ذكريات شاعر مناضل: 22- الأدبى والعلمى

22- الأدبى والعلمى


انتهى العام الدراسى، وأدينا امتحان الثقافة العامة، وظهرت النتيجة، وكنت من الناجحين. علمت بالنتيجة من صحيفة الأهرام التى كانت تنشر نتائج الامتحانات العامة، بنشر أرقام جلوس الناجحين، ويسميها باعة الصحف "نمر التلامذه"، حدث ذلك وأنا فى قريتى "الزاوية" لتمضية العطلة الصيفية. وتلقيت التهانى بهذا النجاح من الأهل والأصدقاء والمعارف، وكنت أتمنى أن أمضى أجازة هادئة وهنيئة لولا ..
تصادف أن كان إعلان النتيجة أثناء وجود شقيقتى "سعاد" وزوجها -ابن عمتنا: الدكتور (صيدلى) سعيد الأزهرى، وأولادهما، وكانوا قد حضروا لتمضية العطلة السنوية للدكتور سعيد، الذى كان وقتها يعمل صيدلياً بمستشفى شاوه بالمنصورة.
هنأنى الدكتور سعيد طبعاً بالنجاح، ثم سألنى: هيه.. ناوى على إيه؟ فأجبته: ناوى أدخل قسم أدبى، لأدخل بعدها كلية الحقوق. وكانت هذه هى رغبتى فعلاً. قلتها ببساطة، ولم أكن أعرف وقتها أن للدكتور سعيد موقف آخر من هذه المسألة.
غضب الدكتور سعيد غضباً شديداً لما قلته، وقال لى محذراً فى جمع من الأهل الذين حضروا للتهنئة: يا أخى حرام عليك. هاتضيع مستقبلك، أدبى إيه، وحقوق إيه اللى انت عايز تروحهم؟ لا حول ولا قوة إلا بالله! ودخل الدكتور سعيد معى فى مناقشات وجدل حاد، حول تفضيل القسم العلمى على القسم الأدبى، وتفضيل الكليات العلمية كالطب والصيدلة والعلوم والهندسة، وما تؤدى إليه كل منها من مهن محترمة، ومن مستقبل زاهر، على الكليات الأدبية والنظرية، كالحقوق، والآداب، والمعلمين، وما تؤدى إليه من مهن تعيسة، كالمحاماه، والتدريس، وما أشبه من الأعمال التى لا تسمن ولا تغنى من جوع. وتمسك كل منا برأيه، وكان رأيى بسيطاً وواضحاً. وهو أننى أميل بطبعى إلى الدراسة الأدبية، ولا أميل إلى تلك الدراسة العلمية، بما فيها من الرياضيات والمعادلات، وحساب المثلثات ..إلخ.
وفى نفس الوقت اشتدت معارضة الدكتور سعيد، وبدأ يشن على فى هذه المسألة حملة شعواء، استخدم فيها كل قدراته، شعراً ونثراً وزجلاً، هذا فضلاً عن تأليب الرأى العام العائلى ضدى، ومطالبتهم بالضغط على. حتى لا أقوم بإضاعة مستقبلى بدخول القسم الأدبى.
وكان مما قاله شعراً فى هذا الصدد. قصيدة عصماء كان مطلعها:

خش العلوم وبل على الآداب
وانزل عليها السخط فى المحراب
كم جرت الآداب من بلوائها
خيل الخراب المر للطلاب .. إلخ

ومما قاله زجلاً:
الأوله آه قالوا لى الأخ راح أدبى ..
وخش خلاص .. ومش بالإيد
والثانية آه أتارى الأخ زاد تعبى 
وإيه هـــا يفيــــــــــد ... ؟
وأمضى الدكتور سعيد شهر إجازته وليست له تسلية إلا فى هذا الموضوع، وحين انتهت أجازته، ورحل هو وأسرته إلى المنصورة، كانت حملته الشعواء قد آتت نتائجها. تعبأ الرأى العام العائلى فى اتجاه الضغط على لإقناعى بدخول القسم العلمى، وعدم دخول القسم الأدبى.
وكنت أجد أحياناً واحدة من قريباتى الريفيات -خالة أو عمة، أو بنت خالة أو عمة، تعترض طريقى وأنا سائر لتسألنى بإشفاق:
-ليه يا ابنى (أو يا اخويا) عاوز تضيع مستقبلك وتدخل أدبى؟ ما تدخل العلمى ده أحسن!.
وكانت تلك القريبات لا يعرفن شيئاً عن العلمى أو الأدبى بالطبع، ولكنهم كن معبات ومسيرات وراء الدعاية التى قام بها الدكتور سعيد طول شهر كامل. وكان من يردد تلك الدعاية هم من النساء، أما الرجال فلم يكن أحد منهم يحادثنى فى هذا الموضوع، إذ كان لديهم من المشاغل ما يمنعهم من التدخل فيما لا يعنيهم، فضلاً عن أنهم كانوا لا يأبهون لهذا الأمر أصلاً، ولا يعنيهم فى شئ أن أدخل أنا القسم العلمى أو القسم الأدبى.
عدت إلى المدرسة فى بداية العام الدراسى الجديد 1942 - 1943، وكنت أنوى دخول القسم الأدبى، وأتصور أنه لا توجد أى مشكلة فى هذا الموضوع، ولكن لدهشتى، فوجئت بوجود مشكلة كبيرة فى الأمر، إذا أن مدرسة حلوان لم يكن بها أصلاً قسم أدبى بالثانوية العامة، ولا يوجد إلا القسم العلمى، وطلبت أن أنقل إلى مدرسة أخرى بها قسم أدبى فى الثانوية العامة، وأن يكون بها قسم داخلى أيضاً. ثم تبين أن ذلك الأمر فى منتهى الصعوبة، وأنه كان يتعين على أن أقدم طلباً بذلك قبل بداية السنة الدراسية بوقت كافى، أما وقد فات الوقت على ذلك، فليس أمامى إلا القسم العلمى.
حاولت أن أجد حلاً عاجلاً لهذه الورطة فلم أجد، وكنت قد دخلت القسم العلمى فعلاً وأحضر الحصص فى أحد فصليه بالمدرسة، على أمل أن أستطيع التحويل إلى مدرسة أخرى بها قسم أدبى وقسم داخلى أيضاً، وانتظرت أن أجاب إلى ذلك رداً على الطلب الذى كنت قد تقدمت به إلى المدرسة، والذى أحيل إلى الوزارة، ولكن دون جدوى.
ووجدتنى ألوم نفسى على إهمالى فى هذا الأمر طوال مدة العطلة الصيفية وعلى جهلى الغريب بعدم وجود قسم أدبى بمدرسة حلوان، وهو ما ظللت أجهله طيلة السنوات التى قضيتها بها. وكانت إرادتى قد تزعزعت بسبب حملة الدعاية الهائلة التى قام بها الدكتور سعيد وما أدت إليه من ضغوط عائلية، وبسبب انتظامى فى حصص القسم العلمى، وبسبب بعض النصائح التى ألقاها إلى بعض الأساتذة بأن استسلم للأمر الواقع وأن أنتظم فى دراسة مواد القسم العلمى. وتأثرت أيضاً ببعض النصائح الأخرى التى كانت تزين لى الفوائد التى ستعود على من ذلك، الطب بجلالة قدرة، والهندسة وما أدراك ما هى، وأن مثل هذه المهن لا تتعارض مع التوجهات الأدبية، وأن هناك العديد من الأطباء والمهندسين الذين هم شعراء وأدباء فى الوقت نفسه، على محمود طه، إبراهيم ناجى، محمد كامل حسين ... إلخ.
ووجدت نفسى أستسلم للتيار الجارف وأنخرط فى سلك الدراسة بالقسم العلمى.
غير أن الحقيقة التى كنت أتجاهلها ما لبثت تتجسد لى يوماً بعد يوم، فما أن مضى العام الدراسى قدماً حتى كنت قد ضقت ذراعاً بالدراسة العلمية، إلا ما كان مشتركاً بينها وبين القسم الأدبى من مواد. وجدت نفسى تنغلق أكثر فأكثر عن قبول أو استيعاب المواد الرياضية وما يدخل منها فى المواد العلمية، الجبر، وحساب المثلثات، واللوغاريتمات: جاوجتا، وظاوظتا ..إلخ، وبعد انغلاق نفسى أنغلق عقلى أيضاً عن فهم هذه الأمور، حتى أصبحت أحضر تلك الدروس وأنا غائب العقل مشغول بتأليف الشعر. ولاحظ الأستاذ الشيمى، مدرس أول الكيمياء حالتى، وعرفها، فكان لا يوجه إلى أى أسئلة فى هذه المادة كما كان يفعل مع غيرى من الطلبة، وكان حين ينسى الموضوع ويوجه إلى سؤالاً يعود يقول لى:
-آسف نسيت إنك أدبى.
ولما كان لا يصح إلا الصحيح، فقد صلت فى نهاية العام الدراسى إلى النتيجة التى كنت أعرفها منذ البداية، وهى أننى لا أصلح لهذا الطريق، ولا يصلح لى. واتخذت قرارى بألا أحضر الامتحان. وقد كان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق