ذكريات شاعر مناضل: 33- حملة صدقى باشا

33- حملة صدقى باشا


علمت مما نشرته الصحف أن المقبوض عليهم فى حملة صدقى محالون إلى النيابة العامة للتحقيق معهم فى الاتهامات التى وجهها البوليس إليهم، وأنهم محبوسون رهم التحقيق فى سجن الاستئناف ببا الخلق، فتوجهت إلى ذلك السجن للاطئمنان على كمال وتقديم أيه مساعدة قد يكون فى حاجة إليها. وعلى باب السجن وجت عشرات من الناس، رجالاً ونساء- من أقارب المقبوض عليهم قد جاوءهم لنفس الغرض، ووجدت بينهم إبراهيم عبد الحليم، شقيق كمال الأكبر، فلما رآنى توجه نحوى، وشكرنى على المجئ، ثم أخبرنى بأن كمال موجود بذلك السحن فعلاً، وأن من حق المسجونين تحت التحقيق أن تودع لهم أمانات باسمهم من جانب ذويهم، كما أن من حقهم أن يتلقوا أطعمة من خارج السجن، إما من المتعهد، أو من أهاليهم. واتفقت مع إبراهيم على إيداع مبلغ من النقود -ثلاثة جنيهات- تعاونا سوياً فى دفعها، كما اتفقنا على تنظيم تقديم وجبة الغداء لكمال كل يوم، من أحد المطاعم المجاورة للسجن. وقرر إبراهيم أنه سيحضر له اليوم بعض ما يحتاجه من ملابسه من المنزل. وعلمنا من الأهالى أن حزب الوفد سيتولى تدبير الطعام لكل المسجونين عن طريق المتعهد، وهو يستطيع ذلك طبعاً لما لديه من إمكانيات مالية كبيرة، وما يستطيع تدبيره من أعضائه الأغنياء من أموال لهذا الغرض، وأنه هو الذى سيتكفل بتوفير المحامين للدفاع عن المتهمين وحضور التحقيقات معهم فى النيابة، وأن ذلك الأمر سيتولاه الدكتور عزيز فهمى المحامى وابن عبد السلام جمعه باشا، العضو البارز فى حزب الوفد، والثرى المعروف، ونقيب محامى مديرية الغربية. وذهبنا إلى مطعم للكباب فى مواجهة دار الكتب، واشترينا منه رطلين من الكباب، وبعض الخبز والسلطات، وحملناه فسلمناها إلى شاويش البوابة بالسجن لذمة كمال. كما قمنا بتسلميه الجنيهات الثلاثة لإيداعها لذمته بالأمانات، ثم توجهنا إلى مكتب الدكتور عزيز فهمى بميدان سليمان باشا.
وجدنا الرجل هناك، وكان يسكن شقة بالدور الأرضى فى إحدى عمارات الميدان، يتخذها سكناً ومكتباً. قابلناه وشرحنا له الأمر، فرحب بنا، وقيد اسم كمال فى ورقة أمامه، وطمأننا على أنه سيضع قضية كمال ضمن أولوياته، وكان يعرف أن كمال شاعر، وقد قرأ له العديد من القصائد فى المجلات والصحف اليسارية والتقدمية، وأخرج لنا من أحد أدراج مكتبه نسخة من مجلة الفجر الجديد، منشور بها إحدى قصائده، وأخذ يقرأ منها بصوت رخيم:
أخى .. هل نحن تحت الأرض أعشاب وديدان
أى يا أيها الإنسان، هل فى مصر إنسان
.. إلخ ..
وعلمت منه أنه هو نفسه شاعر، وأنه معجب بشعر كمال.
...
عقدت اجتماعاً لمجموعتنا التنظيمية حيث ناقشنا أمر هذه الحملة، وموقفنا منها، وواجبنا تجاه كمال وتجاه كل المعتقلين فيها، واتفقنا على ما يجب عمله تجاه كل ذلك.
واتفق رأينا على أن تلك الحملة أكدت أن النظام فى أزمة كبيرة، وأن أوصاله ترتعد، وأن صدقى قام بحملته تلك لإجهاض يوم الحداد الوطنى الذى دعت إليه اللجنة الوطنية للعمال والطلبة، ولتمهيد الطريق أمام الاتفاق الذى يسعى إلى عقده مع بريطانيا وإخراس الأصوات المعارضه له، وأنه قد اختار القيام بحملته هذه أثناء العطلة الصيفية للجامعات والمدارس، خوفاً من ردود الفعل المؤكدة من جانب الطلاب، ثم بحثنا موقف مجموعتنا بعد القبض على مسئولها -كمال- وقررنا الاستمرار فى عملنا على النحو المطلوب، كما أن الزملاء بالمجموعة توافقوا على تحميلى أنا بمسئولية رئاسة المجموعة بدلاً من زميلنا كمال، لحين عودته إن شاء الله.
وبالفعل، فقد سارت الأمور على هذا النحو المتفق عليه، سواء داخل المجموعة، أو فى علاقتى بإبراهيم عبد الحليم، بشأن كمال وما يجب نحوه.
...
فى خلال الأيام التالية، تمكنت من الحصول على المسكن المستقل الذى كنت أبحث عنه، وكان ذلك بمساعدة من زميلنا، عز الدين فودة، الذى كان طالباً معنا بالكلية، والذى أصبح فيما بعد دكتوراً فى القانون الدولى، وأستاذاً كبيراً فى تلك المادة بكليات الحقوق، كما كان أيضاً زميلاً لنا فى عضوية تنظيم الحركة المصرية للتحرر الوطنى.
كانت الحالة هادئة فى الجامعات والمدارس بسبب العطلة الصيفية، ولكنها لم تهدأ فى الجبهات الأخرى، خاصة الجبهة العمالية. فقد شهدت الأيام التالية عدة إضرابات ومظاهرات فى العديد من المصانع والمناطق العمالية، فى شبرا الخيمة، والمحلة، والإسكندرية، احتجاجاً على الحملة، وتنديداً بالمفاوضات، ومطالبة بالجلاء، إلى جانب المطالب الاقتصادية الخاصة بالعمال.
وفى الأحياء، جرى توزيع منشورات عديدة للتنديد بالحملة، وبصدقى، وبالاستعمار وعملائه. وكان من تلك المنشورات منشور صادر من الحركة المصرية للتحرر الوطنى، منظمتنا، تناول تلك الحملة، وأسبابها الحقيقية، وندد بالمسئولين عنها، وطالب بمعاقبتهم على أيدى الشعب.
وظل الرأى العام مشغولاً بأمر الحملة وأخبارها، وما ينشر عنها فى الصحف والمجلات، وبآراء وتعليقات السياسيين والمحامين ورجال القانون عنها.
وفى تلك الأثناء كنت قد استلمت مسكنى الجديد، وكان عبارة عن شقة صغيرة -غرفة وحمام- بأعلى إحدى العمارات الصغيرة بشارع منشاة المهرانى بجهة باب اللوق، خلف عمارة بحرى المعروفة، الكائنه بميدان الإسماعيلية (التحرير حالياً)، وقمت بشراء الأثاث اللازم لها، سرير، ومكتب، ومكتبة صغيرة، ومقعدين، وبعض المعدات والأدوات المنزلية، وابور جاز وبعض أوانى الطهى، وبعض الصحون، والملاعق والأكواب. وانتقلت للإقامة بها، وبدأت أشعر بالاستقلال والاستقرار.
وكان أكثر ما أعجبنى فى هذا المسكن، موقعه فى منتصف البلد، وقربه من كل المواصلات، والمحلات التجارية، والمطاعم.. إلخ. وكذلك أعجبنى قربه من مقهى إيزائيفتش الشهير، ملتقى المثقفين والأدباء والتقدميين، ومطعم الفول الملحق به، والذى كان فيه الغنى عن كل ما عداه فى ذلك الوقت.
وفيما بعد، أصبح هذا المسكن، وربما بسبب موقعه ومميزاته تلك نقطة ارتكاز واتصال للكثيرين من الزملاء والأصدقاء، وهو ما كانت له الكثير من المزايا والعيوب فى نفس الوقت.
...
وظللنا أنا وإبراهيم عبد الحليم على اتصال يومى، إما أمام سجن الاستئناف وإما فى مكتب الدكتور عزيز فهمى الذى توثقت صلتنا به، وإما فى مقهى إيزائيفتش.
وذات يوم، فى إحدى زياراتى للسجن، تلقيت ورقة صغيرة من زميلنا وصديقنا الطالب السودانى -عبد الماجد أبو حسبو، تلقيتها من شاويش البوابة، وكان مكتوباً بها ثلاث كلمات فقد: محمود توفيق، بيجامة، وموقعة باسم: عبد الماجد.
وكنت قد فصلت بيجامتين لى عند الترزى، وكان جسم عبد الماجد مماثلاً لجسمى، ولم أكن قد لبست أيا منهما بعد. فعمدت إلى البيجامتين فلففتهما ومعهما إحدى فوط الوجه الخاصة بى، فى لفة جيدة المنظر، ثم مررت على محل حلوانى جروبى القريب من مسكنى فاشتريت دسته جاتوه وأخذتها معى، وكنت أعرف أن عبد الماجد يحب الجاتوه وكثيراً ما كان يطلبه عندما نذهب معاً إلى بوفيه كلية الآداب، وأخذت تلك الأشياء، وتوجهت بها إلى سجن الاستئناف، فسلمتها لشاويش   ابة.
وبعد اثنين وعشرين سنة من ذلك الوقت، كان عبد الماجد قد أصبح وزيراً مهماً للثقافة فى السودان، وكان شاعراً وأديباً ثم قانونياً. وتلقيت منه دعوة لزيارة الخرطوم، أنا وعبد الرحمن الخميسى، ورجاء    بعوة من وزارة الثقافة السودانية. وذهبنا إلى هناك فى مارس سنة 1968 أثناء حكم جمال عبد الناصر. وقابلنا عبد الماجد فى المطار، ومكثنا هناك أسبوعين، حيث لقينا منه، ومن المرحوم محمد أحمد محجوب، المحامى، والمندس والشاعر، ورئيس الوزراء الشهير الملقب "بالبوس"" -أى الرئيس، لقينا منهما. ومن غيرهما من الإخوة والأصدقاء السودانيين، من مظاهر الحفاوة وكرم الضيافة ما يعجز اللسان والقلم عن وصفها.
والتقينا هناك، بالمرحوم الرئيس إسماعيل الأزهرى، الذى كان رئيساً للجمهورية، واستقبلنا استقبالاً كريماً فى مكتبه المطل على نيل الخرطوم.
كما التقينا هناك بعدد من زملائنا الشيوعيين السودانيين، الذين كانوا أعضاء معنا فى الحركة الشيوعية المصرية، منهم:  عبده دهب، وعبد الخالق محجوب، وعز الدين على عامر، وعوض عبد الرازق، وغيرهم، وقد قدموا لنا أطيب ألوان المودة والحفاوة والأكرام.
وذات ليلة أثناء تلك الزيارة، ونحن جالسون فى "الونسة" السودانية الظريفة، قال لى عبد الماجد:
- على فكرة أنا متشكر على البيجامة التى أرسلتها لى فى سجن الاستئناف، فقلت له:
 - ياسيدى لا شكر على واجب، وعلى فكرة هما كانوا بيجامتين لا بيجامة واحدة. فأبدى دهشته ثم قال:
- لا- دى كانت واحدة بس.
فأشرت له باصبعى الاثنين وقلت:
-كانوا اثنين.
فضحك وقال:
-ولاد اكلب، سرقوا واحدة منهم. وعلى كل حال.. تعرف إنى أنا اتجوزت بالبيجامة بتاعتك دى؟
وضحك الحاضرون، ومنهم "البوس"، على هذه النادرة.
وكان عبد الماجد حين قبض عليه قد حصل على شهادة الليسانس، وفور الإفراج عنه تزوج من خطيبته "حنيفة" -السودانية الأصل، وطارا معاً إلى السودان، ليبدأ حياة سعيدة.
...
بعد شهر واحد، أفرج عن معظم المتهمين، المقبوض عليهم فى حملة صدقى ومنهم كمال، إذ أن تحقيقات النيابة لم تثبت على أحد منهم أى شئ من الاتهامات التى كانت موجهة إليهم. وبعد أيام أخرى، أفرج عن الباقين.
وهكذا اتضح أن حملة صدقى كانت من البداية: فشنك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق