ذكريات شاعر مناضل: 60- قل سيروا فى الارض

60- قل سيروا فى الارض

وصلنا إلى منزلنا بالزاوية فى السراية بعد أن هبط الظلام، وعرف بعض أقاربنا بوصلنا، فجاءوا لتحيتنا على عجل، وتركونا لنستريح. وقضينا الليل فى المنزل الذى كان خالياً لمدة ثلاثة شهور. وصحونا فى الصباح فوجدنا أن بعض أقاربنا قد أرسلوا إلينا شخصين للعمل فى أعمال نظافة المنزل، أحدهما رجل أسمه محمد السبكى، الذى كنت أعرفه من قبل، وو شخص مدرب على الأعمال المنزلية، والثانية هى سيدة فى منتصف العمر اسمها "أم صابر" لم أكن أعرفها، وتبين لى أن لديها بعض الدراية بالأعمال المنزلية، ولكنها على دراية أكبر بأعمال الطهى. وبدأت عملية نظافة البيت، وقمنا –أنا وسهير- بترتيب أشيائنا، وغرفة نومنا.
 وبعد قليل، حضر "زارع" سائس الفرس وهو يقودها، وما أن رأتنى الفرس حتى عرفتنى، وصهلت لتحيتى، فتقدمت إليها وربت على رأسها وعنقها. ثم كلفت زارع بأن يسقيها ويضع لها علفها، ثم يربطها فى مكانها المعتاد تحت شجرة المانجة أسفل الشرفة. وكلفته أن يذهب بعد ذلك سيراً على الأقدام إلى الواسطى، وأن يخبر موظفى المكتب بحضورى، ويطلب منهم الحضور للقائى.
 حضر عدد من الأقرباء، والقريبات لتحيتنا، وتقديم التهنئة لى وبالإفراج عنى، وهم يرددون كلمة "كفارة"، المألوفة فى حالات الإفراج عن المسجونين.
 وكانت أم صابر قد أعدت لنا –على عجل- طعاماً سريعاً، وقبل أن أبدأ فى تناول الغداء، حضر موظفوا المكتب الثلاثة راغب أفندى – وسيدهم أفندى – وعبده الفراش، فدعوتهم للغداء معى. وبعد الغداء جلست معهم لتناول الشاى، والحديث عن أحوالهم وأحوال المكتب، وما حدث فيه بعد غيابى. فأخبرونى أن تلك الأحوال سارت على نحو معقول، وأنهم لقوا التشجيع والمعونة من الزملاء المحامين، وخاصة من الأستاذ كمال سيد أحمد، الذى تطوع للحضور نيابة عنى فى جلات القضايا التى نظرت فى غيابى. كما أخبرونى بتشجيع الكثيرين من الموكلين لهم، وسؤالهم عن أحوالى فى تلك الفترة، ودعواتهم لى بسلامة العودة.
 ساعدتنا النقود التى كانت سهير قد تسلمتها من نقابة المحامين كثيراً، فى مواجهة مطالب حياتنا، فحمدت الله وشكرت أخى الأستاذ يوسف حلمى على صنيعة فى هذا الشأن.
 فى صباح الغد، ركبت فرسى وتوجهت إلى البندر، لدخول مكتبى بعد انقطاعى عنه لمدة ثلاثة أشهر. سرت بالفرس فى الشارع الرئيسى بالمدينة، وهو شارع السوق، وشاهدنى الناس فى مدخل المدينة، فى السوق، والمحلات التجارية المطلة عليه، وأشار لى الكثيرون بالتحية، وهم باسمون متهللوا الوجوه، والكثيرون منهم يصيحون بأصوات عاليه: حمد الله على السلامة، حمد الله على السلامة. وكنت أشعر بالسرور لما أراه من حفاوة الناس بى، ومن تعاطفهم البادى معى. كما كنت أشعر، بأننى لست نفس الشخص الذى كان يسير بين الناس منذ شهور قليلة، وأن الأحداث الجسام التى مررت بها، قد تركت أثرها على.
 فى المكتب ، استقبلت العديد من الزائرين الذين حضروا للتحية وللتهنئة، زملائى المحامين، وخاصة الأستاذ ظريف تادرس الذى قابلنى بالعناق الحار، والأستاذ كمال سيد أحمد، الذى شكرته بحرارة على موقفة الكريم ، فأجابنى:
 -لا شكر على واجب. خيرك سابق.
 كما استقبلت عداً من الموكلين، الذين جاءوا للتحية والتهنئة، ولتذكيرى بقضاياهم، وكانت منهم، الزينبات الثلاثة، اللواتى لم ينسين إعطائى، الجنيهات المعتادة.
 سارت الأمور فى مجراها المعتاد، وبدأت القضايا الجديدة، ومعها الرزق الجديد ترد إلى المكتب. كما بدأت ترد إلى الطلبات للحضور مع المتهمين فى تحقيقات النيابة، حيث كنت أحظى بالود والإكرام من صديقى وزميلى –محمد بكر شافع- الذى كان مازال وكيلاً لنيابة الواسطى، من حسن الحظ.
 وجاءتنى قضية جنحة جديدة، اتهمت فيها الدكتورة –نبوية.. كبيرة الحكيمات فى وحدة رعاية الطفل بالواسطى، ومعها حكيمتان أخريان، أتهمن بالتعدى على صيدلى بالسب والقذف، وضرب الطوب، فى صيدليته القريبة من مقر عملهن، وقام الصيدلى بتحرير محضر لهن بالقسم، أحلن بسببه إلى النيابة العامة قبل حضورى، وأحيل إلى جلسة الجنح بالمحكمة. وقد طمأنتهن إلى الحكم بالبراءة إن شاء الله. ولكننى سررت بتولى هذه القضية –بدون أتعاب- محاملة لهن وهن ضيوف فى البلد، خاصة وأن سهير زوجتى كانت قد اقتربت من موعد الوضع، وأننا سوف نحتاج إلى معونتهن.
 بعد أسبوع من عودتنا، فوجئت بزيارة من يوسف صديق، ومعه زوجته –شقيقتى عليه، وولداهما –حسين ونعمت- الذين حضروا لزيارتنا وللإقامة لمدة يومين –فسررنا- أنا وسهير- بتلك الزيارة، ولكننا صدمنا بنبأ سفر يوسف إلى خارج البلاد خلال أيام، بقرار من مجلس قيادة الثورة، بدعوى دخولة إلى مصحة بسويسرا، لعلاجه من بعض الأعراض الصحية التى كان يشكو منها –وخاصة آثار نزيف الرئه، ومرض الأكزيما الذى كان قد أخذ ينتابه فى يديه، تم بحجة إراحته نفسياً وعصبياً، تمهيداً لاستئناف إعادة أواصر التعاون بينه وبين زملائه فى المجلس. وعلمت منه أن المدة المقررة لغيابه، هى ثلاثة أشهر. وعلمت من يوسف أن الاستقالة التى كان قد تقدم بها إلى اللواء محمد نجيب من مجلس قيادة لثورة، ما زالت معلقة لم يتم البت فيها، لا بالموافقة ولا بالرفض، ولكن يوسف مازال مصراً عليها ولم يقم بسحبها رغم الإلحاح عليه فى ذلك، من جانب الكثير من زملائه. وسمعت منه أنه يرى أن مبررات الاستقالة مازالت قائمة لديه، بل إن تلك المبررات، لم تنقص، بل إنها تزايدت يوماً بعد يوم.
 وفى ختام الزيارة، ودعنا يوسف، بعد أن وعدناه باستمرار عنايتنا بأسرته فى القاهرة. ودعناه ونحن ندعو له بسلامة الذهاب ، وسلامة العودة.
 قبيل الفجر، فى يوم 25 مايو سنة 1953، صحوت من نومى على أنات ترسلها زوجتى سهير، وعلمت منها أن تلك الآلام قد بدأت تنتابها منذ قليل، فعرفت أنها غالباً ما تكون هى آلام الوضع، خاصة وأن موعد وضعها كان قد حان.
 أرسلت "مرسالاً" على الفرس إلى البندر، ليخبر الدكتورة "نبوية" –رئيسة مركز رعاية الطفل- التى كنت قد أتفقت معها على أن تتولى مهمة ولادة سهير، والتى كانت قد حضرت منذ أيام لزيارة سهير والأطمئنان على صحتها، وحالة الجنين. وكنت قد أتفقت مع الدكتور "محمد عبد السميع" طبيب أمراض النساء والتوليد بالبندر، على أن يتولى الإشراف على حالة سهير عند اللزوم.
 وما هو إلا قليل من الوقت حتى عاد المرسال، وخلفه عربة الحنطور، الخاصة برعاية الطفل، وفيها الدكتور نبوية، وزميلتاها، وكانت سهير مازالت تعانى من أنات الوضع، وكانت معها شقيقتى "هدى"، وابنه خالتى "تفيدة-أم لطفى" التى كانت لديها بعض الخبرة فى هذه المواقف، والتى كانت لا تتأخر عن المساعدة فى مثل هذه الأمور.
 ظلت الحكيمات، وقريباتى معهن، مع سهير، يساعدنها ويشجعنها، وطال الوقت، وهى ترسل أناتها العالية، حتى أصابنى القلق، وفكرت فى أن أرسل فى استدعاء الطبيب، لولا أن الله أنزل علينا رحمته، فسمعت بكاء الوليد. وكان صوتاً نحيلاً لم أسمعه من قبل، وبعد قليل خرجت أختى هدى وهى تقول لى:
 -مبروك عروسة زى القمر.
 فلم أتمالك نفسى من الفرحة، والانفعال، ووجدت الدموع تنهمر من عينى، وأنا أردد:
 -الحمد لله - الحمد لله.
 وقيل بعد ذلك أننى بكيت إذ علمت أن المولود أنثى، وكنت أنفى ذلك صادقاً وأؤكد، أن بكائى كان فرحاً، وانفعالاً بفكرة أننى لم أعد وحيداً فى الحياة، بل إننى أصبحت رب أسرة. ودخلت إلى سهير فعانقتها مهنئاً بالسلامة. وشكرت الدكتورة نبوية وزميلاتها. وسألتنى وهى تحمل إلى الوليدة:
 -القمر دى، هاتسميها إيه؟
 فقلت لها، وكان الاسم على طرف لسانى:
 -ليلى.
 وكان هذا هو الاسم الوحيد الذى يخطر على بالى لابنتى. اسم كان رمزاً لفتاه عربية جميلة، وهو الاسم الذى يبعث من التراث الأدبى العربى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق