضات غير كافية للحصور على اليقين المطلوب.
فقد كان المتيقن من الوقائع، يدل على أن منزل الزميل خلاف- وهو المنزل الذى تم القبض علينا فيه، كان معروفاً ومراقباً من البوليس، ولكن لماذا، ومنذ متى؟ لم نكن نعرف. وكان المتيقن من الوقائع، أن منزلى أنا كان معروفاً للبوليس، ولكن منذ متى، لا نعرف، ولكن الراجح أن ذلك كان منذ فترة قريبة، إذ أننى كنت حديث عهد بالانتقال إليه.
والقبض علينا نحن الأربعة، ثم توجيه الأتهام إلينا، ومحاكمتنا والحكم علينا جميعا- فيما بعد، يخرجنا كلنا من ذائرة الشك.
لم يبق إذن أمامنا إلا أن نفترض أن واحداً منا نحن الاثنان - أنا وعبد الجابر، كان قد انكشف أمانه، وعرف مسكنه. وأن مسكن عبد الجابر كان مراقباً حتى جرى القبض علينا نحن الأربعة فيه.
وربما كان انكشاف مسكن أحدنا - أنا أو عبد الجابر - كان هو السبب فى انكشاف مسكن الآخر، وأن ذلك قد جاء بالتبعية، وربما كان ذلك لخطأ فى الأمان وقع فيه أحدنا ولم يتنبه إليه فى الوقت المناسب. وربما كان ذلك قد حدث بمحض الصدفه.
غير أن الافتراض الأكثر رجحاناً، أن تكون تحريات الشرطة عن طريق حر سكان الشقق وفحصها، وهو عمل كانوا قد أخذوا يقومون به فى تلك الأيام بكل نشاط، بحثاً عن الهاربين السياسيين، خصوصاً من الأخوان المسلمين. بعد حادث المنشية ومحاولة اغتيال عبد الناصر، وما أعقبها من توتر أمنى شديد هى التى قادت إلى اكتشاف أماكن سكنانا.
على كل حال. فقد انتهينا من البحث، إلى أنه لم يكن أحد منا - نحن الأربعة، مشكوكاً فى أمره.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق