ذكريات شاعر مناضل: 39- قوانين صدقى

39- قوانين صدقى


كانت تلك هى المنظمات الشيوعية القائمة فى عام 1946، التى لعبت دوراً فعالاً فى إيقاظ الوعى الوطنى والثورى لدى جماهير الشعب المصرى، وخاصة لدى جماهير الطلبة والعمال، وفى بعث وقيادة نضال تلك الجماهير، ضد الاستعمار، وضد ألاعيبه ومؤامراته ومناوراته، ومن أجل الجلاء، والديموقراطية، وحقوق الشعب.
ولم يكن نضال هذه المنظمات بالأمر السهل، بل كان يجرى بشق الأنفس. وفى وجه صعوبات ومعوقات كثيرة ، منها:
 -السرية المفروضة على النشاط الشويعى كله، والقائمة منذ تجريم نشاط الحزب الشيوعى الأول سنة 1924، والقوانين العقابية التى شرعت للعقاب على النشاط الشيوعى ومصادرة مؤسساته.
-الانقسامية التى سادت هذا النشاط، والتى قضيت بتوزيع جهود المناضلين الشيوعيين على منظمات السيرة تزيدها صعوبة على صعوبتها.
-افتقار هذا النشاط إلى الخبرة الكافية. واضطرار المناضلين إلى مواجهة مصاعب النضال بلا خبرة سابقة، بعد أن انقطعت صلتهم بالحزب الشيوعى القديم، واندثار تراثه النضالى تماماً عنهم.
-وكذلك -افتقار هذا النشاط إلى تراث الخبرة الأممية، وانعدام أى صلة بين هذا النشاط الجديد، وبين الأحزاب الشيوعية الأجنبية، وخاصة أن التنظيم الأممى الشيوعى -الكومنترن- كان قد حل منذ بداية الأربعينيات بسبب نشوب الحرب العالمية الثانية، وما أوجدته من ظروف ومصاعب.
-المقاومة الشرسة، التى كان يقابل بها النشاط الشيوعى، من جانب الاحتلال البريطانى ومخابراته وأدواته، ومن جانب السلطات المصرية وأجهزة أمنها الرجعية، والتى ورثت تراث القمع العثمانى، الموازى لتراث القمع لدى القيصرية الروسية.
 -ثقل المقاومة الاجتماعية للقوى المعادية، الإقطاعية، والرأسمالية والدينية، بتأثيراتها الاجتماعية والفكرية والدعائية.
وزاد من تلك المصاعب والعقبات، إجراءات حكومة صدقى فى حملته الشهيرة والقوانين الردعية الشهيرة التى سنها لمقاومة الشيوعية، ولمضاعفة العقوبات على النشاط الشيوعى أضعافاً مضاعفة.
كانت لصدقى سمعته غير الطيبة، كمنشق على الحركة الوطنية، ومعاد لدود للديموقراطية، ولكنه فى عهد حكمه الجديد، عام 1946 سجل لنفسه صفحة جديدة فى التاريخ، وهى صفحته كأكبر عدو للشيوعية فى التاريخ المصرى.
لم تكن المشكلة ماثلة فى إجراءات صدقى العقيمة التى اتخذها فى حملته، باسم مكافحة الشيوعية، والتى تمثلت فى القبض والاعتقال لأكثر من 200 ناشطاً يسارياً من مختلف التنظيمات والتيارات التقدمية فى ليلة واحدة، ولا فى قراراته بمصادرة وحظر كل الصحف والمجلات اليسارية والتقديمة التى كانت تصدر فى ذلك الحين، وفى إغلاق العديد من الجمعيات والنوادى ذات التوجه اليسارى والتقدمى، والتى أشرنا إليها فى ما تقدم، بل كانت فى إصداره لترسانه من القوانين الجديدة المعادية للشيوعية، والتى تفرض على النشاط الشيوعى عقوبات وحشية، لم يكن لها مثيل إلا فى الدول الفاشية والنازية.

-عمد صدقى إلى التحايل فى طريقة إصداره لتلك القوانين، فأصدرها فى صورة تعديلات على نص جنائى قائم، وهو نص المادة 98 من قانون العقوبات، إذ أضاف إليها نصوصاً جديدة، هى النصوص: 98 أ، 98 ب، 98 مكرر ب، 98 جـ ، 98 د، 98 هـ ، 98 و، من قانون العقوبات.
وكانت هذه النصوص ترفع العقوبة على إنشاء أو إدارة التنظيم الشيوعى إلى الأشغال الشاقة لمدة لا تزيد عن عشرة سنوات، وغرامة لا تجاوز 1000 جنية، وتزداد الأشغال الشاقة إلى 15 عاماً والغرامة إلى ألفى جنية، إذا كان استعمال القوة أو العنف أو الإرهاب "ملحوظاً" فى ذلك (أى فى محاولة قلب نظام الحكم، وتغيير نظام الدولة السياسى والاجتماعى.. إلخ). وأن يعاقب بالسجن مدة لا تزيد عن خمس سنوات وغرامة لا تزيد عن 200 جنية، كل  من أنضم إلى أحد تلك التنظيمات، وقد حار رجال القانون فى تفسير عبارة: إذا كان استعمال القوة أو العنف أو الإرهاب ملحوظاً فى ذلك، ورغم ذلك، فقد ظلت الحاكم تطبق العقوبات دون أن يكون استعمال القوة أو العنف أو الإرهاب "ملحوظاً" فى ذلك.. أو غير "ملحوظاً فى ذلك". ويعاقب بتلك العقوبات أيضاً من روج لتلك المبادئ، أو حاز محررات أو مطبوعات.. إلخ، وكذلك كل من روج بأى طريقة من الطرق لتغيير مبادئ الدستور الأساسية أو النظم للهيئة الاجتماعية، أو لتسويد طبقة اجتماعية على غيرها.. "متى كان استعمال القوة أو الإرهاب أو أى وسيلة أخرى غير مشروعة ملحوظاً فى ذلك" -وكذلك كل من حبذ بأى طريقة من الطرق الأفعال المذكورة. كما يعاقب بذات العقوبات كل من حاز بالذات أو بالواسطة أو أحرز محررات أو مطبوعات تتضمن ترويجاً أو تحبيذاً لشئ من ذلك.
 وكان قانون صدقى هذا، هو أقسى وأبشع ما عرف فى تاريخ مصر، وفى كثير من الدول الأخرى، من قوانين لمكافحة الشيوعية، وهم ينم عن كراهية وخوف بالغين، من النشاط الشيوعى، كما يعكس رد الفعل العنيف لتصاعد النشاط الشيوعى فى تلك الفترة، لدى القوى الرجعية والمعادية فى مصر.
-كما عمد صدقى غلى إصدار هذا القانون لا بالطريق العادى لإصدار القوانين، أى بعرضها كمشروع على البرلمان لمناقشته وإصداره، بل بموجب "مرسوم بقانون" تعمد إصداره فى العطلة البرلمانية، ودون عرض على البرلمان، لا قبل ولا بعد إصداره، مما يجعله ساقطاً من الوجهة الدستورية. ومع ذلك، فقد ظل هذا القانون يطبق منذ ذلك الحين، حيث حوكم بموجبه مئات، بل آلاف، من الشيوعيين منذ ذلك الحين، وأدخلوا الليمانات، والسجون حيث قضوا سنوات وسنوات من الأشغال الشاقة والسجن. وكان الشهيد شهدى عطية أول من طبق عليه القانون، حيث حكم عليه بالأشغال الشاقة لمدة سبع سنوات، قضاها فى ليمان طره، وهو يلبس سلاسل الحديد، ويساق كل يوم، مع المجرمين والقتلة، إلى الجبل، ليقوم بتكسير الصخور وحملها معبأة فى الغلقان.
 كان صدقى عميداً للرأسمالية والرجعية المصرية، وكان المعروف عنه أنه -فى سبيل تأهيل نفسه لهذا الدور- عمد إلى دراسة الماركسية، وقراءة كتاب رأس المال لماركس، ليعرف كيف يحارب الشيوعية بأسلوب "علمى".
وكانت مرحلة ما بعد قيام الثورة، للأسف الشديد، هى المرحلة الأكثر تطبيقاً لقانون صدقى على الشيوعيين، حتى فى مرحلة تأييدهم للنظام القائم وقتذاك.
 ...
 كانت النفوس متجهة إلى الوحدة بين التنظيمات الشيوعية القائمة باعتبارها ضرورة لإحراز القوة والمنعة فى مواجهة الواجبات الثقيلة التى يفرضها النضال الوطنى والديموقراطى والاجتماعى على الشيوعيين، وتزايد هذا الشعور لدينا بعد حملة صدقى وبعد صدور قوانينه سالفة الذكر. وكان التقارب والتنسيق بيننا -فى ح.م- وبين طلبة أسكرا فى الجامعة، سواء فى المظاهرات والإضرابات، أو فى توزيع جريدة الجماهير، كان ذلك عاملاً هاماً فى التمهيد للوحدة، واغتبطنا إذ علمنا ببدأ المحادثات بين التنظيمين -وهما التنظيمان الرئيسيان فى الحركة الشيوعية وقتها- واعتبرنا ذلك خطوة هامة على طريق توحيد الحركة الشيوعية كلها، وكان ذلك فى شهر إبريل عام 1947. وسرعان ما علمنا بتمام الاتفاق على الوحدة، فى شهر مايو من ذلك العام، فسعدنا بذلك غاية السعادة، وبدأنا فى وضع إجراءات وخطوات الوحدة والاندماج موضع التطبيق، على ما سبقت الإشارة إليه فيما تقدم. وسرعان ما انعكست الوحدة على النشاط، فتطور تطوراً سريعاً وقفزت العضوية إلى أربعة آلاف عضو فى عدة شهور، وتطور النضال الجماهيرى بين الطلبة والعمال تطوراً كبيراً، تمثل فى مظاهرات الطلبة يوم 11 فبراير سنة 1948 (وهو عيد ميلاد الملك)، وفى إضرابات العمال فى المحلة فى 1947/6/2 (26 ألف عامل)، وفى شبرا الخيمة (20 ألف عامل)، ثم عمال النسيج بالإسكندرية، وعمال الترام، وعمال شركة شل، كما توسع العمل بين الفلاحين، وفى الأقاليم بصفة عامة.
 ولكن السعادة لا تدوم، فما لبثت الغيوم أن تجمعت فى سماء الوحدة الوليدة، وما لبثت نذر الانقسام أن لاحت فى الأفق، وتحولت إلى رياح سامة تزعزع أركانها.
وكانت بداية هذه المرحلة الكارثية، بعد أن قدم "يونس" -هنرى كورييل- مشروع الخط السياسى الذى كانت اللجنة المركزية قد كلفته بوضعه، فى التقرير الذى أطلق عليه: خط قوات وطنية ديموقراطية. ولم يمض وقت طويل، حتى بدأ الهجوم على هذا المشروع من جانب بعض العناصر من أسكرا، وقدم شوارتز تقريراً مضاداً لتقرير "يونس": هاجمه فيه هجوماً شديداً، واتهمه بأنه يتعارض مع الموقف النظرى الماركسى، الذى ينادى بأن الحزب هو حزب الطبقة العاملة، وأنه يرمى إلى إقامة دكتادورية "البروليتاريا". وتجملع حول شهدى لفيف من كوادر أسكرا، سموا أنفسهم بـ "التكتل الثورى"، الذين قاموا بحملة شعواء على تقرير يونس، مروجين لتقرير "أحمد" -شهدى عطية، ذلك من خلال حملة من الاتصالات الجانبية، المنافية للمبادئ التنظيمية التى تحظر هذه الاتصالات، كما تحظر النشاط التكتلى الانقسامى داخل الحزب. وأذكر أن "زوزو" -موسى عبد الحفيظ الكاظم- وكان أصلاً من كوادر ح.م قد حضر إلى بمسكنى بباب اللوق، وسلمنى نسخة من تقرير شهدى، ودعانى إلى الانضمام إلى هذا التكتل الثورى، ولكنى رفضت هذه الدعوة، كما أعترضت على هذا الاتصال الجانبى.
كنت قد قرأت تقرير "يونس"، ووجدتنى متفقاً مع الأفكار والآراء التى وردت فيه، والتى هوجم بشأنها، والمسماة بخط القوات الوطنية الديموقراطية.
وكان يونس يرد على ذلك الهجوم بأن تقريره يؤكد أن الحزب فى الجوهر حزب الطبقة العاملة، وأن ظروف عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية قد خلقت واقعاً جديداً جذب إلى العمل الثورى فى مصر قوى طبقية غير عمالية، بمعنى أن الطبقة العاملة ليست الطبقة الثورية الوحيدة فى مصر، وإنما هناك قوى ثورية أخرى، وأنه مع الاعتراف بقيادة الطبقة العاملة يجب أن يكون الحزب حزباً لكل الجماهير الثورية فى إطار المرحلة -حزباً لمصر كلها، أى أن الشعب كله يجب أن يشعر أن الحزب ملك له وليس للعمال وحدهم.
هذا فى الوقت الذى تركز تقرير شهدى حول الفكرة القائلة بأن الحزب هو حزب الطبقة العاملة، وأن الهدف الاستراتيجى للمرحلة هو إقامة الاشتراكية، بواسطة دكتاتورية البروليتاريا.
كان ذلك فى عام 1947، ولم تكن قد وصلت إلينا خبرة الثورة الصينية، ولا خبرة أحزاب دول "الديموقراطيات الشعبية"، إذ وصلت تلك الخبرات والأدبيات بعد ذلك، وهى كلها تتفق مع وجهة نظر كورييل، فى الاعتراف بوجود قوى ثورية -غير عمالية- فى بعض المجتمعات التى لم تتطور الرأسمالية فيها تطوراً كبيراً، كذلك الطبقة العاملة، وأن هناك حاجة ماسة إلى إدخال القوى الثورية -غير العمالية- فى جبهة الثورة، وإقامة  -لا نظام اشتراكى صرف- بل نظام "ديموقراطى شعبى"، يعتبر مرحلة انتقالية من الرأسمالية إلى الاشتراكية.
وأذكر أننى كنت أميل إلى هذا الرأى، وسبق لى أن قدمت تقريرين فى - ح.م - حول الجبهة، وحول العمل مع الفلاحين، يفصحان عن قناعة مبكرة بتلك الفكرة التى يدور عليها تقرير يونس، أو شيئاً قريباً منها.
واعتقادى الآن، هو أن كورييل كان سابقاً لعصره، وأنه اهتدى إلى نفس تلك الأفكار التى قاكت عليها مبادئ الثورة الصينية، والديموقراطيات الشعبية، بحكم موهبته الثورية، وسلامة إحساسه بالواقع المصرى، وربما أيضاً بحكم سعة إطلاعه وإلمامه بما كان يجرى فى العالم الخارجى من تطورات، وما تقوم عليه هذه التجارب الثورية من مبادئ وأفكار.
باختصار، كان كورييل على حق، بينما كان خصومه ومهاجموه على باطل، وهذا ما ثبت بعد ذلك على ضوء الواقع والتجربة، ولكن بعد فوات الأوان، وقد علمت أن الشهيد شهدى عطية قد أقر بعد سنوات بذلك، وقدم نقداً عن موقفه هذا، وطلب إعادة عضويته إلى "حدتو".
 كان قد التف حول تقرير شهدى عدد من الكوادر، منهم: أنور عبد الملك -من أسكرا- وحسين كاظم (أو موسى كاظم) -من ح.م، وعبد المنعم الغزالى، وسعد زهران وداوود عزيز، ومحمد سيد أحمد، وإلهام سيف النصر، وتوفيق حداد، ونقولاورد، وكلهم من أسكرا، ومن المثقفين والطلبة والأجانب. وهم الذين تكون منهم "التكتل الثورى"، فى حينه.
بعد هذا التكتل الثورى، انقسمت حدتو إلى مجموعتين، واحدة ذات غالبية من ح.م، سميت باليونيين، والأخرى ذات غالبية من أسكرا، سميت: بالعادليين (نسبة إلى عادل - وهو عبد المعبود الجبيلى).
واستمر الصراع وامتد نحو القواعد، فنشأت تكتلات جديدة، منها: صوت المعارضة، وكان أعضاءها ينادون بشعار:100% عمال والتى تحولت إلى منظمة م.ش.م (منظمة شيوعية مصرية)، ونحو منظمة بلشفية، التى نادت بفكرة: القاعدة المشتركة، وتدعو إلى العمل بين كل القواعد من أجل عقد مؤتمر عام لتأسيس الحزب.. إلخ، كما ظهرت منظمات وكتل وانقسامات جديدة بأسم، ع.ث (عمالية ثورية)، وباسم ن.ح.ش (نحو حزب شيوعى)، هذا عدا حدتو التى أصبح اسمها: حدتوش (الشيوعية)، وهكذا تفسخ التنظيم إلى تكتلات وانقسامات وشظايا، واختلط الحابل بالنابل، وتحول كل عمل الشيوعيين إلى مناقشات بيزنطية وإلى مهاترات، وأصبح الوضع شبيها بالهستيريا التى تدير الرءوس.
ثم قامت حرب فلسطين فى 15 مايو سنة 1948، وفتحت المعتقلات أبوابها لتستقبل الجميع، وليواصل من يريد مناقشاته. فى داخل السجون والمعتقلات.
ولقد قيلت آراء عديدة فى تفسير تلك الظاهرة الكريهة، ظاهرة الانقسامات، وقد يكون لبعض هذه التفسيرات نصيب من الصحة، ولكننى اعتقد أن أكثر هذه التفسيرات قرباً من الحقيقة ثلاثة:
1- إن الوحدة كانت قد تمت فى عجلة وخلال وقت قصير من المباحثات (شهرين فقط) ومن ثم فلم يتسع الوقت لإنضاج البحث حول شروط الوحدة ومقوماتها.
 2- الاختلاف الشاسع فى المفاهيم الفكرية والسياسية حول طبيعة المرحلة الثورية ومقتضياتها، بين يونس، وخصومة، على النحو الذى أشرنا إليه فيما سبق.
3- الجوانب السلبية فى الطبيعية البشرية، التى تفسح المجال للخلافات الشخصية لكى تطغى على المصلحة العامة، والتى تتيح إلباس الخلافات الشخصية لباس المبادئ والعموميات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق