ذكريات شاعر مناضل: 51- أيام الإصلاح فى الريف

51- أيام الإصلاح فى الريف

فى اليوم التالى عدت إلى الواسطى، وإلى زاوية المصلوب، وكنت أشعر بأننى شخص آخر، شخص هادئ مرتاح البال، سعيد بمزال أمله، وفى لم شمله على من أحب. وأخبرت شقيقى محمد، وزوجته آمال، بما حدث، متصوراً أنه عن طريقهما سوف ينتشر الخبر إلى العائلة كلها.
وفى الصباح، ركبت فرسى، وتوجهت إلى مكتبى بالواسطى، حيث بدأت مباشرة عملى، ومقابلة زوارى.
كان بالواسطى سته محامين، أنا منهم، وأحدثهم فى سلك المهنة. كان أكبرنا -هو الأستاذ حنين غالى، أكبرنا سناً، وأقدمنا فى المهنة. وكان رجلاً قد تجاوز الستين من عمره، أنيق الملبس، وقور ومتزن. وكان مكتبه قريباً من مبنى المحكمة، ومنزله على بعد قليل، عبارة عن فيللا من دورين، لا يسكنها إلا هو وحرمه، ولم يكن لهما أولاد. وكان واسع الثراء، وإن كانت زوجته أوسع منه ثراء، ومن عائلة كبيرة فى المنطقة، وكان الأستاذ حنين نقيب المحامين فى البندر.
وكان هناك الأستاذ ظريف تادرس. رجل ظريف فعلاً كما كان ظريفاً اسماً، حسن الصورة والمظهر، حلو اللسان، عذب الحديث، وكان يقيم هو وأسرته فى نفس شارع المحكمة، ومكتبه كان بالدور الأرضى من مبنى منزله. وكان الأستاذ ظريف رجلاً فى بداية الكهولة، وكان أصلاً من قريتى "زاوية المصلوب" وكان زميلاً ليوسف صديق فى الدراسة الابتدائية، ويعتبر نفسه قريباً لى.
وكان هناك الأستاذ أنيس ميخائيل، وهو رجل فى الخمسين، غريب الأطوار. وسوف أعود إلى ذكره فيما يلى.
وكان هناك الأستاذ كمال سيد أحمد، محامى متدين، ينتمى إلى الإخوان المسلمين، وسنه أكبر من سنى بقليل، حسن المظهر، لا تفارق المسبحة يده، ويحرص على انتقاء ألفاظه واحكام تصرفاته.
وأخيراً، كان هناك محام آخر، كهل، يقيم فى قرية بعيدة عن البندر، ويحضر قليلاً إلى المحكمة راكباً حماره، وكان يشتغل أصلاً بفلاحة أرض له بقريته، ولا تسند إليه إلا قضايا قليلة، فقد كان أهل المنطقة لا يكادون يعتبرونه محامياً، بل يعتبرونه فلاحاً مثلهم، يعيش حياتهم، ويرتدى ملابسهم فى معظم الوقت، أما البدلة الإفرنجية فهو لا يشاهد بها إلا قليلاً جداً، عندما يحضر إلى المحكمة.
ونعود إلى الأستاذ أنيس مخائيل، وكان كهلاً جاوز الخمسين، غريب الأطوار كما سبق القول. كان مكتبه عبارة عن دكان فى الشارع، ليس به إلا مندة صغيرة -هى مكتبه- وكرسى خيزران واحد، مربوط إلى رجل المكتب بحبل، ولا يوجد غير ذلك بالمكتب -شئ أو شخص آخر- وكان الأستاذ أنيس يترك باب مكتبه -دكانه- مفتوحاً وإن أغلق درج مكتبه على أوراقه بالمفتاح، ويمضى إلى المحكمة أو إلى السوق، وهو لا يخاف على مكتبه من العبث أو السرقة. وكان يلبس بدلة عتيقة، يقال إنه لم يغيرها طيلة حياته، وكذلك رباط عنقة الذى لم يتغير، ولم يذهب إلى كواء. وكانت أوراقه القضائية، صحف الدعاوى، والمذكرات، لا يزيد حجم أى منها عن ربع فولسكاب، اقتصاداً فى الورق، والحبر، والوقت، والجهد. وكان هو الذى يحررها وينسخها بنفسه، ولا يستعين بأحد كائناً من كان. وكان يذهب إلى السوق الريفى البعيد، ليشترى حاجبات منزله بنفسه، نظراً لرخص الأسعار فى ذلك السوق، عنها فى سوق البندر. وقد رأيته بنفسى يسير فى الطريق مراراً وهو يحمل كرنبة على كتفه، أو بطيخة، أو حزمة برسيم، ولا يكلف أى غلام ممن يتواجدون فى السوق بحملها، حتى لا ينفق نصف قرش بلا داعى. وكانت علاقة الأستاذ أنيس بعملائه، وهم دائماً من أجهل الفلاحين، علاقة شجار مستمر، باللسان، أو حتى بالأيدى، ومحورها دائماً الخلاف حول النقود. وكان المعروف إن أتعاب الأستاذ أنيس لا تزيد، ولا تقل عن ربع جنية. يحضر مع المتهم فى قضايا الجنح أو المخالفات -بربع جنيه، ويطلب له البراءة واحتياطياً استعمال الرأفة. ولا يزيد عن ذلك فى دفاعه شيئاً، ويحضر مع المدعى أو المدعى عليه فى القضايا المدنية، ليطلب الحكم له بطلباته، أو برفض الدعوى، دون إبداء أى أسباب. فإذا طلب القاضى منه إعادة إعلان الخصم، أو كتباة مذكرة بتلك الطلبات، أخذ من الموكل ربع جنية آخر ليقوم له بذلك العمل، كما يأخذ ربع جنية آخر لحضور الجلسة الجديدة.. وهكذا.
وكان الأستاذ أنيس يعلم أنه موضع سخرية زملائه المحامين، وازدرائهم، ولم يكن ذلك يهمه فى قليل أو كثير، بل ربما كان يرضيه أشد الرضا. كان يعتبر هذه السخرية غيرة منهم تجاهه، ويقول: طيب خليهم ييجوا يورونى عملو إيه بالعنطزة الكدابة بتاعتهم. أنا أقدر اشتريهم كلهم بفلوسى. وكان هذا حقاً أو به الكثير من الحق. فقد علمت علم اليقين، أن الأستاذ أنيس قد بنى عمارتين كبيرتين فى ميدان الجيزة، وأنه يشرع فى بناء عمارة ثالثة.
وكان المحامون يجلسون مع القضاه أحياناً بغرفة المداولة بناء على دعوة من القضاه، ما عدا الأستاذ أنيس، إذ لم يكن هو ليقبل ذلك، حرصاً على وقته الثمين، إذ كان يفضل أن يقف على باب المحكمة، أو النيابة، ليلتقط رزقة من الفلاحين. ربع جنية من هنا أو ربع جنية من هناك. وكان القضاة يشاهدونه وهو يقوم بهذا النشاط، وكان بعضهم يوجه الحديث فى ذلك إلى المحامين قائلاً: يا أساتذة، شوفوا لكم حل مع الأستاذ أنيس، ده فضيحة للمحامين، وللقضاة كمان. وكان المحامون -وخاصة الأستاذ حنين غالى- يعبرون عن أسفهم وعجزهم من إقناعه بالعدول عن مسلكه. ويقول الأستاذ ظريف تادرس: للأسف، هذا نوع من الجنون.
لم يمض سوى يومان على عودتى إلى الواسطى، حتى علمت فى اليوم الثالث بنبأ القبض على الأستاذ كمال سيد أحمد المحامى، فى واحدة من أول نوبات الاعتقال التى بدأت بعد الثورة للإخوان المسلمين. فحين وصلت إلى المكتب صباح ذلك اليوم، وجدت وكيل مكتب الأستاذ كمال ينتظرنى بالمكتب ومعه بعض ملفات القضايا، وأخبرنى بنبأ اعتقاله، وأنه -أى الوكيل- قد استطاع الاتصال به قبل أن يأخذوه وسأله: ماذا أصنع بالقضايا؟ فأسر إليه: إديها للأستاذ محمود توفيق. ثم سألنى، إيه رأى سعادتك؟ -فقلت له دون تردد، أهلاً وسهلاً، أى حاجة تعوزها فى غياب الأستاذ كمال، أنا سداد فيها. فشكرنى الرجل، وترك لى الملفات وانصرف على وعد منى بتلبية كل ما يطلبة.
رغم أننى لم أكن قد قررت شيئاً بالنسبة للخطوة التالية فى علاقتى بسهير، إلا أننى كنت قد اتجهت إلى الاستعداد لإتمام قراننا فى أقرب وقت. ولذلك بدأت استعد لتجهيز "السراية" لهذا الأمر. بدأت أتفحصها بعين ناقدة فوجدت أنها فى حاجة إلى بعض الترميمات، لبعض جدرانها، وسلالمها. كما وجدت أنها تحتاج إلى تغيير بلاطها كله ببلاط أحدث، وبالطبع فإن ذلك سيستدعى بياض ونقاشه الجدران والسقوف. ولم يكن معى من المال ما يكفى لمواجهة كل هذه الأعباء، ومع ذلك فقد توكلت على الله، وبدأت أتصل بالبناء "عبد الفتاح أبو سليمان" الذى كان قد سبق أن رمم السراية بعد أن أضربها فيضان سنة 1946، واتفقت معه على ما يلزم، وأعطيته دفعة تحت الحساب، على أن أوافيه بالباقى أولاً بأول. واتفقت مع مصنع للبلاط على أن يزودنى بالبلاط اللازم، وفعلت معه نفس الشئ. ثم بدأت اتصل بمقاول للبياض والنقاشة لأتفق معه على القيام بالعمل المطلوب فور إتمام أعمال الترميم والتبليط.
والغريب. أننى عندما عدت إلى القاهرة فى آخر الأسبوع، وقابلت يوسف وأخبرته بما بدأت القيام به بالنسبة للسراية، وجدته متفهماً لموقفى، ومؤيداً له، بل أكثر من ذلك، وجدته قد بدأ فى الاستعداد لتجهيز الأثاث اللازم للزواج. فعلمت أننا نرسل ونستقبل مشاعرنا على موجة واحدة. وأمضيت مع سهير سهرة جميلة أخرى، قبل أن أعود إدراجى إلى الواسطى، والزاوية.
وكان العمل فى ترميم وإصلاح المنزل يسير على قدم وساق، رغم محدودية القدرة المالية، الأمر الذى حملنى ببعض الأعباء والديون، ولكن الله سبحانه وتعالى يسر لى سبل الرزق على نحو لم أكن أتوقعه، فكثرت القضايا الجنائية، من قضايا التموين والمخدرات، إلى بعض قضايا القتل والشروع التى بدأت شهرتى تذيع فيها.
وفى 1952/9/7 أعلن عن استقالة وزارة على ماهر، على أثر تزايد الاحتكاكات بينها وبين مجلس قيادة الثورة. وخاصة حول مشروع قانون الإصلاح الزراعى، الذى كانت الثورة متحمسة له، وكانت هناك دعاية واسعة حوله فى مختلف الصحف. وفى 7 سبتمبر أيضاً أعلن عن قيام اللواء محمد نجيب بتشكيل الوزارة الجديدة، شكلت برئاسته، وأسندت وزارة الداخلية إلى سليمان حافظ. وفى 9 سبتمبر صدر قانون الإصلاح الزراعى، الذى كان لصدوره صدى كبير لدى الشعب، وخاصة لدى فقراء الفلاحين.
كان القانون ضربة كبيرة وجهت إلى طبقة كبار الملاك، شبه الإقطاعيين، وإعلانا بسقوط حق الملكية المقدس، الذى كان يعتبر من دعامات البناء الاجتماعى والاقتصادى والسياسى فى مصر، كما كان يعتبر انقلاباً فى نظام العلاقات الاجتماعية فى الريف. نص القانون على تحديد سقف الملكية للأرض الزراعية بمائتى فدان للفرد وأولاده، ومصادرة مازاد عن ذلك بمعرفة الدولة، لتوزيعة على الفلاحين المعدمين واشباه المعدمين، مقابل ثمن تدفعه الحكومة إلى الملاك على أقساط، ويقوم الفلاحون المنتفعون بسداده إليها على أقساط مماثلة. ولم يكن من المتوقع أن يحدث هذا الوضع أثراً كبيراً على الأوضاع فى الريف. ذلك أن عدد الملاك الذين سوف ينطبق عليهم هذا النص لم يكن يزيد على الألفين، ومساحة الأرض التى سيتم الاستيلاء عليها وتوزيعها على المعدمين والفقراء لم تكن لتزيد على نصف مليون فدان، كانت ستوزع على حوالى مائة أو مائة وخمسين ألفاً من الفلاحين، ولم يكن من شأن ذلك أن يحدث أثراً كبيراً على الأوضاع الاجتماعية فى الريف.
ولكن الأهم من ذلك، هو ما جاءت به بقية نصوص القانون من أحكام، سوف يترتب عليها تغيير كبير على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فى الريف. فقد نص القانون على تحديد إيجار الأرض الزراعية بسبعة أمثال الضريبة المقررة عليها، وتحديد ثمنها بعشرة أمثال القيمة الإيجارية لها، ونص القانون على إلغاء نظام المزارعة، الذى يعتبر امتداداً لعلاقات القنانة فى النظام الإقطاعى، والذى كان يوقع بالفلاح فى قبضة المالك وسيطرته، واستبدل هذا النظام بنظام الإيجار- الأكثر تطوراً، مع أحقية الزارع فى الاستقلال بإيجار نصف الأرض التى يزرعها بنظام المزارعة. كما نص القانون على عدم إمكان طرد الفلاح من الأرض التى يزرعها بالإيجار، وما دام يؤدى للمالك أجرتها. وكانت تلك المستجدات التى أتى بها القانون، تعبتر هى الأهم بالنسبة لحياة فقراء الفلاحين، وهم الأغلبية الساحقة فى الريف، ومن ثم فقد كانت تعتبر بمثابة انقلاب شبه كامل، على الوضع الاجتماعى فى الريف.
كان مشروع القانون قد وضعه اثنان من أعظم المثقفين الاشتراكيين، هما الدكتور راشد البراوى، والقاضى أحمد فؤاد الذى كان من أهم المستشارين لمجلس قيادة الثورة.
وقد وقف كبار الملاك ضد القانون، سواء بشكل صريح أو غير صريح، كما تبين من لجوء بعضهم إلى المقاومة المسلحة ضده، منهم عدلى لملوم، وهو من كبار الملاك الإقطاعيين بالصعيد، ولكن الثورة عمدت إلى قمع تمرده بالقوة المسلحة، وتقديمه هو ومن معه إلى محاكمة عسكرية. أدت إلى الحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة، وبالسجن لمدد مختلفة على كثير من أتباعه وأعوانه. وأدت هذه المحاكمة وتلك الأحكام، إلى قمع هذا التمرد فى مهده. ولكن كبار الملاك. على اختلاف مراتبهم، ظلوا يناصبون الإصلاح الزراعى العداء.
أما الفلاحون المتوسطون، والذين مسهم القانون بطريق غير مباشر، فقد انتهجوا منه موقفاً وسطاً، فلا هم قاوموه، ولا هم راضوا عنه.
صغار الفلاحين وفقراءهم، والمعدمون، وهم الأغلبية الساحقة من سكان الريف، هم الذين سعدوا بالقانون، واحتفوا به، وأظهروا من الولاء للثورة ما لم يكن ظاهراً فى موقفهم من قبل. كنت لا تسمع من أفواههم فى تلك الأيام إلا اسم: محمد نجيب، محمد نجيب، الذى كانوا قد اعتبروه منقذهم من الفقر ومن استبداد الملاك، بعد أن كان منقذهم قبل ذلك من الملك، والنظام الملكى.
وكنت أنا ألحظ فرحتهم بالقانون وتفاؤلهم بما سوف يعود عليهم من المنافع المادية والأدبية من ورائه. ولكنهم لم يكونوا يجاهرون كثيراً بفرحتهم هذه، حذراً من إثارة غضب الملاك، سادتهم السابقين. كنت أراهم وهم يسيرون وعلى أكتافهم الطوارى والفئوس، وهم يخفون فرحهم وسرورهم، وتبدو على وجوههم أمارات الذهول، كمن يخرج من الظلام إلى النور، وهو لا يقوى على فتح عينيه للضوء المبهر.
وكثيراً ما كانوا يستوقفوننى فى الطريق، أو يحضرون إلى منزلى أو مكتبى، لكى يسألونى عن نصوص القانون، وما يعينه بالنسبة لهم، فإذا ما فهموا، انفرجت أساريرهم فرحاً. وفى الأماسى، كنت أشهد تجمعاتهم على المصاطب، وأمام بيوتهم الفقيرة، وهم يحتفلون بالفرح الذى جاءهم من السماء. كما كنت أسمع وأرى فتياتهم وهن يرقص على دقات الطبول فرحاً وسروراً بفرج الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق