ذكريات شاعر مناضل: 77- عود على بدأ

77- عود على بدأ

  وجدنا سيارة بوكس تنتظرنا أمام محطة الجيزة، فركبنا - أنا والجنديين بها، ويدى مقيدة إلى يد أحدهما بالكلبش - وركب الضابط - عبد الواحد - إلى جوار سائقها، وانطلقت بنا إلى سجن مصر - قرة ميدان.
 دخلنا من بوابة السجن، وكان أحد الجنديين يحمل لى كيس ملابسى المصنوع من الدمور الأبيض. وفى المكاتب، ثم تسجيل حضورى، وصافحنى الضابط مودعاً بحرارة، ثم خرج هو والجنديين.
 ادخلت من باب الوسط إلى فناء السجن، فوجدته يموج بالمسجونين الشيوعيين، وكانوا يقضون فترة طابور الصباح. وتجمع حولى عدد منهم، ممن عرفونى، ودخلنا إلى مكتب مجاور. وجدت فيه الضابط، اليوزباشى إبراهيم مصطفى، الذى كنت قد عرفته من قبل. وكان هو الضابط المختص بعنبر ج، عنبر الشيوعيين، أساساً. وتفاءلت خيراً بوجود هذا الضابط الذى كنت قد التقيت به - بصفة عابرة، منذ ما يقرب من عامين، حين كان مازال ملازماً أول، وترك فى نفسى انطباعاً طيباً.
 أدخلت إلى العنبر، وصعدت إلى الدور الرابع، حيث استلمنى شاويش الدور، الشاويش عبد الغفار، وكان الزملاء قد عادوا من الطابور، وتقدموا للشاويش، واتفقوا معه على الغرفة التى سأنزل بها.
 كانت غرفة واسعة، بها ثمانية أسرة، كل سرير يتكون من ثلاثة أدوار، وكان ذلك أمراً جديداً لم أشهده لدى حضورى إلى هذا السجن من قبل، حيث كنا - مع الإخوان المسلمين - وفراشنا مجرد برش من الليف ملقى على الأرض الأسفلتية السوداء. اخترت سريراً فى الدور الأسفل، حتى يسهل على الدخول فيه، والخروج منه، والجلوس عليه،  بدلاً من الأريكة. أى أن الغرفة كانت تتسع لأكثر من عشرين فرداً. وكانت مليئة تقريباً بالنزلاء، وكان بها بعض الموائد الصغيرة، وعدد من المقاعد الخشبية. وذلك بهدف استعمالها فى تناول الطعام، وفى الجلوس للقراءة، والكتابة.
 -تعرفت على زملاء غرفتى. ثم فيما بعد، على بقية الزملاء فى الدور كله.
 كان من زملاء غرفتى الزميل فؤاد حبشى، وهو من قادة حدتو سابقاً، ومن الأعضاء القياديين فى الحزب الشيوعى الموحد، وهو شخصية قيادية بارزة، كان يعتبر "عمدة" فى سجن مصر، ولدى كل الزملاء، ولدى إدارة السجن. وكان عسكرياً سابقاً، من مجموعة صف ضباط الطيران فى حدتو، وكان لهم تاريخ حافل فى حينهم. وكان هناك الزميل يحيى المازنى، المناضل البارز، والشخص الظريف الذكى، وأخوة فوزى المازنى، وكان هناك محمد الخياط، الكادر البارز فى حدتو. وفى حى السيدة زينب على وجه الخصوص، وكان رياضياً طويلاً عريضاً. وكان منهم الدكتور عثمان طلبة، من قضية الجبهة الوطنية. والكادر البارز فى الإسكندرية.. وآخرون. وكلهم من الحزب الموحد، ومن حدتو سابقاً.
 وفى الغرفة المقابلة من نفس الدور، كان هناك عدد كبير من الرفاق - أعضاء الحزب الموحد، ومن أعضاء المنظمات الأخرى التى دخلت فى تلك الوحدة، كان منهم: بكر الشرقاوى، وجمال الشرقاوى، وفؤاد بلبع، وتوفيق فانوس، وفخرى لبيب، وعبدالله كامل، وآخرون.
 وكان فى الغرف الأخرى بنفس الطابق، زملاء آخرون، إما من العمال والفلاحين، منهم: لمعى المطيعى، وفوزى فام، وسعد المهدى، وشوقى مجاهد، وآخرون، وكنت أعرف بعضهم من قبل، وجمعتنى معهم زمالة سابقة فى حدتو، مثل سعد المهدى الذى كان زميلاً لى فى لجنة قسم بولاق أبو العلا، قبل أن يخرج من حدتو لينضم إلى ع.ف (العمال والفلاحين) فى فترة الانقسامات فى الأربعينات.
 وفى غرفة أخرى كان هناك عدد من الزملاء من أعضاء حزب الراية "الحزب الشيوعى المصرى"، منهم الزملاء، ثروت إلياس، ونشأت إسكندر، ومنير فيلبس.. وآخرون. وكانت هناك مفاوضات للوحدة تجرى خارج السجن، بين زملاء الموحد، وزملاء حزب الرايه، ولكنها كانت مفاوضات متعثرة. أما عن حزب ع.ف، فكان رافضاً للوحدة من الأساس.
 كانت الأمور تسير على نحو مرضى، والعلاقة مع الإدارة تمضى على ما يرام، يسودها التفاهم، والاحترام المتبادل، وخصوصاً مع اليوزباشى إبراهيم مصطفى، ضابط العنبر، واللواء محمود صاحب، مدير السجن، الذى كان شخصية مستنيرة، وحسنة التصرف.
 وكان الدكتور عثمان طلبة، على صلة طيبة بأطباء مستشفى السجن، وخصوصاً بالدكتور إبراهيم زكى، الظريف المرح، وابن البلد الشهم الخدوم. وعن طريقهما بدأت علاجى الجدى مع أخصائى الأسنان، الذى كان يحضر ثلاثة أيام فى الأسبوع، وكانت له عيادة فى مستشفى السجن، مجهزة بالمعدات اللازمة.
 بعد وصولى إلى سجن مصر، ببضعة أيام، أبلغت أن لى زيارة خاصة، فى مكتب اليوزباشى إبراهيم مصطفى، وفوجئت بأن الزائرين، هم يوسف صديق، شخصياً، وكان يرتدى ملابسه العسكرية، إذ مازال يمارس دوره العسكرى فى وحدات المقاومة الشعبية، ومعه سهير - زوجتى - وأبنتى ليلى، وأبنى يوسف صديق - الصغير.
 وكانت زيارة بهيجة لم أكن أتوقعها بهذه السرعة. وقد فسرت لى سبب ترحيلى المفاجئ من سجن أسيوط، إلى سجن مصر، إذ علمت أن يوسف كان قد التقى بجمال عبد الناصر، ثم بزكريا محيى الدين (وزير الداخلية إذ ذاك) وتكلم معهما عنى، طالباً إنهاء مهزلة وجودى فى السجن، وما تعانيه ابنته - زوجتى سهير - وابناها الصغيران، من مشقة وبهدلة، فى زيارتهم لى بالواحات. وقد أسفر الكلام عن حل وسط، هو رفض الإفراج عنى، لارتباط هذا الأمر بمشكلة سياسية كبيرة، هى مشكلة الشيوعيين المصريين كلهم مع النظام، والموافقة فى نفس الوقت على نقلى إلى سجن مصر، بدلاً من الواحات، إعفاء لسهير وأطفالها من مشقة السفرإلى الواحات، وإرضاء ليوسف. وعليه، فقد تم إصدار الأمر بترحيلى فوراً إلى سجن مصر، ثم أبلغ الأمر إلى سجن أسيوط الذى كنت متواجداً فيه وقتها، وجرى تنفيذه فوراً على النحو الذى ذكرته فيما سبق. وأبلغنى يوسف. أنه التقى باللواء زكى شكرى - مدير مصلحة السجون، الذى كان أصلاً ضابط جيش، وكان من تلاميذ يوسف فى الكلية الحربية، واتفق معه على التصريح لى بزيارة أسبوعية خاصة، وأن تكون هذه الزيارة زيارة مفتوحة، أى دون تحديد وقت محدد لها. وقد أبلغ هذا الأمر إلى إدراة سجن مصر، وعهد إلى الضابط إبراهيم مصطفى بتفيذه.
 سارع إبراهيم مصطفى إلى الحفاوة بيوسف صديق، فقد كان من المعجبين بدوره فى الثورة، ومن المحبين له، كما احتفى بسهير والأولاد.
 وكانت زيارة جميلة، أشاعت فى نفسى السرور والغبطة، وبلت بعض أشواقى.
 وعلم الزملاء بأمر تلك الزيارة، وبوجود يوسف صديق شخصياً فيها، فكونوا وفداً مشتركاً منهم، فؤاد حبشى، وفخرى لبيب، ولمعى المطيعى، وعبدالله كامل، واستأذنوا من الضابط إبراهيم مصطفى، فوافق على دخولهم إلى مكتبه، ولقائهم بيوسف صديق، ولتحيته والحديث معه، ورغبتهم فى إنهاء الأزمة القائمة بينهم، الشيوعيين، وبين نظام عبد الناصر، بعد أن زال الكثير من أسبابها، وأمن يوسف على قولهم، ووعد بتبليغه إلى الرئيس جمال عبد الناصر.
 انتظمت زيارات سهير والأولاد لى، فكانت تحضر فى ميعادها الأسبوعى وهما معها، لا تتخلف عن ذلك، وكانت تحضر لى معها كل ما احتاج إليه، المأكولات التى أحبها، الملابس التى احتاج إليها، الكتب والمجلات التى أطلبها، كما كانت تدخل معها من يودون زيارتى من الأهل، شقيقتى عليه طبعاً، وشقيقتى بهيجة، وشقيقتى سعاد، وكن يحضرن معهن الكثير من المأكولات، لى ولمن معى، خصوصاً فى المواسم والأعياد.
 وانتظمت الحياة فى سجن مصر طوال هذا العام، فالإقامة هادئة بلا منغصات ولا مشاكل، والطعام وفير بفضل ما ترسله العائلات لنا وما تحضره فى الزيارات من الأطعمة.
 وكان لدينا فى العنبر مكتبه تضم المئات من الكتب، ويشرف عليها بعض الزملاء، بمعرفة الإدارة وموافقتها، وتتنوع موضوعاتها، مابين الأدب والتاريخ والسياسة - ماعدا المحظورة قانوناً - الشيوعية - ولكننا كنا نستطيع التصرف لإدخال وحفظ كل ما نريده منها. وكانت هناك إلى جانب الكتب العربية، كتب أخرى باللغات الإنجليزية والفرنسية، فكانت المكتبه تلبى حاجه كل الزملاء وتملأ فراغ حياتهم على نحو مجدى.
 وإلى جانب هذا النشاط، كان هناك النشاط السياسى، اجتماعات تنظيمية، ومدرسة كادر، ودروس فى اللغات، وفى مختلف العلوم.. إلخ. وإلى جانب المكتبة كانت لدينا ورشة تجليد للكتب، يشرف عليها بعض الزملاء، وكانت تتولى تجليد الكتب وصيانتها من التلف، وكانت لها فوائد أخرى فى حفظ وتأمين بعض الأوراق السرية فى داخل بعض الأغلفة.
 كان هناك نشاط آخر، هو لعب الشطرنج. إذ كان لبعض الرفاق تفوق واضح فى تلك اللعبة، مثل ثروت إلياس، الذى كان على مستوى عالمى فى تلك اللعبة، بحيث يستطيع كسب الدور مع زميل آخر، يجيد هو الآخر اللعب، بينما هو مربوط العينين، لا يرى اللوحة وما عليها، وكان ذلك يذكرنى بقول ابن الرومى فى أحد أبناء زمانه، وهو أبو القاسم الشطرنجى:
 تقتل الشاة حيث شئت من الرقعة طباً بالقتلة النكراء
غير ما ناظر بعينيك للدست ولا مقبل على الرقباء
 وكان هناك زملاء قلائل - مثل عبدالله كامل - يجيدون اللعب، ولكن ليسوا فى مهارة ثروت إلياس. وكانت تلك المباريات تجمع حول اللاعبين الكثير من المشاهدين من الزملاء. فى وقت الطابور كانت تنصب شبكة للعب الفولى بول، حيث يصول بعض الزملاء الرياضيين ويجولون، مثل محمد الخياط الملقب "بالهورس" لقوته ونشاطة.
 كما كنا ننزل أحياناً لنتفرج على مبارة فى كرة السلة، فى ملعب قائم فى جانب من الفناء. بين فريقين من الضباط والجنود والنزلاء، حيث كان كل من الضابطين، إبراهيم مصطفى، وحسن الخبيرى، من أبطال تلك اللعبة، ومن أعضاء فريق نادى الشرطة.
 كان عام 1955 هو العام الذى تمت فيه وحدة الحزب الشيوعى الموحد بين حدتو وباقى المنظمات التى دخلت معها فى لجنة الوحدة - والتى سبق بيانها أما عام 1957، وهو العام الذى وصلت فى أوله إلى سجن قرة ميدان، فقد كان عاماً مكرساً للسعى فى إتمام الوحدة بين كل المنظمات الشيوعية التى كانت قائمة، وهى: الحزب الشيوعى الموحد، وحزب الراية - أى الحزب الشيوعى المصرى، وحزب د.ش أى الديموقراطية الشعبية والذى كان يسمى أيضاً ع.ف، أى حزب العمال والفلاحين.
 فى خلال عام 1957، جرى ترحيل عدد من زملائنا فى السجن، منهم فؤاد حبشى، ويحيى المازنى، وفوزى المازنى، وآخرون، فى حين وفد إلينا عدد آخر من الزملاء، شريف حتاته، سعد كامل، ألبير آزولاى، وافدين من سجن جناح، كما وفد إلينا ثلاثة زملاء من ليمان طره، هم: يحيى عبد الرشيد، محمد عثمان، محمود يوسف، الذين كان قد حكم عليهم بالأشغال الشاقة لمدة عشر سنوات، باعتبارهم من الإخوان المسلمين، وكانوا ثلاثتهم من طلبة حقوق عين شمس. وقد دافعوا عن أنفسهم أمام محكمة الشعب، بأنهم شيوعيون، ولكن لم يسمع لهم أحد، وظلوا ثلاث سنوات إخواناً، إلى أن ثبتت شيوعيتهم، فنقلوا إلى سجن مصر، ليكونوا مع الشيوعيين. وحكوا لنا عن المذبحة التى ارتكبت ضد المسجونين من الإخوان المسلمين على يد رجال الأمن، والتى قتل فيها عد كبير من الإخوان رمياً بالمدافع الرشاشة داخل الزنازين.
 بعد تمام وحدة حزب 8 يناير تشكلت فى السجن لجنة منطقة مكونة منى، ومن الدكتور شريف حتاته، ومن لمعى المطيعى وآخر من حزب ع.ف يسمى محمد التهامى، ومن ثروت إلياس - عن حزب الراية. وبعد أقل من شهرين، بدأت الخلافات تدب بين أعضاء اللجنة، وبدأت الظاهرة التكتلية التى كانت قد سادت الحزب، تنتقل إلينا، فانقسمت اللجنة، وتوقفت عن الاجتماعات.
 فى عام 58 تمت الوحدة بين مصر وسوريا، وكتبت قصيدة أحى فيها تلك الواحدة، بعنوان: "فلتعش وحدتنا"، نشرت فى حينها فى مجلة السجون. ولكن للأسف فإن هذه الوحدة، وقد ثبت فشلها بعد ذلك، كانت سبباً فى أزمات طاحنة بين الشيوعيين العرب وبين نظام عبد الناصر.
 وفى عام 58 علمنا بإطلاق أول قمر صناعى سوفييتى، هو سبوتنيك، الذى اعتبر نصراً علمياً وعسكرياً عظيماً للاتحاد السوفييتى، كانت له ردود فعل عظيمة لدينا، ولدى الرأى العام العالمى، كما أصاب أمريكا بالغيظ والفزع.
 وكانت ثورة عبد الكريم قاسم قد قامت فى العراق، فى أواخر سنة 1957، وساندها الشيوعيون العراقيون، وشاركوا مع قاسم فى الحكم، وعند قيام الوحدة السورية المصرية فى فبراير سنة 58، ناوئها نظام قاسم، ووجه إليها انتقادات كثيرة، وأثار ذلك غضب عبد الناصر، فشن حملة ضارية على نظام عبد الكريم قاسم، وعلى الاتحاد السوفييتى الذى كان يناصره، وعلى الشيوعيين العرب، وبداله هؤلاء بما فيهم جناح التكتل فى الحزب الشيوعى المصرى هجوماً بهجوم، مما أدى من ناحية إلى وقوع الانقسام فى ذلك الحزب - من ناحية، وذلك فى آخر عام 1958، وإلى وقوع أكبر حملة اعتقالات ضد الشيوعيين المصريين فى تاريخ البلاد وذلك، فى أول يناير سنة 1959. وهى الحملة التى استمرت عجلتها دائرة حتى آخر سنة 1964.
 ونتوقف هنا قليلاً عند مأساة الوحدة والانقسام الخطير الذى أودى بهذه الوحدة. بل وأودى فى النهاسة - بمصير الحركة الشيوعية المصرية، أو على الأقل، فقد ساهم بالدور الأكبر فى تحطيم تلك الحركة، والإجهاز عليها.
 كانت الحركة الشيوعية المصرية قد مرت بمرحلة من الانقسامية التى هدت كينها، استمرت منذ عام 1947، حتى آواخر عام 1954. غير أن النضال من أجل الوحدة ظل دائماً فى مقدمة الأهداف التى عمل من أجلها الكثيرون من كوادر وأعضاء الحركة، وساعدت الضربات التى حلت بمختلف التنظيمات الشيوعية بعد الثورة ، والتقاء الكثيرين منهم داخل السجون، فى تصاعد مد النضال من أجل الوحدة.
 وفى فبراير عام 1955، توج هذا النضال بنجاح كبير - وإن كان نجاحاً جزئياً وذلك بإنجاز الاتفاق على وحدة جزئية هامة، ضمت حدتو - أكبر المنظمات الشيوعية، وأربعة من التنظيمات الأخرى، الأقل حجماً، هى: التيار الثورى، نواة الحزب الشيوعى، النجم الأحمر، طليعة الحزب الشيوعى المصرى. وتم تنفيذ هذه الوحدة، واندماج هذه المنظمات تحت اسم: الحزب الشيوعى الموحد. واعتبرت هذه الخطوة خطوة هامة ومبشرة - على طريق الوحدة الشاملة. وكانت المنظمات الأربعة التى دخلت مع حدتو فى تلك الوحدة، هى أصلاً نتيجة لانقسامات سابقة عليها. مما ساعد على استمرار الوحدة الجديدة، ونجاحها، إذ أنه كان هناك قدر كبير من التجانس بين كوادر وأعضاء تلك المنظمات.
 -بقيت خارج الوحدة، منظمتان هامتان، هما: الحزب الشيوعى المصرى، الرايه، و ع.ف حزل العمال والفلاحين، وكان لهاتين المنظمتين، تاريخ . بارز فى رفض الوحدة، وفى العداء لحدتو، ولكن التطورات العديدة التى طرأت على الوضع السياسى منذ عام 1956 أوجدت ظروفاً جديدة، أحيت الآمال فى استكمال الوحدة.
 فى عام 1956، بعد انتهاء الأحكام العرفية، وإعلان الدستور الدائم للبلاد، تم الإفراج عن كل المعتقلين الشيوعيين، وعن عدد كبير من المسجونين الذين كان محكوم عليهم بالسجن لمدد قصيرة نسبياً (ثلاث سنوات فأقل). وانتهت تلك المدد فأفرج عنهم، وأدى ذلك إلى ارتفاع المد الوحدوى فى مختلف التنظيمات.
 كما أدت المعارك الوطنية الكبيرة التى خاضتها مصر فى سنتى 1956، 1957 ووضوح سياسة عبد الناصر الوطنية، إلى الإحساس المتزايد بوجوب تقديم مساندة كاملة من الحركة الشيوعية كلها للنظام الوطنى، حتى يستمر فى دوره الوطنى.
 كما أدى النجاح فى إنجاز الوحدة السابقة، وإقامة الحزب الموحد، إل إذكاء روح الوحدة، وتسهيل مهمة الوصول إليها.
 لذلك فإنه مع نهاية 1956 وبداية 1957، أصحبت مسألة السعى إلى الوحدة، مسألة مطروحة على الشيوعيين المصريين فى مختلف منظماتهم القائمة.
 وقد تحققت هذه الوحدة، ولكن على خطوتين، الأولى فى منتصف عام 1957، حيث جرت الوحدة بين الحزب الموحد، وبين الرايه - الحزب الشيوعى المصرى، وتكون من تلك الوحدة: الحزب الشيوعى المتحد، والثانية بإبرام الوحدة بين هذا الحزب المتحد، وبين حزب العمال والفلاحين (ع.ف أو د.ش) وذلك فى 8 يناير سنة 1958، وتشكيل الحزب الواحد الذى سمى حزب 8 يناير لهذا السبب.
 وتعزز الأمل فى قيام هذا الحزب، بدوره التاريخى، وفى التغلب على ظاهرة الانقسامية فى الحركة الشيوعية المصرية نهائياً.
 فعام 1958 الذى شهد قيام الوحدة، ما لبث أن شهد انيهارها. إذ سرعان ما بدأت الخلافات تظهر وتتزايد داخل هذا الحزب، وبالأخص داخل قيادته، حتى انتهت بإنشقاق تلك القيادة. وتمزق الحزب إلى قسمين كبيرين، الموحد من ناحية، وتكتل حزب الراية، و ع.ف من ناحية أخرى. وفى هذا الوقت حدث التصادم بين هذا الحزب، خاصة - التكتل الذى قام فيه، وبين النظام المصرى، ووقعت حملة يناير 1959 على رأس الفريقين معاً.
 شرحنا من قبل، العوامل التى دفعت إلى العمل من أجل الوحدة، والتى أدت إلى قيامها، وبقى لنا أن نشير إلى الأسباب الرئيسية التى أدت إلى انهيارها، وإلى وقوع الانقسام.
 أول ما يقال فى هذا الصدد، هو التعجل فى إتمام الوحدة دون أن تستكمل مقوماتها السياسية والتنظيمية بالدرجة الكافية، ومن ثم وجود ثغرات كبيرة فى بناء هذه الوحدة.
 -لم يكن هناك اتفاق كافى من الناحية الفكرية والسياسية، وقد تمثل ذلك فى عدم الاتفاق الواضح على الموقف من البورجوازية الوطنية المصرية، وعلى الموقف من حركة الجيش، ومن ثورة يوليو، وما لبثت الخلافات حول هذه الأمور، أن انفجرت من جديد بمناسبة الخلاف مع النظام حول موضوع الوحدة مع سوريا، والموقف من ثورة العراق. فبينما عمد التكتل إلى مهاجمة النظام الناصرى، والعودة إلى اتهامه بالعماله لأمريكا، وبالعمل على خدمة الرأسمالية الكبيرة، فى مواجهة الحملة الشديدة التى شنها النظام على العراق، والاتحاد السوفييتى، والشيوعيين العرب. هذا فى حين كان جناح الحزب الموحد، ينادى بضرورة العمل على حل هذا الخلاف مع النظام، بالحكمة والتأنى، والحرص على علاقة التحالف الوطنى معه. وواضح أن هذا الخلاف السياسى، متصل اتصالاً وثيقاً، بالخلاف القديم بين الجانبين، حول البورجوازية الوطنية، وحركة الجيش، ثورة يوليو.
 -لم يكن قد حدث قدر كافى من التقارب والتمازج بين الفريقين، اللازم لتحقيق وحدة الإرادة بينهما قبل الوحدة، وهو ما لا يمكن تحقيقة إلا من خلال مرحلة كافية من التنسيق فى العمل الكافى، بين القيادات والقواعد. وهو ما لم يحدث.
 فى النهاية، فإن الوحدة قد انهارت لتخلف الشرةط الثلاثة التى أشار إليها لينين فى مؤلفاته، وهى أن وحدة الحزب، لا تتحق إلا بتحقيق تلك الشروط، وهى: وحدة الفكر، والإرادة، والعمل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق