ذكريات شاعر مناضل: 28- نهاية الحرب

28- نهاية الحرب


أمضيت العطلة الصيفية عام 45 فى منزلنا بالزاوية "السراية"، وكنت قد عدت للإقامة به منذ ثلاث سنوات، بعد أن بدأت استشعر الحرج من إقامتى عند عمتى "هانم" بعد أن كبرت وصرت رجلاً. وكانت عمتى قد رحبت بهذا الرأى -رغم إشفاقها على- قائلة إن هذا دليل الرجولة. وكنت أبيت وحدى فى هذا المنزل الكبير، والحديقة الهائلة التى تحيط به، متغلباً على مخاوفى الطبيعية من هذه الوحدة وذلك الفراغ، كما كان يحضر للإقامة معى بعض الأحيان بعض شباب العائلة.
كنت قبل مجيئى من القاهرة إلى الزاوية، قد تأكدت من أنه لن يسمح لى بدخول امتحان آخر السنة، لا فى الدور الأول، ولا فى الدور الثانى، ومع ذلك فقد حرصت على الذهاب إلى مكتبة عبد الله وهبة، وإحضار جميع الملازم التى سبقت خلال العام الدراسى، واستكمال ما كان ينقصنى منها، بحيث أصبحت لدى الكتب الدراسية كاملة.
لم يمض وقت طويل وأن فى تلك الأجازة، إلا وقد انتهت الحرب العالمية الثانية، وخرج العالم كله من ويلاتها، ليدخل فى ويلات أخرى هى ويلات ما بعد الحرب، وجاءت نهاية الحرب فى 1945/6/29 بسقوط بريلن، وانتحار هتلر وعشيقته أيفا براون (التى كان قد تزوجها فى نفس اليوم)، وبعد أن راح العلم السوفيتى -الأحمر ذو المطرقة والمنخل يخفق فوق مقر الرايشستاج الألمانى- وفى نفس الوقت كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد ألقت بقنبلة ذرية، لأول مرة فى التاريخ، على مدينة هيروشيما اليابانية، مما أدى إلى دارها بالكامل، وإلى موت الأغلبية العظمى من سكانها، ثم بعد ذلك بيومين، ألقت قنبلة أخرى على مدينة نجازاكى اليابانية، فأحدثت بها وبأهلها دامراً مماثلاً. وهو ما حدا بالقيادة اليابانية -وعلى رأسها الإمبراطور هيرو هيتو- الإمبراطور الشمس، إلى الاستسلام بدون قيد ولا شرط لأمريكا وحلفائها. وكذلك فعلت ألمانيا، إذ قام الهرفون روبنتروب، أبرز قادتها، بالتوقيع نائباً عنها على وثيقة مماثلة -تتضمن الاستسلام دون قيد أو شرط، للحلفاء.
وكانت القيادة الألمانية قد ظلت تقاوم الهجوم السوفييتى منذ معركة ستالينجراد واستسلام جيشها المهاجم لها فى 1943/2/2، وظلت تحارب متراجعة حتى دخلت قوات الجيش الأحمر إلى أراضيها، متقدمة نحو برلين، وحتى تمكن الجيش الأحمر من تحرير كافة دول أوروبا الشرقية والوسطى، التى كانت ألمانيا قد احتلتها: بولندا، تشيكوسلوفاكيا، المجر، رومانيا، بلغاريا، النمسا، ألبانيا.
وكان الألمان قد عمدوا إلى انتهاج سياسة غريبة، إذ بينما كانوا يواجهون الجيش الأحمر بمقاومة شرسة بهدف تعويق وصوله إلى برلين على قدر إمكانهم، بقدر ما عمدوا إلى تسهيل مهمة القوات الأمريكية وحلفائها -بريطانيا وفرنسا (الحرة) التى كانت قد أنزلت على شواطئ نورماندى بفرنسا منذ 1944/6/6 إلى 1944/9/25، وكانت القيادة الألمانية تهدف من هذا إلى وصول تلك القوات إلى برلين، مع أو قبل القوات السوفيتية، حتى يتم التسليم للدول الغربية (الرأسمالية)، لا للاتحاد السوفييتى (الشيوعى)، معبرة بذلك عن انحيازها الطبقى والفكرى، والسياسى، للرأسمالية، لا للاشتراكية. 
وذلك مصداقاً لقول الشاعر العربى القديم:
إذا كنت مأكولاً فكن أنت آكلى
وإلا فأدركنى ولما أمزق

وبذلك انتهى أيضاً خطر القتال على الجبهة المصرية، حيث أن قوات المحور كانت قد واصلت انسحابها بعد معركة العلمين، حتى انضمت فى نهاية المطاف إلى قوات المحور التى تواجه قوات الغزو فى نورماندى.
أكملت أجازتى فى الزاوية -وكانت معى كتبى الدراسية للسنة الأولى- مما أتاح لى فرصة قراءتها، قراءة حرة، مبرأة من الشعور بالضغط الذى يسببه الامتحان، ومن ثم فقد جعلت أتذوق وأستسيغ القراءة فى كتب القانون، ورب ضارة نافعة.
عدت إلى القاهرة لمواصلة الدراسة فى الكلية، ولكننى غيرت إقامتى إلى منزل شقيقتى "بهيجة" ببولاق أبو العلا، مرة أخرى، ولكنها كانت تقيم عنئذ فى شقة أخرى بميدان سيدى السباعى.
عدت إلى الكلية هذه المرة مسلحاً بخبرة ثمينة رغم بساطتها، وكان أول ما فعلته أننى بحثت عن الفراش المكلف بدفاتر الحضور، وكان اسمه توفيق، واتفقت معه على "اللازم"، ونفحته جنيهاً كاملاً أجر أربعة أشهر مقدماً. وأصبحت بذلك آمناً من الغدر، بل أصبحت أشعر بحرية تامة من أى قيود.
وبينما كان العالم يتلمس طريقة نحو الاستقرار -النسبى- وذلك بإرساء نظام- أو شبه نظام- دولى جديد، عبر الأمم المتحدة الوليدة، ولكن فى الواقع طبقاً لمقتضيات توازن القوى الفعلى على أرض الواقع، بما فى ذلك تفاهمات مؤتمر يالطا الذى عقد فى 1945/5/4 بجزيرة القرم بين الزعماء الثلاثة، روزفلت، تشرشل، ستالين، ممثلين للقوى الكبرى التى تأهبت للجلوس على عرش الكرة الأرضية. وكان ذلك المؤتمر قد عقد قبل أسبوع من انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة فى 1945/5/25 فى سان فرانسيسكو.
وقد ثبت أن الاتفاق قد جرى على أن يكون الاتحاد السوفييتى هو صاحب النفوذ فى شرق أوروبا، وأمريكا هى صاحبة النفوذ فى أوروبا الغربية، وأن تراعى "المصالح" المشروعة لكل من الدول الثلاث، فى الشرق الأوسط وفى المنطقة العربية ومنذ ذلك الحين، بدا واضحاً، أن أهمية مصر، والمنطقة العربية قد تحددت فى أمرين: 
الأول: هو البترول،   والثانى: هو الموقع الاستراتيجى، أما العوامل الأخرى، فكانت تأتى فى أهميتها بعد ذلك بدرجات.
كانت وزارة أحمد ماهر قد بدأت أعمالها بتصفية حسابات أحزابها، مع النحاس وحكومته الوفديه، ولعب مكرم عبيد باشا دوراً أساسياً فى هذه العملية، وخاصة فى فصل العشرات من الموظفين الوفديين من وظائفهم، فتم فصل الكثيرين منهم بناء على طلب مكرم باشا "بأوامر الملك" كما كان يقول لمجلس الوزراء، ومنهم الدكتور طه حسين، وغيره من الوجوه اللامعه فى عهد الوفد، ولم يتوقف مكرم عن ذلك إلا بعد أن استاء منه بعض حلفائه فى الوزارة، مثل الدستوريين، وعلى رأسهم هيكل باشا الذى هدد بالاستقالة هو وزملاؤه، وبلغ الأمر أن أحمد عبد الغفار باشا (وهو وزير دستورى) أحتد على مكرم، ورفع عليه عصاه الشهيرة، مهدداً بضربه بها.
بعد مقتل أحمد ماهر، كلف محمود فهمى النقراشى، سكرتير الحزب السعدى، ووزير الخارجية فى الحكومة، بتشكيل الوزارة، فشكلها بنفس التشكيل. وأخذت الوزارة الجديدة -القديمة- تسير على نفس النهج الذى سارت علي سابقتها، وبدأت تسعى إلى التفاوض مع بريطانيا من أجل حل "القضية الوطنية" -الجلاء ووحدة وادى النيل، وذلك تحت ضغط الرأى العام، وحركة الطلبة والعمال الذين كانت مراجل غضبهم من الاحتلال وأعوانه تغلى وتفور، مما كان ينذر بعواقب غير مأمونه، مما كان يتمثل فى قول الشاعر:
أرى تحت الرماد وميض نار
ويوشك أن يكون له ضرام
وكنت أذهب إلى الكلية يومياً، فألم على المحاضرات والسكاشن أحياناً، ولكن دون أن أغير قناعتى فى عدم جدوى نظام "الإملاء" الذى كان يحدث فيها، ولكننى كنت مواظباً على حضور المظاهرات والإضرابات التى كانت تحدث فى معظم الأيام، للمناسبات المختلفة التى كانت تكاد لا تنقطع. وكان مكانى فى تلك المظاهرات هو دائماً مع فريق الوفديين وحلفائهم من العناصر الديموقراطية واليسارية، الذين كنت قد تعرفت على العديدين منهم فى بوفية الكلية، وفى مقدمتهم صديقى كمال عبد الحليم. وكانت المناوشات والاصطدامات كثيراً ما تحدث بين هذا الفريق، والفريقين الآخرين، فريق الحكومة، وفريق الإخوان.
وفى 1946/2/6 عقد مؤتمر للطلبة فى الجامعة، بناء على دعوة من قيادتى الطلبة الوفديين، واتحاد الجامعات، وقرر المؤتمر معارضته لأى مفاوضات أو تفاهمات مع الإنجليز إلا بعد الجلاء.
 وبعد المؤتمر خرجت مظاهرة عارمة قوامها أكثر من عشرة آلاف طالب تهتف ضد المفاوضات وترفع شعار: الجلاء بالدماء. وكانت المظاهرة تحاول الذهاب إلى قصر عابدين لتقدم مطالبها إلى الملك، فسرنا فى الطريق إليه، وكانت قوات الشرطة "وبلوكات النظام" تحاصر مسيرتنا. وصلنا إلى ميدان الجيزة، حيث أنضم إلينا الكثير من طلبة المعاهد والمدارس الأخرى. وحاول البوليس إيقافنا، فعمد بعض الطلبة إلى حافلة أوتوبيس كانت واقفة فى موقف الحافلات بدون سائق، وقام أحد الطلبة بقيادتها ولكنه -للأسف صدم طالباً صغير السن- غالباً تلميذ من المدرسة السعيدية- بمؤخرة الأوتوبيس صدمة عنيفة، فسقط على الأرض مضرخاً بدمائه. وحتى الآن مازلت أذكر هذا التلميذ البرئ، ومنظره وهو يسقط على الأرض والدماء تنزف من جسمة. وكلما ذكرت ذلك المنظر، اقشعر بدنى وانفطر فؤادى.
توجهت مظاهرتنا عبر ميدان الجيزة إلى كوبرى عباس، الذى يربط الجيزة بالقاهرة، بهدف العبور عليه ومواصلة السير إلى قصر الملك فى عابدين، غير أن قوات البوليس كانت قد تحصنت على مداخل الكوبرى من الناحيتين فى محاولة لصد الطلبة، وما أن اقتربنا من الكوبرى حتى أطبقت علينا أعداد كبيرة من الجنود حاملين الهراوات، وأمعنوا فينا ضرباً حتى أصيب عدد كبير من الطلبة وسقطوا مضرجين بالدماء. ولكن أعداداً كبيرة أخرى من الطلبة كنت منهم استطاعوا الاستمرار فى السير فوق الكوبرى إلى منتصفه وكان البوليس  يتعقبنا بالهراوات. وفجأة تنبهنا إلى أن الكوبرى يفتح أمامنا وتحت أقدامنا، وحوصر الكثيرون منا بين حافة الكوبرى المفتوح، وبين مئات الجنود الذين كانوا يضربوننا بالهراوات. وتمكن بعضنا من التراجع من على الكوبرى نحو الجيزة وكنت منهم ولكن عدداً كبيراً آخر اضطروا إلى القفز إلى لجة النيل، أو دفعوا إلى ذلك تحت ضربات الهراوات البوليسية.
واختلفت الروايات بعد ذلك عن عدد الشهداء الذين ماتوا غرقاً فى لجة النيل، ولكن الذى رأيته بعينى، هو أنهم كانوا بالعشرات. وفيما بعد، وصفت هذا المشهد فى إحدى قصائدى، قلت:
وكبارى القاهرة
والمياه الثائرة
فتحت أحضانها
للدماء الطاهرة
...
فتح النيل العظيم
وهو يمضى فى إباء
قلبه العذب الرحيم
لقلوب الشهداء
...
فسرت أرواحهم
فى المروج الرائعة
فى الشطوط الحالمة
فى الحقول اليانعة
...
فى عبير الياسمين
فى الغصون المائسة
بين أحضان النسيم
فى العيون الناعسة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق