ذكريات شاعر مناضل: 55- فى بطن الحوت

55- فى بطن الحوت

كانت المدمرة "طارق" هى إحدى أهم وأحدث قطع الأسطول المصرى. وقد قطعت بنا المسافة بين ميناء السويس إلى ميناء الطور فى عشر ساعات، من الساعة العاشرة مساء إلى الثامنة من مساء اليوم التالى،حيث رست المدمرة على رصيف الطور بعد هبوط الظلام. وكانت قد نشأت بيننا وبين تلك المدمرة، نوع من الألفة. فى بداية مسيرتها بنا، سرت إشاعة بين المعتقلين، لا أدرى من أين جاءت، بأنهم سوف يلقون بنا إلى أسماك القرش التى يعج بها خليج السويس، والبحر الأحمر كله، ولم تلق الإشاعة آذانا كثيرة مصدقة، خاصة وأنه مع مرور الوقت كنا لا نلقى من ضباط المدمرة وجودها إلى كا مودة ولطف، وكان قائد المدمرة، وهو برتبة عميد، يحضر بنفسه من حين إلى حين، ليطمئن على راحتنا، ويسألنا عما إذا كان ينقصنا شئ وكان البحارة يحضرون إلينا أكواب الشاى والماء، كما قدمت إلينا بعض السندوتشات -الفول والطعمية فى منتصف الرحلة. وفى منتصف النهار، سمعنا بعض طلقات البنادق تطلق من سطح المدمرة، ثم علمنا أن بعض الضباط، يطلقون نيران البنادق على أسماك القرش التى تعودت أن تتبع السفن فى البحر الأحمر، وهى تنتظر أن يلقى إليها بشئ مما يمكنها أن تلتهمه - أيا كان. وعلمنا أن الضباط قد اصطادوا فعلاً قرشاً ضخماً، تمكن البحارة من التقاطة وإخراجه إلى سطح المدمرة، حيث نقل إلى المطبخ لتقطيعة وإعداده للطهى فى وقت آخر طعاماً للجنود والضباط.
وعلمت فيما بعد، أن تلك المدمرة، قد وقعت بعد ذلك، فى حرب 1956 غنيمة فى أيدى اليهود، فاحتفوا بها حفاوة كبيرة، ثم غيروا اسمها إلى "المدمرة إيلات"، ولكن البحرية المصرية استطاعت فى حرب الاستنزاف أن تغرقها بمن عليها من جنود وضباط إسرائيليين، فى معركة شهيرة، وذلك بواسطة زوارق صغيرة من زوارق الطوربيد التى كانت مصر قد استوردتها حديثاً من الاتحاد السوفييتى، وقد خفف هذا الخبر من ألمى وحزنى على فقدها.
وعند نزولنا إلى رصيف الطور، ودعنا الربان والضباط والجنود وتمنوا لنا السلامة. ووجدنا عدداً من لوارى نقل الجنود، المكشوفة، وعليها صفوف من الدكك الخشبية المخصصة لجلوس الجنود. وتم إجلاسنا فى عدد منها، وكل اثنين منا مقيدان سوياً بالكلبشات الحديدية. وسارت اللوارى بنا، تحف بها سيارات من حرس الحدود المسلحة بالمدافع الرشاشة المصوبة إلينا، خوفاً من حدوث أى محاولة للهرب.
بعد مسيرة لا تتجاوز ثلاثة كيلو مترات، صعوداً فى طريق صحراوى، وصلنا إلى المكان الذى كان قد خصص ليكون معتقلاً لنا. وتوقفت السيارات ثم أنزلنا، فإذا بضابط شرطة برتبة عميد، ومعه أثنان من الضباط، وعدد من العساكر والمخبرين، يقفون فى انتظارنا. ودخلنا إلى المعتقل.
كان ذلك المعتقل عبارة عن مستطيل كبير من الأرض الصحراوية المرتفعة، يحيط به سور من الأسلاك الشائكة، وفى نصفة الجنوبى، صفوف من الأجنحة المبنية، يضم كل منها عدداً من الغرف المتقابلة، ودورات مياه، وكانت كل غرفة تحتوى على أربعة أسرة وفى مدخل المكان، كان هناك جناح منعزل لقائد المعتقل، والضباط، وطبيب المعتقل ومعاونية -حين يحضرون. وأمام الباب، من خارج المكان، كان هناك مبنى آخر، مستطيل، يستعمل ثكنة لجنود الحراسة.
كان قائد المعتقل قد استقبلنا بطريقة وية، متمنياً لنا إقامة قصيرة وهادئة، ودخلنا إلى الغرف، وكانت غرفتى قريبة من المدخل. وعرفت أن زملائى الثلاثة بها، كانوا هم: إبراهيم العطار، وكان ضابط صف سابق فى الطيران، من أوائل العسكريين فى تنظيم الجيش بحدتو، وكان شخصاً مرحاً لطيف المعشر جداً، واسع المعرفة بكل شئون الحياة، وذا وعى سياسى وعسكرى رفيع، وكان هو الشقيق الأكبر لمختار العطار، زميلى فى تنظيم حدتو، فى مواقع تنظيمية سابقة، وكان ثانى زميل هو: الأستاذ فوزى حمزة المحامى بالإسكندرية، وعضو تنظيم حدتو أيضاً، وكان شخصاً لامعاً، شديد الذكاء، وشديد الحساسية. وكان الثالث هو الزميل: حليم طوسون، وكان بدوره عضواً فى حدتو، وكان قد تخرج لتوه من مدرسة الحقوق الفرنسية، وكان قصير القامة نوعاً، أبيض البشرة أحمرها، وكأنه من أصل تركى، مصفر الشعر أبيضه، يرتدى نظارة طبية، ويمتاز بذكاء نادر، كما كان شعلة من النشاط والحيوية، بحيث يستطيع أن يصنع كل شئ، ويحل أى مشكلة، بل ويأتى بالمعجزات. أما الرابع، فكان أنا. وأظنك تعرف بعض الأشياء عنى.
عندما ادخلونا إلى المعتقل، وقبل أن يتم توزيعنا على الغرف، أبلغنا قائد المعتقل، أن كل شئ داخل هذا المكان، هو من شأننا وحدنا، ولا أحد سوف يتدخل فى شئوننا، إلا إذا طلبنا نحن منه التدخل، لأمر يتعلق بحياتنا، أو باحتياجاتنا. وأبلغنا أنه سوف توزع على كل منا مجموعة من علب الأغذية المعلبة، وأرغفة الخبز ومقدار من الشاى والسكر، وفتاحة للعلب، وأنه علينا أن نعتمد فى معشيتنا على هذه المعلبات لمدة ثلاثة أيام، بعدها يكون هناك متعهد أغذية سوف يحضر من مدينة السويس، ومعه معداته وعماله، ليتولى شأن طعامنا وشرابنا.
أمضينا اليوم التالى فى راحة، وكانت الأسرة مريحة والبطاطين جيدة ودافئة، وبدأنا نتعرف على المكان، فوجدناه مكانا رائعاً ساحر الجمال. وكانت مياه البحر -خليج السويس- تبدو لنا من بعيد بزرقتها اليانعة، وشمس الشتاء تطل علينا مشرقة دافئة. وخارج الأسوار -الأسلاك الشائكة- لم نكن نرى إلا عدداً قليلاً من الجنود، الواقفين ببنادقهم فى ارتياح -لمجرد المراقبة من بعيد، وبعض عمال النظافة من بدو المنطقة وهم يحومون حول الأسوار الشائكة، لمجرد أن يروننا ونراهم، منتهزين أية فرصة للحديث مع أحد منا على قرب. وعلمنا من زميلنا -إبراهيم العطار- من واقع معلوماته السابقة الغزيرة، أنهم مستعدون لإحضار أى شئ نطلبه -مقابل النقود، من أسماك البحر الطازجة، إلى الحشيش والأفيون.
فيما عدا هؤلاء الجنود، وأولئك البدو، لم نكن نرى خارج الأسوار -إلا أسراباً من الغربان الشديدة السواد- النوحى- التى تحط على الرمال، مرسله صيحاتها العالية، وكأنها تستنجد من شدة الجوع.
وبدأنا نتعرف على زملائنا فى المعتقل، من الشيوعيين، من حدتو وغيرها، ومن أنصار السلام، ومن الوفديين، وغيرهم.
من حدتو -كان هنا جمال غالى، ومبارك عبده فضل، وسعد عبد اللطيف الساعى، ومحمد على عامر، وإبراهيم عبد الحليم، وآخرون.
ومن حركة السلام، كان هناك يوسف حلمى، ومحمد أبو الخير. وكان هناك أحمد صادق عزام -رئيس تحرير جريدة الملايين وآخرون.
ومن الوفدين، كان هناك على الزير -وأحمد السقا، من سكرتارية الزعيم مصطفى النحاس. وكان هناك محمود سليمان غنام، عضو الوفد المصرى والسكرتير العام المساعد للوفد، وحنفى الشريف - المهندس الكبير، وعضو مجلس النواب الوفدى السابق، وسيد شرشر، الوفدى البارز وآخرون.
وكان هناك أمين عبد المؤمن -الصحفى البارز بجريدة المصرى، وأحد زعماء طلبة الكتلة الوفدية سابقاً.
وكان هناك آخرون وأخرون، لا تعيهم الذاكرة- لطول العهد. ومضى يومنا الأول فى محاولة للتأقلم مع هذه الحياة، وظهرت مواهب إبراهيم العطار فى تعريفنا بهذا المكان وما حوله، وجبل سانت كاترين الذى يطل علينا من ارتفاعه الشاهق، وعن سيناء، وعن البحر الأحمر. كما ظهرت مواهب حليم طوسون، فى تيسير سبل المعيشة لنا، وإمدادنا بالطعام- من المعلبات المختلفة، الفول، والعدس، والمربى، ومن الشاى، والقهوة والنسكافية- من مقتنياته الخاصة التى كان قد أحضرها معه حين القبض علية.
وهكذا دارت بنا عجلة الحياة، وما اعجب قدرتها على الدوران. فى وقت الغداء، فتحنا علبتى تونه وجلسنا نتغدى سوياً. ثم صنع لنا حليم دور شاى متقن. وبعد الشاى خرجنا إلى الفناء نتمشى ونطالع جمال وجلال المنظر الطبيعى المحيط بنا. وشاهدنا أحد البدو واقفاً إلى جوار السياج، وأشار لنا، وسألنا: عايزين حاجة، عايزين سمك، فشكرناه ومضينا فى سيرنا. وقال لنا إبراهيم العطار:
-بدو سيناء هؤلاء من أغرب خلق الله، وخصوصاً بدو منطقة الطور. الواحد منهم يتقن كل شئ. تجده صياد سمك بارع، ولكن لهم نظام غريب فى هذا الشأن. فهو لا يصطاد إلا إذا باعه أولاً، فبعد أن يتفق معك على الشراء، يذهب بشبكته إلى البحر، ويرى السمك سابحاً بجوار الشاطئ، فيلقى عليه الشبكة ويستخرجه، ويأخذ منه على القدر الذى باعه، ثم يرمى بالباقى إلى البحر، وكأنه يودعه فيه لحين الحاجة إليه. وهو يعتبر صيد سمكة أكثر من اللازم، حراماً يحاسبه الله عليه. وهم رعاه غنم أصلا، فإذا كنت تريد أن تشترى منه خروفاً أو جدياً من قطيعه، ما عليك إلا أن تشير عليه، فيقول لك:
خمسين قرشاً. فإذا وافقت قام بسحبه من القطيع، وفى خلال ربع ساعة يكون قد ذبحه وسلخه وسلمه إليك مقطعاً إلى أربعة أرباع. وعدة الجزارة معه دائماً، يضعها فى خرج معلق على ظهر حماره الذى يرعى مع الغنم. هؤلاء البدو عفاريت حقاً، فهم أسرع الناس عدواً، حتى كأنهم يسابقون الريح. وهم أمهر الأدلاء، وهم قصاصوا أثر لا يشق لهم غبار.
يقول إبراهيم العطار ذلك، ثم يخرج نصف سيجارة من علبة صفيح موضوعه فى جيبه ويضعها فى المبسم، ويشعلها. ثم يقف ليدخنها فى تلذذ واضح. ثم نستأنف مسيرتنا - بجوار سفح الجبل الأشم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق