ذكريات شاعر مناضل: 56- ولكنها ما زالت تدور

56- ولكنها ما زالت تدور


فى الأيام التالية بدأت الأوضاع تنتظم وتستقر، استعداداً لإقامة طويلة. حضر المتعهد وعماله، وتسلموا المطعم والمطبخ الملاصق له، وبدأت روائح الطعام المطبوخ تفوح فى ذلك المكان الخالى لتثير شهيتنا، وشهية البدو السارحين فى الصحراء المحيطة بنا، بأغنامهم أو بدون أغنام، بل ولتثير شهية أسراب الغربان السابحة فى الفضاء المحيط، وكل المعروف أن المطعم سوف يقدم لنا وجبتى الغداء والعشاء، من الطعام المطبوخ. وشهدنا على موائدنا أسماك البحر الأحمر، مقلية أو مشوية أو فى الصوانى، أسماك الشعور، والدراك، والمرجان، ثم شهدنا لحم البقر، والضأن، والماعز، مع صوانى البطاطس، والخضروات. وكان الطهى مقبولاً سائغاً. وشهدنا الخبز الطازج بدلاً من الخبز القديم البائت الذى كان قد صرف لنا. وفى أوقات الغداء والعشاء، فى الثانية بعد الظهر، والثامنة مساء، كان أحد العمال يقف على باب قاعة الطعام، فيقرع بمعلقته على إحدى الأوانى النحاسية، وكأنه يقرع "الجونج"، فيأتى المعتقلون زرافات إلى القاعة. وبقيت وجبة الإفطار، لنعتمد فيها على الطعام المعلب، وعلى الخبز الذى كان يأتينا من مخبز المتعهد.
فى نفس الوقت، كانت أوضاعنا الأخرى تنتظم وتستتب. فى الصباح الباكر، نصحو على صفارة زميلنا –الكابتن سعد، وهو سعد عبد اللطيف الساعى، مدرس التربية الرياضية، والملاكم النصف مشهور، وهى الصفارة الرياضية التى كان يحملها دائماً، شأن كل الرياضيين. ويتدفق إليه محبو الرياضة البدنية ليصطفوا طوابر فى الفناء. ويبدأ هو إعطاء التوجيهات لهم، ويقوم بإداء التمرينات لهم لإرشاهم فى كيفية أدائها. ثم يعطى الإشارة بصفارته، فنقوم بأداء التمارين إلى أن تنقطع أنفاسنا. ثم صفارة، وقف. ثم استرح.
ثم تعود صفارة سعد، ثم التمرين الثانى، شمال يمين، شمال يمين.. إلخ. ثم الثالث: واحد اتنين، واحد اتنين.. إلخ. ثم قف. ثم تمارين المشى المعتاد، ثم السريع ثم العدو. إلى أن نتصبب عرقاً. ثم قف. استرح. انصرف.
كان سعد عبد اللطيف الساعى شخية عجيبة. كان متوسط الطول أقرب إلى القصر، ولكنه قوى البنية جداً، يكاد يكون كتله من العضلات. وكان وجهه لطيفاً طفولى الملامح، لا تفارق الابتسامة شفتيه ووجهه، وهو لا يبتسم حين يريد الابتسام، ولكن حتى بلا إرادة، وكأن الابتسام كان جزءاً من تكوينه الطبيعى.
وكان وجوده معنا، فى هذا المعتقل، وفى غيره من المعتقلات والسجون الكثيرة التى كان يساق إليها، نعمة من النعم التى أهداها الله سبحانه وتعالى إلى السجناء المعتقلين السياسيين فى تلك السنوات. فهو الراعى الأمين لصحة أبدانهم ونفوسهم، والمحافظ على لياقتهم البدنية، وصيانتهم من العلل والأمراض التى يمكن أن تصيبهم فى هذه الحياة التى يسيطر عليها التوتر النفسى، والركود البدنى..
ولو كان الأمر بيدى لأقمت له تمثالاً فى المدينة التى أنجبته: المنصورة، ومما يذكر لسعد، أنه كان قدوة ومثالاً لعائلته، فوالده، وأخواه محمد وفاروق، وأخته روحية، كانوا كلهم قد أصبحوا شيوعيين، اقتداء به، وسيراً على خطاه.رحمهم الله جميعاً.
وما نكاد نهدأ ونستريح قليلاً من حصة الرياضة البدنية، حتى يتولى أمرنا معلم آخر، هو الزميل العظيم: جمال غالى.
لم يكن معه صفارة، ولكنه كان يقف فى مكانه المعتاد، ويجأر بالنشيد:
يا شعب قم خض بحار الدماء
لاتبك فاليوم يوم الفداء
...إلخ
وسرعان ما يتدفق المعتقلون، الشيوعيون منهم بصفة خاصة، ويدخلون مع جمال غالى فى أداء النشيد:
شعب الشمال وشعب الجنوب
وحد أيادى ووحد قلوب
نرمى بها قلب مستعمر
فالاتحاد سلاح الشعوب
..
من خاف فى الصف يرمى بعار
من خاننا سوف يلقى الدمار
لن نستجيب لصوت القيود
إن الكفاح هو الانتصار
...
ثم ينتقل جمال إلى نشيد آخر، ونحن معه، ثم ثالث ورابع، إلى أن يقول:
عيد الملايين عيد ستالين
عيد الشعوب وعيد الأمم
للعاملين وللكادحين
شمس تضئ أعالى القمم
عاش ستالين.. عاش ستالين..
والفارس الضخم فوق السنين
رب السيوف و رب القلم
فى قبضتيه طوى الفاجرين
ساق الطغاة إلى حتفهم
عاش ستالين.. عاشت ستالين.. عاش ستالين:
حرب الطغاة المستكبرين
فاشيهم.. أو نازيهم
فى قبضتيه طور الفاجرين
ساق الطغاة إلى حتفهم
عاش ستالين.. عاش ستالين
يمشون كالموج خلف ستالين
عاش ستالين.. عاش ستالين.
ثم ينتقل جنال غالى بنا إلى أغنية شجية، هى رثاء للمناضل الشيوعى السودانى: صلاح بشرى، الذى مات فى ليمان طره بعد أن أصيب بمرض السل، وكان يناضل فى صفوف الحركة الشيوعية المصرية.
يقول:
فى الظلام والدنيا نايمة..
بين أحضان السكون..
يا صلاح ليه المقاومة
ليه عليك عمرك يهون
ليه حياتك ليه تبيعها
التهور ده جنون..
قال أنا لا أبالى ..
فالحياة هى الكفاح..
اللى يخلص للمبادئ
يستحيل يرمى السلاح
وتتوالى أناشيد وأغانى المناضل الفذ جمال غالى، ويترامى صداها ليشق ذلك الفضاء العريض، وينسكب كأضواء الشمس على سفوح وقمم جبال الطور المحيطة، وجدران سانت كاترين المشرفة.
كانت كل هذه الأناشيد والأغانى من تأليف الشاعر الشيوعى الرائع محمود المستكاوى، ومن تلحينه (فيما اعتقد). وكان جمال غالى يحفظها جميعاً –بكلماتها وألحانها- عن ظهر قلب، وكان ينشدها ويغنيها، بصوت مبحوح بعض الشئ، ولم يكن من الأوات الجميلة، ولكنه كان رناناً مؤثراً. وكان جمال نفسه شاباً رائعاً جذاباً، كان معتدل القوام، لطيف المنظر، أسود الشعر والعينين، ذكياً مثقفاً مرحاً، وكان خريج كلية العلوم، ومن عائلة مرموقة اجتماعياً. وقد أمضى شطراً كبيراً من حياته فى السجون والمعتقلات، بسبب انتمائه إلى الحركة الشيوعية. أطال الله عمره.
وكان زملاؤنا المعتقلون من غير الشيوعيين، مثل الوفدين يطربون لتلك الأناشيد والأغانى، ولكنهم لا يشاركون فى إنشادها، خوفاً على أنفسهم، غالباً، من أن يتأثروا بها، أو يتهموا بالشيوعية.
ثم يأتى الدور على زميلنا وأستاذنا العظيم يوسف حلمى، إذ بعد برهة من انتهاء دور جمال غالى، يتقدم يوسف حلمى إلى ركنه المألوف من الفناء، ثم يصفق بيديه ثلاثاً، وكأنما هو يدق دقات المسرح المعروفة، ثم يبدأ بالغناء.
 طلعت يا محلى نورها ..
شمس الشموسة،
ياللا بنا نملا ونحلب
لبن الجاموسة..

وسرعان ما نتجمع كلنا حوله، شيوعيين وغير شيوعيين، ونردد حوله الغناء بذات اللحن :

طلعت يا محلى نورها..شمس الشموسة
ياللا بنا نملا ونحلب..لبن الجاموسة..
...
جاعد ع الساجية يا خللى..
أسمر وحليوه..
عوج الطاجيه وجاللى..
غنى لى غنيوه
جلت له يا محمد حبك
لخفن لى عجلى
ميته النار تبرد واعرف
راسى من رجلى
طلعت يا محلى نورها..
إلخ..إلخ

وتتوالى أغنيات سيد درويس التى تخصص يوسف حلمى فى تقديمها، وكان قد أسس جمعية لإحياء تراث سيد درويش، مازال يرأسها ويرعاها إلى ما قبل اعتقاله. وينتقل من الأغانى الريفية والعاطفية، إلى أغانى العمال، فيقول:

يا بوى.. يا ولد عمى
يا بوى.. يا ولد عمى..
يا بوى هات البزابورات ويللا بنا يا سماعيل..
لا الوجت يفوت، غربة إيه مصر أولى بنا،
لولاها ما بيحلى لنا الجوت..
عهد الله وعهد الأوليا.. مانسيبهاش ولا بالنبوت
هى السمكة تسيب الميه، داحنا من غير مصر نموت
يا ولد عمى.. يا بوى، يا ولد عنى..
يا بوى يا بوى يا بوى.. يا ولد عمى.

ويشرق بنا يوسف حلمى ويغرب فى تراث سيد درويش الموسيقى، والغناء. من الأغانى الخفيفة، إلى العاطفية، إلى الأوبرالية، ونحن نسبح ورائه فى هذا العالم السحرى الأخاذ. وكان جميع المعتقلين، وحتى قومندان المعتقل والضابطان المساعدان، ينضمون إلى سماع تلك الأغانى الساحرة، لكونها من التراث الوطنى، وليس لها صلة بالشيوعية التى يخافون من أن يتهموا بها.
كان يوسف حلمى طويل القامة عريض المنكبين، قوى الجسم، ناعم الشعر غزيره، قوى الملامح، فصيح اللسان والمنطق، وكأنه بطل مسرحى، وقد علمت أنه كان يعمل أحياناً -بالتأليف والتمثيل المسرحى، على سبيل الهواية، إلى جانب نشاطه الأصلى، كمحام قدير، وصحفى، وكاتب قصص موهوب. وكان من أسرة ميسورة، ووجهاً اجتماعياً وفنياً بارزاً. وقد أهلته كل هذه المزايا، ليصبح رئيساً لحركة أنصار السلام المصرية، وواحداً من أبرز الوجوه فى حركة السلام العالمية.
وكان يوسف حلمى يؤدى تلك الأغانى بصوت قوى عميق، أقرب ما يكون إلى صوت -الباس- فى الغناء الأوبرالى، ومع ذلك فقد كان صوته شجياً مؤثراً يأخذ بمجامع القلوب.
إلى جانب هذا البرنامج اليومى الحافل، فقد كانت هناك أنشطة ثقافية وسياسية أخرى.
استطاع بعض الزملاء، أن يحضروا -عن طريق أحد البدو، جهاز راديو ترانزستور صغير الحجم، وأن يهيئوا له مخبئاً خفياً فى إحدى الغرف، وأن يستمعوا من خلاله إلى البرامج الإخبارية المصرية والأجنبية، ثم أن يلخصوا لنا الأخبار الهامة شفوياً فى خلال بعض اللقاءات المتوارية أو أثناء تجولنا فى فناء المعتقل. وعرفنا عن هذا الطريق، ما وقع من تطورات منذ القبض علينا.
-عرفنا عن اعتقال ضباط المدفعيه وآخرين فى 15 يناير، ثم إذاعة خبر اعتقالنا (48 شيوعياً، 124 سياسياً آخرين- وكنا نحن منهم).
-وعرفنا عن اعتقال ضباط سلاح الفرسان -عقب ذلك بقليل.
-وعرفنا عن صدور بيان بحل جميع الأحزاب فى 17 يناير والإعلان عن فترة انتقال مدتها ثلاث سنوات، يتولى فيها مجلس القيادة جميع السلطات.
-وعرفنا عن قرار صدر فى 1953/1/23 بتشكيل هيئة التحرير، باعتبارها الإطار السياسى الذى يحل محل كل الأحزاب الملغاة، والإطار الوحيد للعمل السياسى فى مصر.
-ثم عرفنا بعد ذلك عن صدور دستور مؤقت فى 1953/2/10 ينص على فترة الانتقال لمدة 3 سنوات، مع إسناد سلطة السيادة العليا لمجلس الثورة.
-ثم سمعنا فى إذاعة لندن -خبر استقالة يوسف صديق من مجلس قيادة الثورة، احتجاجاً على كل هذه الخطوات والقرارات المنافية للديموقراطية.
-وإلى جانب كل تلك الأنشطة كانت هناك أنشطة أخرى:
-حفلات سمر، يقدم فيها بعض الهواة من المعتقلين، فواصل غنائية ومنولوجات، ووصلات فكاهية. إلى جانب السمر المعتاد.
وكانت هناك بعض الاجتماعات التنظيمية لرفاق حدتو، لمناقشة التطورات والأحداث السياسية. وقد لاحظت أن العديد من الزملاء، قد أخذوا يميلون إلى نقد الخط السياسى المؤيد لحركة الجيش، إما بسبب اعتقالنا، ونحن الوحيدون الذين أعلنوا تأييدهم لتلك الحركة من بين معظم المنظمات الشيوعية الأخرى -المصرية والأجنبية، وإما بسبب الأعمال المعادية للديموقراطية، والشيوعية، وإما تأثراً بآراء التنظيمات الأخرى المعادية لحركة الجيش، وما ترامى إلينا من مواقف العديد من الأحزاب الشيوعية العربية والأجنبية. ولكن الأرض كانت ما زالت تدور - كما قال جاليليو.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق