ذكريات شاعر مناضل: 35- بعد العاصفة

35- بعد العاصفة


جاء فيضان النيل سنة 1946 عالياً جداً، وما لبث أن تحول إلى طوفان جارف اجتاح العديد من المناطق فى الصعيد والدلتا، فحطم الجسور، وأغرق الأراضى الزراعية، وما عليها من القرى ومنها "زاوية المصلوب" -أو الزاوية" - قريتنا، وفيها منزلنا "السراية"، والحديقة المحيطة به. وما أن علمت شقيقتى "بهيجة" بذلك، حتى أخذت صغارها ورحلت إلى القرية لترى ما حدث، ولتحاول أن تتدارك ما حل بالمنزل والحديقة من دمار. وكانت بهيجة شاعرة وأديبة، وذات خيال خصب، وذات همة عالية، تعلو على همم كيثر من الرجال. ذهبت إلى القرية، ونزلت -هى وصغارها- فى بيت وزجها هناك- وتفقدت "السراية" وحديقتها، وعرفت ما حل بهما من دمار. وما أن انسحبت مياه الفيضان حتى شمرت عن ساعد الجد، فباعت حليها الذهبية، واقترضت كل ما استطاعت اقتراضه من النقود، من بعض الأقارب والأغراب، واستدعيت أفضل البنائين فى القرية، الذى أخبرها -بعد معاينته للمكان، بأن السراية تحتاج إلى ترميم كبير، وإلى إعادة بنائ بعض أسوارها التى تهدمت كما أن قسماً كبيراً من الحديقة قد تلفت أشجاره ويلزم اقتلاعها، بينما يمكن إنقاذ القسم الآخر. تلك الحديقة التى كانت ملعب صباها، والتى قالت عنها فى إحدى قصائدها:
مسك فايح فى الجنينة
ولا زهر البرتقال
الشتا طول علينا
يا ربيع اظهر وبان
وقامت بشراء ما يلزم من المواد للترميم والبناء، وباستئجار العمال، ثم بدأت العمل بهمة لا تعرف الكلل، وعلى مدى عدة شهور، تم لها ما أرادت، رممت المنزل، وأعادت بناء الأسوار المتهدمة، وأصلحت ما أمكن إصلاحه من الحديقة. ثم عادت إلى القاهرة قريرة العين.
وفى هذه الأثناء كنت أنا فى القاهرة مشغولاً بواجبى التنظيمى، فى متابعة نشاط المجموعة التى توليت مسئوليتها، وفى المحافظة على الاتصال بالمستوى الأعلى فى التنظيم، قم فى موالاة المتابعة لأحوال الرفاق المقبوض عليهم فى قضية صدقى، بل وسائر كل من شملتهم الحملة، وخاصة من كنت أعرفهم والذين كانت تربطنى بهم صداقة أو زمالة أو معرفة، ومتابعة تزويدهم باحتياجاتهم من الطعام، والأدوية، والمستلزمات الأخرى، وذلك بالتعاون مع إبراهيم عبد الحليم من ناحية، ومع رفاق المجموعة من ناحية أخرى، كما كنا -أنا وإبراهيم عبد الحليم -على اتصال شبه يومى مع الدكتور عزيز فهمى المحامى، لمتابعة مجريات التحقيق فى القضية، وإبلاغ التنظيم بتطوراته، للنشر عنها فى منشورات الحزب  وصحيفته السرية "كفاح العمال".
كنت أعرف من بين المقبوض عليهم: كمال عبد الحلبم طبعاً، وعبده دهب رئيس تحرير أم درمان -تلك التى كانت تصدرها الحركة المصرية للتحرر الوطنى بصفة علنية، والتى كثيراً ما كانت تنشر لى قصائدى الكفاحية فى سنوات 1945 - 1946، وكثيراً ما كنت التقى به -عبده دهب- فى مقر المجلة بشارع "إبراهيم باشا" -الجمهورية- حلياص، كما كنت التقى به فى مقهى إيزائيفتش أيضاً، وعبد الماجد أبو حسبو -زميل الكلية، وزميل البوفيه بها، والشاعر، ولاعب الكرة البارز، والجليس المؤنس الظريف. وعبد الرحمن الشرقاوى، الشاعر والكاتب والمناضل اليسارى المعروف، ونائب رئيس اتحاد خريجى الجامعة، ورئيس تحرير مجلة "الطليعة" التى أغلقها صدقى، والذى كنا نلتقى به -أنا وبعض الزملاء- فى مقر المجلة. ومقر الاتحاد -فى شارع عماد الدين، والذى أغلقه صدقى أيضاً. وعمر رشدى -الأديب والمثقف البارز، والمحدث الظريف، الذى كنا نقرأ له، ونلتقى به كثيراً فى مقهى ايزائيفتش.
وكنا قبل حملة صدقى قد اعتدنا على الذهاب إلى مقر تلك الجرائد -أم درمان- الفجر الجديد- الطليعة، وإلى العديد من المحافل والأندية اليسارية الأخرى: دار الأبحاث العلمية، التى كان مقرها فى 7 شارع نوبار، وكان يرأسها الشهيد عطية الشافعى، ويقود نشاطها هو وعبد المعبود الجبيلى، وينشط فيها، جمال غالى، وأنجى أفلاطون، ولطيفة الزيات.. وآخرون، حيث كانت تقام الندوات والمحاضرات، بعضهم من الطلبة، وكثير منهم من المثقفين والأدباء، وأذكر حضور إسماعيل الأزهرى المناضل السودانى -والذى أصبح بعد ذلك رئيساً للسودان، وزعيماً للحزب الوطنى الديموقراطى الاتحادى به. وكان صدقى - طبعاً قد أقفل هذه الدار فى حملته. وكنا نحضر أيضاً بعض الندوات التى كانت تقام فى "دار نشر الثقافة الحديثة" فى مقرها بشارع القصر العينى، والتى كان يحضرها ويديرها كل من: سعيد خيال، وأسعد حليم، ونعمان عاشور، وعبد الرحمن الشرقاوى. وغيرهم. وكنا نحضر أيضاً بعض الندوات التى كان يقيمها التروتسكيون، فى مقرهم بشارع علوى، بوسط القاهرة. وكل هذه المنتديات والجمعيات التى كانت تنشر الوعى والفكر التقدمى واليسارى -وغيرها، قد أغلقت فى حملة صدقى، كما أن معظم الشخصيات البارزة فى نشاطها كانوا من بين المقبوض عليهم فى تلك الحملة.
وكان مقهى إيزائيفتش بميدان الإسماعيلية (التحرير حالياً)، هو الآخر بمثابة منتدى آخر للمثقفين اليساريين، ومحلاً مختاراً للقاءاتهم ومجال سمرهم. وكان عميد مجالسه الوجيه المعروف: عبد المنعم بك الشريعى، وهو أحد كبراء هو بدوره ثرياً ميسوراً، متعلماً فى باريس، ولا يحب فى الدنيا شيئاً سوى مجالسة المثقفين اليساريين. وكان وحيداً لم يتزوج أو ربما أنه كان قد تزوج ثم ترمل أو طلق، ولم تكن له أسرة، وكان يقيم فى فندق الكونتيننتال بميدان الأوبرا، ويأكل فى المطاعم الفاخرة بوسط المدينة، ثم يقضى أمسياته كلها فى مقهى إيزائيفتش متصدراً المجلس، مع عبده دهب، وعمر رشدى، وغيرهما من المثقفين اليساريين الفقراء. وكنت أنا أجلس معهم فى بعض الأحيان. وقد أصابت ضربة صدقى هذا المحل أيضاً، فشملت الحملة الكثير من أبرز رواده ونجومه، وبعد الحملة كنت أحياناً أمر على المحل، فأراه خاوياً أو شبه خاو على عروشه، وأتذكر قول الشاعر لبيد بن ربيعة:
عفت الديار محلها فمقامها
بمنى تأبد غولها فرجامها
دمن تجرم بعد عهد أنيسها
حجج خلون، حلالها وحرامها
وكنت أجد عبد المنعم بك الشريعى أحياناً جالساً وحيداً على رصيف المحل وقد بدت عليه أمارات الضيق والملل، وأوجه لتحيته فيفرح بى، ويلح فى دعوتى إلى الجلوس معه، ولكننى كنت أعتذر له، فيبدو عليه الأسف، وأتركه فيعود إلى وحدته، ولا يلبث حتى ينصرف.
وقبل الحملة لم نكن -أنا وزملاء آخرون- نكتفى بارتياد تلك المنتديات اليسارية، بل كنا نذهب إلى الندوات واللقاءات الأخرى التى كانت تعقدها أحزاب أو جمعيات غير يسارية، جمعية الشبان المسلمين بشارع الملكة نازلى (رمسيس حالياً) وجمعية الشبان المسيحيين، بشارع إبراهيم باشا (الجمهورية حالياً) فنحضر ما يقام بأى منهما من ندوات أو يلقى من محاضرات، حزب مصر الفتاة بمقره بعابدين، حيث نستمع إلى خطابات أحمد حسين الملتهبة بالحماس، بل والى جمعية الإخوان المسلمين بالحلمية الجديدة، حيث كنا نستمع إلى خطب الشيخ حسن البنا الأسبوعية.
كان وقتنا كله مشغولاً بالبحث عن المعرفة والوعى السياسى والاجتماعى أيا كانت مصادرهما، وكنا شباباً ونعرف أننا نحتاج إلى ذلك، وأننا كنا فى مرحلة التكوين.
...
ولم يكن صدقى باشا -رئيس الوزراء- يعنيه شئ أكثر من اللهاث وراء بريطانيا لتقبل التفاوض معه، ثم مواصلة التفاوض معه، حول "القضية الوطنية"، أملاً فى التوصل إلى اتفاق يبرر به صدقى وجوده ووجود نظامه. ومنذ أبريل 1946 كانت بريطانيا تلعب مع صدقى لعبة القط والفأر، كسباً للوقت، وعملاً على تمييع الموقف ما استطاعت، وفقاً للسياسة البريطانية المعروفة. وكان صدقى قد آلف وفداً للمفاوضات برئاسته، وبعضوية عدد من الأعضاء، من مختلف الأحزاب -عدا الوفد. أما بريطانيا فألقت وفدها برئاسة -رئيس وزرائها إذ ذاك، وكان من أعضائها اللورد ستانسجيت وزير الطيران، والذى كان كثير الحضور إلى مصر بطائرته للتباحث مع صدقى فى محادثات متعددة، تمهيداً لإجراء المفاوضات النهائية بعد ذلك. وكان صدقى يسابق الزمن لإتمام مهمته وتوقيع المعاهدة، قبل افتتاح الجامعات والمعاهد الدراسية فى أوائل أكتوبر، بينما تستخدم بريطانيا كل الوسائل والحيل فى المماطلة والتسويف. ورغم عطلة الجامعات والمدارسن إلا أن المظاهرات لم تتوقف ضد مفاوضات "صدقى" وكان العبء الأكبر فى تلك المظاهرات واقعاً على عائق العمال. وفى هذه الفترة كتبت قصيدة "هوان" التى أهاجم فيها تلك المفاوضات والقائمين بها من الحكام المصريين، وقد طبعت ونشرت فى أحد المطبوعات التى كانت تطبع وتوزع سراً بمعرفة الحركة المصرية للتحرر الوطنى، وقلت فيها:
أقول لشعبى والهوان يثيرنى
وقلبى على نار من الوجد ذائب
أما آن أن تخطو.. وتلك عجيبة
وأنت الذى تحدو خطاك العجائب
ألم تسمع الطوفان يعوى كأنما
تضم جناحيها الرياح الغواضب
تحركت الدنيا حواليك.. فانطلق
إلى حيث تدعوك المنى والرغائب
أتترك أرض النيل نهب غزاتها
يخادعها محتلها.. ويغالب
وتحكمها باسم الدخيل عصابة
تراودها عن حقها وتواثب
رجال رأوا أن الخيانة حرفة
تنال بها الدنيا.. وتدنوا المناصب
 ترى وصمات الذل فوق جباهم
كما شوهت وجه البغى المثالب
إذا ما بدت طيارة اللورد خلتهم
خفافيش قد عادت إليها الغياهب
إذا نزلت.. فالسعد فى الأفق ضاحك
وإن صعدت.. فالنحس فى الأفق غاضب
وإن أزعجتها وطأة الريح أخمدوا
من الريح ما ضمت عليه الجوانب!
...
ألا ليت شعرى هل يهب شبابنا
يكافح عن مجد الحمى ويحارب
ويتنزع الحق المضيع عنوة
وقد ذل من حكامنا من "يطالب"!
فقد سئمت تلك المهازل أرضنا
وعذبها شوق إلى المجد غالب.
...
ورغم اشتعال المعارضة الشعبية ضد هذه المفاوضات وضد مشروع صدقى بيفن، فقد سافر صدقى إلى لندن فى منتصف أكتوبر 1946، وقام بالتوقيع على مشروع المعاهدة المسماة، بمعاهدة صدقى -بيفن، بالحروف الأولى وعاد إلى مصر ليواجه ثورة شعبية عارمة، يقودها العمال والطلاب، ولا يدافع عنها إلا المأجورون من عملاء الحكومة، وحتى هؤلاء فقد كان دفاعهم متخاذلاً، حتى أن مصطفى أمين، كتب مقالة فى الدفاع عن تلك المعاهدة تحت عنوان "أوقعها.. وألعنها". وقام سبعة من أعضاء هيئة المفاوضات التى شكلها صدقى بالانسحاب من اللجنة، ونشروا بياناً فى الصحف هاجموا فيه المشروع، فما كان من صدقى إلا أن قرر حل الهيئة برمتها، وأعلن استمراره -بدون الهيئة- فى اتجاه إنهاء المشروع، للوصول إلى لتوقيع النهائى عليه.
هذا ما أراده صدقى، ولكن الشعب كان له رأى آخر، إذ تحطم المشروع على يد الجماهير الشعبية الغاضبة، واضطر صدقى إلى تقديم استقالته فى 6 ديسمبر 1946، دون أن يتمكن من التوقيع النهائى.. على معاهدة "صدقى بيفن"، فذهب المشروع إلى سلة المهملات التاريخية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق