ذكريات شاعر مناضل: 3- الرحيل إلى بولاق

3- الرحيل إلى بولاق


لم يطل بى المقام بعد ذلك فى قريتنا "زاوية المصلوب". ولا فى مدرسة الواسطى الابتدائية، ولم تتح لى الفرصة لكى أتابع مجريات المعركة الانتخابية ولا نتائج الصراع بين الريدىوالزعفرانى على عضوية مجلس النواب. ذلك أن أبى قد أبلغنى -على نحو مفاجئ- بقراره بإرسالى إلى مصر -القاهرة- للإقامة بها مع شقيقتى الكبرى -بهيجة- والالتحاق بمدرسة أخرى هناك. ولم يشرح لى أبى سبب قراره هذا، ولكنى لم أكن فى حاجة لسؤاله عن السبب لهذا القرار، فقد كنت أنا نفسى جاهزاً لهذا التغيير. وأدركت وقتها، ثم استكملت هذا الإدراك بعدها، أن والدى كان قد وصل إلى قناعة تامة بضرورة اتخاذ هذه الخطوة إنقاذاً لمستقبلى من الضياع. ذلك أن ظروف المنزل لم تكن توفر لى الرعاية الكافية لمتطلبات حياتى ودراستى. "إذ أن والدتى كانت قد توفيت منذ ولادتى، وأن شقيقتى الكبرى "بهيجة" التى كانت ترعانى بعد ذلك قد تزوجت منذ عامين وانتقلت للإقامة بمصر مع زوجها، كما أن شقيقتى التالية لها "سعاد" قد تزوجت هى الأخرى منذ عام، وانتقلت هى الأخرى للإقامة بمصر أيضاً، ولم يعد هناك من يرعانى وبعدهما سوى شقيقتى التالية لهما "هدى" والتى كانت تكبرنى بعام، وكان عليها واجب رعايتى سواء فى حياتى، أو فى دراستى، يضاف إلى ذلك أن أحوال والدى الصحية كانت اخذة فى التدهور، بما لا يتيح له الفرصة لإيلانى ما أحتاجه من الرعاية. وكان قد لاحظ انعكاس ظروفى المعيشية، وافتقارى إلى الرعاية الكافية، على شئون دراستى فى صورة تخلف دراسى أخذت مظاهرة تتزايد باستمرار.
وكان القرار باتاً وعاجلاً، وواجب النفاذ خلال يومين، يتم خلالهما إعداد ما يلزمنى للسفر، وسحب أوراقى من مدرسة الواسطى لتقديمها إلى المدرسة الجديدة التى سألتحق بها فى مصر.
وفى اليوم المحدد، حضر الشيخ أحمد، وهو زوج شقيقتى "بيجة"، وابن خالتى فى نفس الوقت، إلى منزلنا ليصحبنى أنا وحقيبة ملابسى، وأوراقى الدراسية، معه إلى "مصر".
أوصلتنا الركايب إلى محطة السكك الحديدية فى بندر الواسطى، وركبت القطار لأول مرة فى حياتى، فى الطريق إلى مصر، فى رحلة لم تزل محفورة فى ذاكرتى، انهيت بها مرحلة من حياتى، وبدأت بها مرحلة طويلة وغريبة، استمرت حتى اليوم.
نزلنا فى محطة الجيزة، وركبنا -لأول مرة فى حياتى أيضاً- الترام رقم 15، حيث نزلنا منه فى محطة سيدى أبو العلا، فى شارع فؤاد، بحى بولاق أبو العلا فى مصر، ومن هناك أخذتنا عربة حنطور إلى منزل شقيقتى، وهو شقة بالدور الثالث من العمارة رقم 86 بشارع بولاق الجديد، الملاصقة لضريح سيدى عبد الواحد. كل ذلك الذى جرى لى فى ذلك اليوم، مازال محفوراً بتفاصيلة فى ذاكرتى ووجدانى، حتى يومنا هذا.
وحين فتح باب الشقة، وأخذتنى شقيقتى "بهيجة" فى أحضانها، شعرت بالأمن والراحة من جديد.
كان الشيخ أحمد، زوج أختى، وابن خالتى "وليفة" شقيقة أمى الكبرى، أحد أبناء أعمامى الكثيرين فى نفس الوقت، وكان رجلاً أزهرياً حاصلاً على شهادة العالمية، وكان يعمل بالمحاماة الشرعية، ويتخذ من شقته هذه مكتباً لعمله فى المحاماة، ومقراً لسكنه فى نفس الوقت.
فى اليوم التالى، تمكن الشيخ أحمد من إلحاقى بالمدرسة الجديدة، وهى مدرسة "صدق الوفاء الابتدائية" وهى مدرسة أهلية تقع فى شارع اسمة "شارع الواجهة" متفرع من شارع بولاق الجديد، غير بعيد عن منزل أختى الذى سوف أقيم فيه، وكانت المدرسة مكونة من مبنيين متجاورينن ويحيط بهما سور واحد. وكان أحد المبنيين مخصصاً لمدرسة بنين، والثانى لمدرسة بنات، وكما عرفت بعد ذلك، فإن الذى أنشأ هذه المدرسة كان هو الشيخ علام وكان الشيخ علام هذا رجلاً أزهرياً اتجه إلى خدمة التعليم كغيرة من المصلحين فى ذلك الزمان، أنشأ هاتين المدرستين الاهليتين، وسماهما بهذا الاسم البليغ الأخلاقى "صدق الوفاء" كما جرت العادة فى ذلك الزمان، حيث كان أصحاب المدارس الأهلية يختارون لها أسماء تصلح كشعارات وطنية أو ثقافية أو أخلاقية.. "صدق الوفاء" ، "رقى المعارف" ، "الاتحاد الوطنى" ، "مكارم الأخلاق" ..إلخ.
وكانت مدرسة "صدق الوفاء الابتدائية" يديرها أحد أبناء الشيخ المؤسس، وهو الأستاذ "سعد علام" الذى كان تربوياً موهوباً يتسم بالكفاءة التربوية والحزم الإدارى، فاكتسبت تلك المدرسة سمعة طيبة بين مثيلاتها من المدارس. أما مدرسة البنات فكانت تديرها أبنة متعلمة من بنات الشيخ المؤسس، وكان بعض أبنائه الآخرين يعملون بالتدريس فى كلتا المدرستين.
وكان الشيخ أحمد قد اختار لى تلك المدرسة لأنه له أبناً اسمه "محمود" أيضاً، يكبرنى بعام واحد وهو فى نفس السنة الدراسية التى كنت بها، وهى "الثالثة" الابتدائية، ومن ثم فقد كان على مرعفة بتلك المدرسة، وبمزاياها، هذا فضلاً عن قربها من سكنه. وكان نجله محمود هذا أبناً له من زوجة سابقة، كانت من قريباتنا أيضاً، ولكن الله كان قد توفاها قبل زواج الشيخ أحمد من شقيقتى بهيجة.
فى اليوم التالى لوصولى، أخذتنى شقيقتى معها لجولة فى الحى المحيط بالمنزل، لأتفرج على "مصر" وأخذتنى إلى طبيب للعيون فى حى السبتية المجاور، لفحص عينى، وكان رجلاً تركياً لاجئاً إلى مصر هرباً من الثورة الكمالية، وقد اختار هذا الحى العمالى المتواضع، وأقام فى منزل لطيف اتخذه مقراً لسكناه، ومكاناً لعيادته التى كان يعالج الناس فيها بأجور زهيدة. وكانت شقيقتى قد الحظت أن عينى كانتا محمرتين، وبهما شئ من الالتهاب. وبعد أن فحصهما الرجل، أجرى لهما عملية مس، وأعطانى زجاجة قطرة لاستعمالها لمدة أسبوع، حتى يزول الالتهاب، وحين سألته شقيقتى عن أتعابه قال لها: قرشين صاغ. دفعتهما وهى راضية. قرشين صاغ، مقابل الكشف، والمس، وزجاجة القطرة .. "يا بلاش".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق