ذكريات شاعر مناضل: 37- أيها القراصنة

37- أيها القراصنة

فى صيف سنة 1947 أدينا امتحان آخر العام الدراسى، وظهرت نتائجه، وكنت ناجحاً ونقلت إلى السنة الثالثة، أما كمال عبد الحليم، وعبد العزيز بيومى، فقد تخرجا من الكلية ونالا شهادة الليسانس، وأما كامل زهيرى فقد نقل إلى السنة الرابعة، بينما نقل عادل أمين إلى السنة الثالثة.
ولم أسافر إلى "الزاوية" فى تلك العطلة، بل بقيت فى القاهرة، أواول نشاطى فى المنطقة، فأحضر اجتماعات لجنة القسم التى كان يرأسها سعد المهدى كما أحضر اجتماعات الخلية القاعدية التى كنت أرأسها، وما يقتضية ذلك من تكليفات وأعمال واتصالات. وكنا نتسلم المطبوعات السرية، من منشورات ونشرات داخلية، وكنا أنا وزملاء المجموعة القاعدية، نتولى توزيع المنشورات التى يصدرها التنظيم، داخل حى بولاق. وكنت أتولى عملية التوزيع بالتعاون مع أحد زملاء المجموعة، بالتبادل بينهم. ومع الوقت اكتسبنا الخبرة اللازمة لهذا التوزيع دون أن نتعرض للكثير من المخاطر، وتعلمنا كيف نختار الأماكن التى نقوم بالتوزيع فيها، واكتسبنا قدراً متزايداً من الفراسة فى اختيار الأشخاص الذين نتولى التوزيع عليهم، حتى نتفادى التعرض للوقوع فى يد المخبرين، أو أمثالهم من عملاء السلطة. وتعلمنا ألا نقوم بالتوزيع فى أى شارع أو حارة "سد"، حتى لا نضطر إلى العودة فيه راجعين إلى الأماكن التى قمنا بالتوزيع فيها، والتى يكون الأشخاص الذين وزعنا عليهم قد قرأوها وعرفوا أنها منشورات شيوعية أو ثورية. وكان أحدنا يقوم بالتوزيع، بينما يلاحظه الآخر من بعيد، ولا يتدخل لمساعدته أو نجدته إلا عند الضرورة القصوى.
هذا فى الوقت الذى كان النقراشى يسير بخطى حثيثة فى اتجاه استئناف المفاوضات مع بريطانيا آملاً من خلالها إلى التوصل إلى اتفاق معها لتحقيق الأهداف الوطنية فى الجلاء ووحدة وادى النيل "تحت التاج الملكى المصرى"، وكانت بريطانيا -كعادتها- تزاول معه "لعبة القط والفأر"، أو لعبة "دوخينى يا لمونه"، هو يدوي ويدور، ويستمر فى المحاولة.
وفى تلك الأيام، فوجئنا فى أحد اجتماعات لجنة القسم برئاسة الزميل سعد المهدى، بحضور زميلين آخرين من المستوى الأعلى، أحدهما هو "شوقى" -كمال شعبان، والآخر هو "حميدو" -محمد شطا، وتبين أنهما جاءا للحديث معنا فى بعض الأمور الهامة، فى نطاق خطة تهدف من ورائها قيادة التنظيم إلى تعميق الوحدة الفكرية بين كوادر التنظيم، ولتبادل الخبرات بين مستوياته المختلفة.
-وتكلم شوقى أولاً عن الوضع السياسى المتأزم فى البلاد، وعن الفشل الذى تتردى فيه حكومة النقراشى والحكومات البورجوازية التى تعاقبت على البلاد فى السنوات الماضية. ثم تكلم عن أهمية العمل لبناء جبهة وطنية ديموقراطية نواتها الطبقة العاملة وطليعتها الواعية "الشيوعيون". ودار نقاش طويل حول هذه الأمور، وحول أهمية دورنا فى تحقيق هذه الأهداف.
-وتكلم حميدو عن التنظيم، وأهميته فى عمل ونضال الطبقة العاملة، وحزبها، الذى هو كتيبتها القائد. وبدأ بشرح ما هو التنظيم، انتهى فيه إلى أن التنظيم هو تعبئة القوات وحشدها وكيفية تحريكها لتحقيق الأهداف. واستطرد فى بيان هذه الأمور وشرحها بطريقة مبسطة سهلة. ولفت نظرى أولاً من الرفيق "حميدو"، شكله وأسلوبه فى الكلام، كانت ملامح وجهه تشبه ملامح الرفيق "ستالين" وكأنه هو بعينه، الشارب، والجبهة، والشفتان.. إلخ. وكان تكوينه الجسمانى ربعاً كتكوين ستالين، وكان أسلوبه فى عرض الأفكار، بطرح الأسئلة والإجابة عليها. يذكرنى بطريقة ستالين فى عرض أفكاره، على ما عرفت ذلك من الكتب التى قرأتها له: المسألة الوطنية، أسس اللينينية، المادية الجدلية. وفيما بعد ازداد إعجابى وعجبى بحميدو، عندما عرفت أنه عامل نسيج فى المحلة، وأنه وثيق الصلة بالفلاحين، وقريب العهد بهم.
-وخرجنا من هذا الاجتماع بعدة قرارات، كان منها ضرورة الانطلاق فى العمل الجماهيرى، وفى العمل الجماهيرى، وفى العمل الجبهوى بصفة خاصة. ومما تقرر: أن أسعى أنا وصبرى جبر، ورفاق المجموعة القاعدية التى كنت مسئولاً عنها، إلى الانضمام إلى لجنة الشباب الوفدى بحى بولاق، وممارسة العمل من خلالها على الترويج لأفكار التنظيم، وفكرة الجبهة الوطينة الديموقراطية.
-وبالفعل تم لنا ذلك، وفى خلال أسبوع واحد أصبحنا أعضاء فى لجنة الشباب الوفدى، وساعدنا فى ذلك، أن كمال عمران، زميلنا القادم من أسكرا، كان والده عمدة بولاق، أى رئيس مشايخ الحارات فى الحى كله. وكان رئيس اللجنة هو الأستاذ سيد شرشر، الموظف بوزارة الأوقاف، والنشاط الوفدى البارز، وكانت الاجتماعات تعقد فى مكتب محمد بك حسانين، عضو مجلس النواب السابق، وشقيق أحمد باشا حسنين، رئيس الديوان الملكى. وقد انعقد الاجتماع الأول بحضوره. وقد قوبل حضورنا، وكلامنا فى الاجتماع بالمودة والترحاب.
-أخيراً، وبعد ثمانية أشهر من توليه الحكم، حزم النقراشى أمره، وتقدم بطلب إلى مجلس الأمن يطلب فيه عرض القضية وإصدار قرار بإلزام بريطانيا بالجلاء عن مصر والسودان، وفيما عدا تقديم العريضة، لم تقم حكومة النقراشى بأى جهد يذكر لمساندة قضيتها أمام المجلس، بل اكتفى بإلقاء خطاب فوق منبر المجلس، وجه فيه النداء بطريقة عنترية إلى البريطانيين صائحاً: أيها القراصنة أخرجوا من بلادنا.
-وقد طرحت القضية بعد ذلك للتصويت، فلم يؤيد مطلب مصر سوى ثلاثه دول (من 11 دولة)، هى: الاتحاد السوفييتى (وكان يمثله اندريه جروميكو)، وبولندا (وكان يمثلها أوسكار لانج) وسوريا (وكان يمثلها فارس الخورى) وهكذا رفضت القضية، وعاد النقراشى يخفى حنين. عاد ليواجه شعباً غاضباً تتوالى فيه المظاهرات فى كل مكان، تحت شعارات: الجلاء بالدماء،الثورة -الثورة -الثورة. ولما كانت الجامعات والمدارس فى وقت العطلة الصيفية، فقد تحمل العمال العبء كله.
وفى سبتمبر 1947 قام عمال المحلة بمظاهرات حاشدة، واجهها البوليس بإطلاق النار على المتظاهرين. فسقط منهم أكثر من 200 بين قتيل وجريح، ولكن المظاهرات استمرت واشتعلت الحرائق، ونزلت قوات من الجيش وحاصرت المصنع، ولكن شرارة الإضراب امتدت إلى أماكن عديدة أخرى.
-وكذلك امتدت حركة الإضراب إلى العديد من الطوائف الأخرى. حتى إلى جنود وضباط البوليس، وفى الإسكندرية تم إنزال قوات من الجيش إلى الشوارع، واصطدم الجيش بالبوليس هناك، وأطلق عليه النار، وأصيب أكثر من 30 شخصاً. كما جرى إشعال النار فى عربات الترام وبعض أقسام البوليس بالإسكندرية.
-وفى أغسطس سنة 1947 قدم الرفيق يونس "هنرى كورييل" -المسئول السياسى باللجنة المركزية التقرير السايسى الذى كان قد كلف بكتابته، والذى كان مشروعاً لتحديد الخط السياسى للتنظيم الجديد (حدتو) -والذى سمى بعد ذلك- "بخط قوات وطنية ديموقراطية"- والذى لعبء دوراً عظيم الأهمية فى تلك الحركة، وسوف نعرض له ولتطوراته فى موضع آخر من هذه الصفحات.
وما هى إلا فترة وجيزة -اسبوعان أو ثلاثة- حتى قامت الدنيا ولم تقعد، إذ سرعان ما أقام بعض الزملاء تكتلاً سموه "التكتل الثورى" الذى قاده الشهيد شهدى عطية الشافعى -عضو اللجنة المركزية لحدتو- ومعه كل من أنور عبد الملك، وحسين كاظم، واشترك فيه: سعد زهران، وحسين الغمرى، وعبد المنعم الغزالى، ومحمد سيد أحمد، وإلهام سيف النصر، وتوفيق حداد، ونقولا ورد. وقد التف كل هؤلاء حول تقرير شهدى، الذى يعارض تقرير يونس. وكان شهدى قد طبع تقريره، وأخذ ينشره داخل التنظيم عن طريق أنصاره، وقد تلقيت أنا نسخة منه أحضرها لى حسين كاظم شخصياً فى مسكنى بباب اللوق -وكانت بينى وبينه معرفة سابقة، قبل انضمامى للتنظيم. وفى تلك  المقابلة حاول حسين كاظم (والذى كان يسمى أيضاً) بموسى كاظم أن يقنعنى بصحة التقرير، وبصحة قيامه ومن معه ينشره بهذه الطريقة غير التنظيمية، وأن يستقطبنى إلى ذلك التكتل، ولكننى لم استجب لهذه المحاولة، فقد كنت شديد الإيمان بالانضباط التنظيمى، وبالقواعد التنظيمية.
ولكن بكل أسف، فقد انتشرت النيران التى أشعلتها حركة "التكتل الثورى" هذه فى أركان "حدتو" كما تنتشر النار فى الهشيم، على ما سوف نتعرض له فى موضوع آخر.
وفى سبتمبر سنة 1947، بدأت الإشاعات، ثم الأنباء تترامى وتتواتر عن ظهور وباء الكوليرا فى مصر، وبدأ انتشاره فى مناطق متعددة من البلاد، وما لبث الأمر أن تأكد وثبتت صحته، واجتاح الرعب من هذا الوباء كل أرجاء مصر. وتبين من التحقيقات والبحوث الصحفية التى أجريت، أن المرض قد بدأ من قرية القرين بالشرقية، وامتد منها إلى أرجاء متعددة من مديرية الشرقية، ثم إلى أرجاء منطقة القنال، وكذلك إلى مناطق عديدة من الوجه البحرى والإسكندرية، ثم إلى مناطق فى الصعيد، ثم إلى مناطق فى القاهرة، وبالذات فى بعض المناطق الفقيرة منها، وكان المرض يحصد أرواح الناس بالمئات كل يوم، وأسرعت الجهات الحكومية المختصة، بإقامة المعازل والمستشفيات المتنقلة، المقامة أساساً من الخيام، لمحاولة إسعاف المرضى، وعلاجهم -على قدر الإمكان- ولتطهير المناطق المصابة، واللمعرضه للإصابة بالمطهرات. كما أقيمت الكثير من المدافن الجماعية لدفن عشرات أو مئات الجثث فيها، وردمها بالجير الحى. وقد سارعت العديد من الجمعيات الأهلية والخيرية إلى محاولة المساهمة فى مكافحة الوباء وتعليم الناس أن يتخذوا الاحتياطات لوقاية أنفسهم منه. وقمت أنا بإعداد وعاء كبير ملئ بالماء الممزوج بالبرمنجانات -ذات اللون البنفسجى- لغسل الأيدى فيه، ولغسل كل الخضروات والفاكهة قبل تناولها. وقمت بوضعه أمام باب مسكنى.
-وانبرت الحركة الديموقراطية لتساهم بدور نشط وفعال فى هذه المعركة. فأقامت لجاناً من أعضائها، وعاطفيها، من الأطباء وطلبة الطب، والممرضات، وكل من لدية القدرة، سمتها "لجان مكافحة الكوليرا"، أقامتها فى أحياء القاهرة والإسكندرية الفقيرة، وفى قرى وبلدات مختلفة بالوجهين البحرى والقبلى، تقوم بالإرشاد الصحى، والمعونات اللازمة لمقاومة المرض وعلاجه. واستمرت هذه اللجان قائمة تؤدى عملها، إلى أن انتهى خطر الوباء.
وأخيراً، فقد كشفت الأبحاث والتحقيقات أن المرض قد بدأ فى قرية القرين، بسبب قيام بعض الأشخاص، بشراء "الرابش" وهو المخلفات الغذائية من بعش معسكرات الجيش البريطانى، وبيعها للفقراء لتناولها، وأن هذه المخلفات كانت ملوثه بميكروبات المرض اللعين. وذهب الناس إلى القول، بأن ذلك التلوث، قد قامت به الجهات البريطانية عمداً،لإغراق مصر فى مصيبة جديدة تلهيها عن النضال الوطنى لطرد الاحتلال.
-وفى نفس هذه الفترة، كانت السلطات قد بدأت فى التضييق على الإخوان المسلمين وملاحقتهم، بعد أن أحست بتزايد خطورتهم وانتهى الأمر بصدور قرار من الحكومة بحل جماعة الإخوان المسلمين. وقد رد الإخوان على قرار حلهم، بقرار طائش خطير، وهو قتل النقراشى باشا، رئيس الوزراء، مصدر القرار، وتم لهم ذلك فى آخر ديسمبر سنة 1948، حيث استطاع طالب من الإخوان يدعى محمود عبد المجيد، أن يدخل إلى بهو ديوان وزارة الداخلية، متخفياً فى زى ضابط شرطة، وأن يظفر بالنقراشى -رئيس الوزراء ووزير الداخلية فى نفس الوقت، وأن يطلق عليه رصاصتين من مسدسه وهو يهم بركوب المصعد، سقط بسببهما قتيلاً فى الحال.
-وهكذا مات النقراشى، قاتل الطلبة، برصاص طالب من الطلبة. وكلف إبراهيم عبد الهادى باشا، نائب رئيس الحزب السعدى الذى كان يرأسه النقراشى بتشكيل الوزارة الجديدة.
-وكان إبراهيم عبد الهادى عند حسن ظن السراى به، التى اعتبرت قتل النقراشى ضربة موجهة لها.. ذلك أنه لم يضيع وقتاً، فبعد 6 أسابيع فقط من اغتيال النقراشى، تم اغتيال الشيخ حسن البنا، المرشد العام للإخوان المسلمين، زعيم الجماعة ومؤسسها، وذلك فى يوم 12 فبراير سنة 1949. وثبت أن السلطة هى التى دبرت اغتياله، على يد مجموعه من رجال الأمن (مخبرين) قام باختيارهم وقيادتهم رجل مباحث جنائية شهير، هو الأميرالاى محمود عبد المجيد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق