ذكريات شاعر مناضل: 61- الأم الصغيرة

61- الأم الصغيرة

كما اجتازت سهير من قبل امتحان "ربه البيت الصغيرة"، فقد اجتازت أيضاً وبجدارة –امتحان "الأم الصغيرة". فى بعض زياراتنا الأخيرة للقاهرة- قبل الوضع- حصلت من والدتها على سرير صغير من الحديد المشغول، سرير بمرجيحة، كان مخصصاً لها هى حين كانت وليدة، ثم بعد ذلك تعاقب عليه إخواتها الثلاثة، محمد، ومحمود، وأحمد. وعهدت إلى أحد المنجدين بدهانه بلون أزرق سماوى، وبتجهيزه بمرتبة ومخدة وناموسية. وعمل الملايات المناسبة له، وحملناه ونحن عائدان من القاهرة فى قطار اليزل –ومعنا عبد الصعيدة، إلى منزلنا بالسراى. وفى زيارة أخرى للقاهرة، أخذتنى سهير معها إلى محل لملابس الأطفال بوسط القاهرة –اسمة "بيبى هوم" فانتقت واشترت، كل لوازم الطفل الوليد، من الملابس، باختلاف أنواعها وألوانها، والملايات، والأغطية، مع مراعاة التطور المنتظر فى المقاسات، لمواجهة المراحل المتلاحقة لنمو الطفل، وملأنا بكل هذه الأشياء، حقيبة ملابس صغيرة الحجم، حملناها معنا أيضاً إلى الزاوية، وفى آخر زياراتنا للقاهرة قبل الوضع، أخذتنى سهير معها إلى مكتبه اشترت منها كتابين فى تربية الطفل الرضيع، وفى تعذيته، يشتملان على كل ما يلزمها معرفته من شئون الطفل الوليد. كما أخذتنى إلى إحدى الصيدليات، فابتاعت أشياء كثيرة مما تحتاجها للعناية بالطفل الوليد، وفى المراحل التالية لنموه. كنت أتفرج على سلوك سهير فى كل هذه الأمور، فيأخذنى العجب، من قدراتها المبكرة على أن تكون أما مدهشة وهى فى هذه السن. وراقبتها بعد ذلك وهى تقرأ فى الكتابين بشغف واهتمام، وكأنا سوف تؤدى فيهما وشيكاً امتحاناً عسيراً تحرص على النجاح فيه.
وما أن تم لها الوضع بحمد الله، حتى بدأت بلا إبطاء تضع العمل فى العمل. فليلى فى سريرها ومرجحيتها فى أتم النظافة وأجمل الملابس –كأنها ملكة صغيرة على عرشها. وكانت سهير تحرص كل الحرص على القيام بنفسها بكل شئ يخص ليلى، ولا تسمح لأم صابر (الخادمة)، أو لأى إنسان آخر أن يقوم بأى عمل من تلك الأعمال، سواء أعمال إعداد الرضعات أو إعطاشها لها، أو تنظيف الأوانى الخاصة بها، أو أعمال نظافتها الشخصية واستحمامها. وكنت أحب أن أشاهد سهير وهى تتعامل مع ليلى فى محاولات للتواصل معها وتنمية وعيها وحواسها.
كل من شاهد ليلى فى تلك المرحلة، أبدى إعجابه بها، سواء من الحكيمة نبوية ومساعداتها. أو الدكتور محمد عبد السميع الذى كان يحضر ليراها مرة كل أسبوع، أو من قريباتنا من أهالى القرية، أو حتى من الزوار والزائرات الذين كانوا يحضرون لزيارتنا من القاهرة، أو بنى سويف. كل من هؤلاء كانوا يبدون إعاجبهم بليلى، وكانوا يكيلون الثناء لجهد سهير فى رعايتها. وكنت أنا أسعد بذلك، واستمتع بشعور الأبوة الراضية، الذى ينصب على هذه الوليدة الجميلة.
وكنت أتابع أخبار يوسف صديق وأقرأ الخطابات القليلة التى أرسلها إلى أسرته، وكان يسرنى أن أعرف منها أن معنوياته مازالت عالية، رغم إحساسه بالغربة، ومرارة الظلم الذى يتعرض له على أيدى زملائه أعضاء قيادة الثورة، وبعد حوالى الشهرين من سفره علمت أنه يسأم هذه الغربة، ويطلب الموافقة على عودته، ولكن الطرف الأخر، المتمثل فى جمال عبد الناصر ومحمد نجيب، كانوا لا يتحمسون لعودته فى تلك لظروف، ويطلبون منه البقاء لفترة أخرى، إلى أن :يكتمل شفاؤه". وأخيراً، وبعد مزيد من الإلحاح، وافقوا على أن ينتقل من الحياة فى لوزان بسويسرا، إلى بيروت فى لبنان. وأبلغوه بهذه الموافقة، وبأنهم أصدروا التعليمات بذلك، إلى سفارتنا فى بيروت للتولى ترتيب إقامته بها. وبالفعل، علمت بأنه انتقل للإقامة فى إحدى ضواحى بيروت، فى منطقة جميلة فى الجبل، وأنه أبدى أرتياحه لذلك، ولكنه طلب إرسال زوجته "شقيقتى عليه" وولديها حسين ونعمت، للحياة معه هناك. وتحت ضغطه وإلحاحه، وافقت القيادة على ذلك.
قابلت شقيقتى عليه قبل سفرها، وتحادثت معها حديثاً مستفيضاً انتهى إلى اقتناعنا سوياً، بضرورة العمل على عودة يوسف فى أسرع وقت إلى مصر، وعدم استمراره فى هذه الإقامة شبه الجبرية فى الخارج. واتفقت معها على أن تبلغه بهذا الرأى، الذى كنا نعلم أنه سيوافق عليه. واتقفنا أنا وهى، على أن تأخذ معها، فى حقيبة ملابسها، إحدى بذلات يوسف العسكرية، ليلبسها وهو عائد معها إلى القاهرة، احتياطاً للطوارئ، وأن يتكتما خبر عودته، وأن يتوجها –ومعهما ولديهما- فوراً من مطار القاهرة، إلى الواسطى، فالزاوية.
وسافرت عليه وأولادها إلى لبنان للحاق بيوسف، وظللت أنا وسهير ننتظر على أحر من الجمر تطورات الموقف.
لم يطل انتظارنا. وذات صباح، فوجئنا –أنا وسهير- بيوسف صديق يدخل علينا فى السراية، وهو يرتدى بدلته العسكرية، ومعه شقيقتى عليه، وابناهما –حسين ونعمت، وبعض أهالى الزاوية، وهم يحملون لهم الحقائب، من سيارة التاكسى، التى أحضرتهم من مطار القاهرة. وقد علمنا أنهم استطاعوا، بمعونة بعض الأصدقاء اللبنانيين. الذين عرفوا يوسف، وتعاطفوا معه، أن يحصلوا على تذاكر الطيران، وأن يستقلوا الطائرة اللبنانية من بيروت إلى القاهرة، وأن يغادروا مطار القاهرة بالتاكسى، وأن يصلوا إلى الواسطى، والزاوية، كل هذا والسلطات المصرية، وجلس قيادة الثورة، لا يعلمون شيئاً من كل ذلك.
خلع يوسف بدلته "الميرى"، وارتدى ثياباً منزلية" ونزل من الجناح الذى كنا قد خصصناه له ولزوجته وولديه بالدور العلوى، وجلست معه نستعرض الموقف من كل جوانبه، ونتفق على ما يجب اتخاذه، واتفقنا على أن حضوره هكذا دون انتظار الموافقه من مجلس الثورة كان أمراً ضرورياً، لوضع حد للألاعيب والمناورات المتوقعة من جانب الطرف الآخر، وهو فى خارج البلاد لا يملك أن يدفع الأذى عن نفسه. كما اتفقنا على أن حضوره هكذا قد يثير لديهم مخاوف لا لزوم لها، ومن الأفضل العمل على استبعادها وتلاقى ما يمكن أن تقودهم إليه من ردود أفعال. واتفقنا على أن يقوم يوسف بتحديد واضح لموقفه، يعبر عن تمسكه بمواقفه، وفى نفس الوقت يعرب فيه عن عدم رغبته فى تصعيد الخلاف. ةخلصنا من ذلك إلى ضرورة أن يقوم يوسف بإرسال برقية إلى محمد نجيب، يعلن بها تمسكه باستقالته السابقة من مجلس قيادة الثورة، كما يعبر فيها عن استقالته من العمل بالجيش أيضاً، حسماً لكل المخاوف، والظنون.
وبالفعل قام يوسف بكتابة نص البرقية، وكانت كالآتى:
"السيد اللواء محمد نجيب، رئيس مجلس قيادة الثورة، والقائد العام للقوات المسلحة، تحية طيبة وبعد، فقد وصلت اليوم من بيروت إلى مسقط رأسى، بزاوية المصلوب مركز الواسطى، وأقيم بها الآن، وأرجو قبول استقالتى من الجيش، وك>لك أرجو قبول استقالتى السابقة من مجلس القيادة. ولكم الشكر،
توقيع: عقيد يوسف منصور صديق.
بعثنا بنص هذه البرقية مع أحد شبان العائلة، إلى مكتب التلغراف بالواسطى. وجلسنا ننتظر ردود الفعل، ونستعد لمواجهة الخطوات التالية من الجانب الآخر. فى نفس الوقت، واستعداداً لأسوأ الاحتمالا، قمنا باختيار سبعة من المتطوعين من شباب الأسرة، للمرابطة داخل حقول الأذرة المحيطة بالسراية، ومعهم أسلحتهم، بعد أن شرحنا لهم الموقف، وشددنا عليهم بعدم القيام بأى إطلاق للرصاص، مهما كان الحال، إلا بأمر من يوسف شخصياً. وذهب هؤلاء الشبان، وجلسنا نحن ننتظر.
لم يطل انتظارنا، إذ سرعان ما شاهدنا بوكس المركز قادماً على الجسر فى اتجاهنا. وعندما وصل إلى السراية، نزل منه مأمور المركز "العقيد محمد خطاب". الذى كنت أعرفه طبعاً، وكانت علاقتى به علاقة طيبة. وسبق أن حضر إلى السراية بمناسبة الوليمة التى أقمتها بعد زواجى. وكان رجلاً رزيناً عاقلاً حسن التصرف. قدمت المأمور إلى يوسف صديق، وتقدمتهما إلى غرفة الجلوس، وتركتهما يتحدثان على انفراد، ودخلت لآمر لهما بالقهوة.
لم تطل جلستهما طويلاً، فبعد أن شربا القهوة، خرجا، وتصافحا، واستقل المأمور البوكس وانصرف عائداً إلى مركزه.
وأخبرنى يوسف بأن المأمور أخبره بأنه تلقى أوامر بمقابلة يوسف، ومعرفة ما ينوى عمله، والإبلاغ عن ذلك. كما أن المأمور، بعد أن اطمأن إلى نوايا يوسف المسالمة، أبدى له مشاعر طيبة، وقال له إنه توقع أن تقوم الجهات العسكرية بأية إجراءات وقائية، على سبيل الاحتياط.
فى المساء حضرت بعض السيارات العسكرية، ومعها سيارتا لورى "تقلان فصيلة من جنود البوليس الحربى. وحام بعض الضباط حول السراية من بعيد، ثم أصدروا أوامرهم باختيار مكان الخيام، ونقاط الحراسة، ثم انصرف الضباط مسرعين، تاركين الأمر لبعض ضباط الصف.
أقيم مخيم الحراسة إلى جانب الجسر الموصل من البندر إلى الزاوية، بجوار مدرسة القرية. فى مواجهة السراية، وعلى بعد قليل منها. وأقيمت نقاط الحراسة فى عدة مواضيع، قريبة من مفارق الطرق المؤدية إلى السراية. وتم كل ذلك بهدوء شديد، بعيداً عن أى مظهر من مظاهر التحرش. وكان الجنود يرتدون جميعاً ملابس البوليس الحربى، ويحملون بنادق اللى انفيلد بدون سونكى.
بعد أن عرف يوسف تفاصيل الموقف، أبدى اطمئنانه إلى أن الإجراء ليس سوى إجراء روتينى، ولا ينم عن أى نية عدوانية.
بعد بضعة أيام، حضر ثلاثة من ضباط الجيش لزيارته، وكانوا من معاونيه فى اللواء السابع، وكانوا على علاقات طيبة مع جمال عبد الناصر فى نفس الوقت، وكانوا قد حضروا للقائه يوم 15 يناير على ما سبق القول. هيأت لهم لقاءه على انفراد، ثم دعاهم للغداء ولكنهم اعتذروا، لرغبتهم فى العودة إلى القاهرة سريعاً. وبعد انصرافهم أخبرنى يوسف أنهم جاءوا يستطلعون موقف يوسف، ويسعون إلى إشاعة الود من جديد. وكان أحدهم وحيد رمضان هو الذى سعى لضم يوسف إلى تنظيم الضباط الأحرار، وعرفه على عبد الناصر. وأخبرنى يوسف بأنه أخبرهم بأنه لا يحمل للثورة إلا كل الولاء، ولكنه لا يحب أن يعود إلى جو التآمر والدسائس.
بعد فترة أخرى جاء للقاء يوسف زوار آخرون، منهم الصاغ حسن الدسوقى، وهو من الضباط الأحرار، وكان صديقاً ليوسف، وهو الذى اقتحم معه إدارة الجيش ليلة الثورة، ومعه ضابط آخر و صلاح عبد الحفيظ، صهره وصديقة، وضابط بوليس هو يوسف صبرى، من أبطال معركة الإسماعيلية التى جرت بين الشرطة المصرية والجيش البريطانى يوم 25/1/1952، ومعهم صديق آخر هو محمود الهلالى، الذى كان يعمل بشركة شل للبترول ببنى سويف. حضروا لزيارة يوسف، وأرسلوارسالة إليه بهذا المعنى، فأرسلنا لهم ملابس فلاحية مع بعض شبان العائلة، الذين استقبلوهم خارج القرية، ثم تسللوا بهم –وهم بملابس الفلاحين إلى السراية، من داخل حقول الذرة المحيطة بالمكان، دون أن يراهم أحد من رجال البوليس الحربى.
وبقى هؤلاء الزوار إلى وقت متأخر من الليل، ثم على مدى النهار التالى، وهم يتحدثون مع يوسف، ومعى، حول الأوضاع السياسية الراهنه، وانتهى الموقف باتفاق على العمل سوياً من أجل تشكيل لجنة تحضيرية، تضم الحاضرين –الثلاثة، يوسف، وأنا، كما تضم آخرين فيما بعد، تكون مهمتها الدعوة، والعمل، على تأسيس جبهة وطنية ديموقراطية، تعمل على تحقيق الأهداف الوطنية والديموقراطية للبلاد. وكلفت أنا بأن أكون مسئول الاتصال لهذه اللجنة.
وكنت، منذ خروجى من المعتقل، قد التزمت بموقف تجميد نشاطى التنظيمى فى حدتو، مراعاة لدواعى الأمن، وحرصاً على سلامة العمل وسلامة الآخرين.
حضر أشقاء سهير الثلاثة: محمد ومحمود وأحمد لرؤية والدهم، ولزيارتنا، ولرؤية ليلى، وأمضوا معنا أجازة جميلة ملأوها بالحيوية والمرح، فقد كانوا فى مراحل الصبا الزاهر. وكان يوسف سعيداً بلقاء كل أولاده، بعد أن غاب عنهم فترة طويلة. وكان معنا أيضاً حسين ونعمت، فاكتملت ليوسف أسباب الرضا. وكانت ليلى هى محور اهتمام هؤلاء الأخوال جميعاً، لا يكفون عن ملاعبتها والتضاحك معها، وعلى تصرفاتها الطفولية، إذ كانت ما تزال تتعلم الجلوس، وتتعثر فى نطق الكلمات، بابا، ماما، آتى (يعنى القطة).
فى أواخر شهر سبتمبر، كانت المدارس قد أوشكت أن تفتح أبوابها، وطلب يوسف من القيادة –عن طريق الوسطاء من ضباطه- أن يسمح له بالانتقال إلى القاهرة، ليكون مع أولاده وقت عودتهم إلى مدارسهم، فوافقت القيادة، على أن ينتقل تحديد إقامته إلى منزله بحلمية الزيتون.
وهكذا انتهت تلك الأيام الجميلة، التى قضاها يوسف وأولاده معنا فى السراية، بزاوية المصلوب، وانتقل هو إلى حلمية الزيتون، مع زوجته "توحيدة"، وأبنائه منها، بينما انتقلت زوجته الثانية، شقيقتى "عليه"، مع ولديها حسين ونعمت إلى منزلهم فى ثكنات العباسية. وبقيت أنا وسهير وليلى، وحدنا بالسراية، نعانى الوحدة بعد أن انفض السامر.
أما رجال الشرطة العسكرية، فقد نزعوا خيامهم، وشدوا رحالهم عائدين من حيث أتوا. فى نفس اليوم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق