ذكريات شاعر مناضل: 67- ويل للمغلوب

67- ويل للمغلوب

لم تقع أحداث الأزمة التى سميت بأزمة مارس فى شهر مارس 1954 وحده، وإنما وقعت تلك الأحداث خلال فترة بلغت ثلاثة أشهر تقريباً، من أوائل يناير إلى آخر مارس 1954، ولذلك فقد خرجت منها منهك القوى إلى أبعد حد. كان نظام حياتى خلال تلك الفترة يجرى على نفس الوضع الذى سبق لى شرحه، فوقتى منقسم إلى قسمين، الواسطى والزاوية من جانب، والقاهرة من جانب آخر. فى الواسطى والزاوية أعمال المحامة بالمكتب، والإقامة بالسراية منشغلاً طوال الوقت بكتابة وإعداد - إما المذكرات والأوراق القضائية، وإما البيانات والنشرات السياسية التى كانت مكلفاً بها من تنظيم حدتو، أو من اللجنة التحضيرية للجبهة. وفى القاهرة الاجتماعات والاتصالات التنظيمية والجبهوية، وحضور الاجتماعات العامة والمشاركة فى التظاهرات المختلفة التى كانت تجرى فى تلك المرحلة المضطربة. وكانت سهير وليلى تقيمان فى منزل والدى سهير فى حلمية الزيتون، أما أنا فكنت لا أراهما إلا عندما أتسلل إلى داخل الفيللا من ثغرة فى سور الحديقة الخلفية للمنزل، بعيداً عن أعين قوة الحرس التى كانت تقف أمام الباب، أو تجلس فى الخيمة المنصوبة فى مواجهته. هناك كنت أرى يوسف وأنقل إليه كل ما كنت أعرفه من الأخبار والتطورات فى الموقف السياسى، وأطلعه على ما يصدر من البيانات والمنشورات. ولكن معظم الوقت كنت أقضية متنقلاً بين مختلف الأماكن، سواء ما يتصل بنشاطى الحزبى، أو بنشاطى الجبهوى. وأحياناً كنت أقضى بعض الوقت فى غرفة مكتبى بشارع الساحة، إما لإجراء بعض اللقاءات، أو حتى لمجرد الراحة. كنت أيامها أشعر بأننى ريشة تطير فى مهب الريح.
وقد أنقضى شهر مارس بما له وما عليه، وبدأ شهر إبريل، وقد استقرت الأوضاع على نحو لا يحمد عليه إلا الله الذى لا يحمد على مكروه سواه.
يوسف صديق أخذ من منزله معتقلاً إلى سجن الأجانب، واتصل بسهير وشقيقها محمد، ليخبرهما بمكان وجوده، وليطلب منهما أن يحضرا له بعض الملابس واللوازم الأخرى. وبعد أيام قليلة ليبلغهما بأنه قد نقل إلى السجن الحربى. ثم أعلم بعد قليل أن شقيقتى عليه - زوجة يوسف، وقد اعتقلت هى الأخرى فى منزلهما بثكنات العباسية، وتركت ولديها الصغيرين - حسين ونعمت فى ذلك المنزل - ليلاً - وحدهما، وأنهما استطاعا أن يذهبا للإقامة مع خالتهما خيرية فى شبرا، وأما هى فقد أودعت بسجن النساء - فى عنبر"د" بسجن مصر، الشهير باسم قرة ميدان.
ثم علمت بأن عدداً آخر من شباب العائلة - عائلة يوسف وعائلتى - قد اعتقلوهم أيضاً، اعتقل توفيق سعيد الأزهرى، وكان طالباً بالثانوية العامة، ويوسف أحمد الأزهرى، وكان موظفاً فى شكرة للأقطان، ووائل أحمد الأزهرى، وكان تلميذا بالمدرسة الثانوية، ثم عويس ياسين وكان مدرساً، كما اعتقل أيضاً اثنان من الخدم هما - رجب ومحمد- وكل هؤلاء قد أخلوا إلى السجن الحربى.
كذلك فقد علمت أن صلاح عبد الحفيظ، وحسن أحمد الدسوقى، ضابطا الجيش، ويوسف صبرى، ضابط شرطة، أعضاء اللجنة التحضيرية للجبهة، ومازالوا فى السجن، لذلك فقد تيقنت أننى أصبحت بدورى مطلوباً للقبض على، إذ لا يعقل أن يقبض على يوسف، وعلى كل هؤلاء، وألا أكون أنا مطلوباً القبض على أنا الآخر.
وعرضت الموقف على زملائى أعضاء القيادة المؤقته لحدتو، عبد الجابر خلاف، وصلاح حافظ، وبدير النحاس، ومعهم كمال عبد الحليم، فقرروا بالإجماع ضرورة أن اختفى، وأن أتحول إلى العمل كمحترف ثورى. ومعنى هذا أن أقطع صلتى فوراً بعملى كمحام، وأن أغلق مكتبى بالواسطى، ومكتبى الآخر بشارع الساحة، وأن أترك مسكنى بالزاوية، أى أننى أصبحت فجأة ودون سابق إنذار، شخصا بلا عمل وبلا مأوى، مجرد محترف ثورى شريد مطارد. ولم يكن أمامى أى سبيل آخر أسير فيه.
بدأت فوراً أبحث عن شقة أعيش فيها أنا وزوجتى وابنتى الصغيرة، وذلك بمعونة وإرشاد زميلى عبد الجابر خلاف (عبد الحكيم) باعتباره هو مسئول التنظيم، ولديه خبرة سابقة فى شئون الاختفاء والهروب. واستقر رأينا على اختيار منطقة المنيل لتوافر الشروط المناسبة فيها، وعلى شقة بأحد الشوارع الفرعية فى أول المنيل. وقمت بتحرير العقد، باسم محمود محمد على، دون أن أذكر فيه لقبى "توفيق" أو مهنتى - محامى - وذلك توخياً لدواعى الأمن والسرية، وقام عبد الجابر باعتباره المسئول المالى للتنظيم بتمويل العملية.
وخلال أيام، اتصلت بسهير، اتفقت معها على إرسال أخيها الأصغر محمود، وكان شاباً رياضياً نشيطاً، إلى الزاوية ومعه سيارة نقل، فقام بنقل كل مفروشات منزلنا فى السراية، وإحضارها إلى فيلا الزيتون، حيث تم وضعها فى بديون الفيلا. كما قمنا بإرساله إلى غرفة مكتبى بشارع الساحة، فقام بنقل فرش الغرفة أيضاً إلى البديون.
وكانت الخطوة الأخيرة، هى اختيار ما يلزم لنا من كل تلك المفروشات، لنقله إلى شقتنا الصغيرة الجديدة، فى المنيل، مع مرعاة السرية والأمان، وكان جنود الحراسة قد أخلوا مواقعهم بجوار الفيلا.
وخلال أيام قليلة جائت سهير وليلى للإقامة معى فى تلك الشقة. وكنت قبل ذلك، أدبر أمر مبيتى، هنا وهناك، حسب التساهيل.
وما لبثنا أن طابت لن الإقامة فى هذه الشقة، وفى هذا الحى الهادئ، وأن كنت قد ظللت أعانى ألم الفراق لحياتى السابقة، الهانئة، فى مكتبى بالواسطى، وفى مسكنى بالسراية، التى لم أعد إليها بعد ذلك أبداً.
فى 17 أبريل 1954 عين جمال عبد الناصر رئيساً للوزراء، عينه مجلس الثورة نفسه، أو ما تبقى من مجلس الثورة، أو فلنقل إنه عين نفسه. وشكل وزارته الأولى، وخرج من الوزارة عدد من الوزراء، ودخلها حسين الشافعى وزيراً للحربية، وحسن إبراهيم وزيراً لشئون رئاسة الجمهورية. وبوصول جمال عبد الناصر إلى المنصب يكون قد وصل إلى بداية رسمية للتحول فى مسار الصراع، ونهاية علنية للصراع بين محمد نجيب وأعضاء المجلس.
وإذا كانت قرارات 5 مارس 1954 قد تضمنت عبارة تقول: مادة 5- حل مجلس الثورة فى 24 يوليو باعتبار الثورة قد انتهت، وتسلم البلاد لممثلى الأمه، فإن هذه العبارة لم تكن زلة قلم أو فلته لسان، وإنما كانت تعبر عن الإرادة الحقيقية لمعظم أعضاء المجلس، الذين كانوا قى قراراة نفوسهم يشعرون بأن الثورة قد انتهت، وأنه آن الوقت لإعداد خشبة المسرح لمشهد جديد، تتشكل فيه سلطة جديدة، وهى السلطة الناصرية، سلطة الدكتاتورية العسكرية. ولذلك فقد كان تعيين جمال عبد الناصر رئيساً للوزراء، هو بدايه هذه السلطة.
قدم خالد محيى الدين استقالته، فقبلها جمال عبد الناصر فوراً، ثم سأله: ناوى تعمل إيه؟ وقبل أن يجيب خالد على السؤال، بادر عبد الناصر بالإجابة هو عليه، قائلاً: "قعاد هنا مفيش، لأن الناس هاتتلم عليك، لذا تخرج فى بعثة مجلس الإنتاج، ثم تعين سفيراً". ووافق خالد وكان الأمر كذلك.
وبدأ الزحف لتطهير القوات المسلحة، بداءاً بتطهير صلاح الفرسان، فكانت قضية ضباط الفرسان، أحمد المصرى، وزملائه، حيث قبض على 16 ضابطاً، وقدموا للمحاكمة أمام محكمة يرأسها اللواء محمد فؤاد الدجوى، أصدرت أحكامها فى شهر يونية 1954 على 16 ضابطاً، أخذ قائدهم أحمد المصرى 15 سنة، والآخرون أحكاماً متفاوته.
وفى أبريل تم فصل الفقيه القانونى، عبد الرزاق السنهورى، من رئاسته لمجلس الدولة. وتم حل نقابتى الصحفيين، والمحاميين، وتعيين مجالس إدارة معينه لهما.
وواصل مجلس الثورة محاكمة الضباط المعارضين له، ومنهم القائمقام أحمد شوقى، قائد قسم القاهرة، الذى قدم إلى محكمة الثورة.
وبالنسبة لمحمد نجيب، فقد ظل فترة باقياً - رئيساً للجمهورية - بصفة شكلية، وبلا سلطات من الناحية العملية، إذ كان يقوم بكل واجباته - البروتوكولية - حسن إبراهيم - وزير شئون رئاسة الجمهورية. وظل الأمر كذلك لحين توقيع عبد الناصر اتفاقية الجلاء مع بريطانيا، وبعد محاولة الاعتداء على عبد الناصر، عندما كتب مذكرة يعترض فيها على اتفاقية الجلاء، أبلغغ بإعفائه من جميع مناصبه، ثم حمل حملاً فى 14 نوفمبر إلى جهة المرج، حيث حددت إقامته هو وأسرته بالفيلا التى كانت تمتلكها السيدة زينب الوكيل، حرم النحاس باشا، والتى صودرت منها.
وظل محمد نجيب محدد الإقامة، توجه إليه الإهانات والإساءات، إلى ما بعد وفاة جمال عبد الناصر.
ثم بدأت عملية معاقبة الوفديين. منذ 30 مارس، صدر قرار بالتحقيق مع حسين أبو الفتح، رئيس تحرير جريدة المصرى، وهاجم جمال عبد الناصر قادة الوفد - على زكى العرابى، ومحمد صلاح الدين. وفى 5 أبريل أعلن مجلس الثورة قراراً بمحاسبة المسئولين عن الفساد فى العهود الماضية، وعن اتجاهه إلى إصدار قانون لحماية الثورة.
وفى 14 أبريل صدر قرار بحرمان من تولوا الوظائف العامة قبل الثورة، من كافه الحقوق السياسية لمدة عشر سنوات، وطبق هذا القانون على 22 وفدياً، و8 سعديين، 8 من الأحرار الدستوريين.
ثم بدأت محاكمات الوفديين، فحوكمت زينب الوكيل أمام محكمة الثورة، وصدر عليها حكم بتجريدها من أملاكها. ثم حوكم فؤاد سراج الدين وصدر الحكم عليه بالسجن عشر سنوات. كما حوكم حسين أبو الفتح فحكم عليه بالسجن 15 سنة مع إيقاف التنفيذ. وأبو الخير نجيب فحكم عليه 15 سنة مع تجريدة من شرف المواطن.
ثم دارت الدائرة على الشيوعيين مرة أخرى. ففى 31 مايو تم اعتقال 252 شيوعياً، ثم قدم عدد من الشيوعيين، وأنصار السلام، والوفديين إلى المحاكمة أمام محكمة الدجوى بتهمة تأسيس الجبهة الوطنية، وكان منهم الضابط مصطفى كمال صدقى. وفى 24 يوليو صدرت عليهم الأحكام بالأشغال الشاقة والسجن ما بين 10 سنوات و 3 سنوات.
ثم جاء دور الإخوان المسلمين.
كان الإخوان قد بلعوا الطعم الذى ألقى إليهم، إذ تم الإفراج عن المعتقلين منهم فى 24 مارس 1954، ومنهم مرشدهم حسن الهضيبى، وقام جمال عبد الناصر بزيارته فى بيته بعد منتصف الليل مهنئاً بالإفراج. وعلى أثر ذلك صرح الهضيبى بقوله: إن الجماعة مازالت قائمة، وأنها أقوى مما كانت.
وعلى أثر ذلك قام الإخوان بالتراجع عن موقفهم من الجبهة، وأبلغوا محمد رياض - ممثل محمد نجيب بانهم لم يتدبروا أمرهم بعد. وصرح الإخوان بأنهم ضد عودة الأحزاب، لأن ذلك لا يتفق مع الموقف الإسلامى. ثم تبين أنهم اتفقوا مع عبد الناصر على التصالح، على أن يجنحوا إلى السلبية، وأن يبتعدوا عن الاشتراك فى أى مظاهرة. بمعنى آخر، أن ينسحبوا من أى ارتباط مع الجبهة. (وكان ذلك هو السبب الرئيسى فى انهيار موقف محمد نجيب، ثم انهيار موقف الوفديين، ثم انهيار الجبهة كلها).
ولكن هذا الموقف التصالحى لم يستمر طويلاً. إذ فى أواخر أغسطس حدث اشتباك بين البوليس والإخوان، عندما وقف حسن دوح -الزعيم الإخوانى- بعد صلاة الجمعة فى أحد المساجد، يحرض الناس على مقاومة الثورة، ويدعوهم إلى العنف.
وفى 19 أكتوبر قام عبد الناصر بالتوقيع النهائى على الاتفاقية، ولم تستقبلها الجماهير استقبالاً طيباً، إذ أنها وضعت عبد الناصر موضع الشك فى صدق وطنيته.
وانتهز بعض الإخوان المسلمين الفرصة لتدبير محاولة لاغتيال جمال عبد الناصر، وجرت المحاولة يوم 26 أكتوبر أثناء إلقائه خطاباً فى سرادق للاحتفال فى ميدان المنشية بالإسكندرية. وفشلت المحاولة، وجرى اعتقال المدعو محمود عبد اللطيف، وعددد آخر من المتهمين بالتعاون معه من الإخوان.
وفى نفس الليلة صدرت الأوامر باعتقالات واسعة، شملت مئات، بل آلاف من الإخوان، فى أكبر حملة اعتقالات فى تاريخ البلاد.
وفى أول نوفمبر شكل مجلس قيادة الثورة محكمة خاصة باسم محكمة الشعب، برئاسة جمال سالم، وعضوية أنور السادات، وحسين الشافعى لمحاكمتهم. كما شكلت ثلاث دوائر فرعيه للمحكمة برئاسة اللواءات: صلاح حتاته، وعبد الرحمن عنان، وحسين محفوظ ندا - لمحاكمة باقى المتهمين.
وصدرت الأحكام بإعدام 6 من الإخوان هم: محمود بعد اللطيف، هنداوى دوير، إبراهيم الطيب، عبد القادر عودة، ومحمد فرغلى، وقد نفذ الحكم فعلاً بعد صدوره بقليل. كما صدر الحكم على الهضيبى بالإعدام، ولكن خفف إلى الأشغال الشاقة المؤبدة. كما حكم على سبعة آخرين بالأشغال الشاقة المؤبدة. وبلغ عدد اللذين حكمت عليهم محاكم الشعب 867، والذين حكمت عليهم المحاكم العسكرية (لكونهم من العسكريين) 254 شخصاً.
-وهكذا سدد الإخوان المسلمون فاتورة حسابهم عما ارتكبوه من خيانه وخذلان للجبهة، فى مارس 1954.
-وهكذا تكون سائر الأطراف التى شاركت بشكل ما، فى تحديد مصير تلك الجبهة، قد دفعت نصيبها فى كشف الحساب عن هزيمتها، كل طرف على قدر نصيبه من المسئولية عن تلك الهزيمة، وهذا ما كنت قد تنبأت به، وصارحت به تلك الأطراف فى حينه قائلاً: سندفع كلنا ثمن هزيمة الجبهة، كل منا على قدر نصيبه فى تلك الهزيمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق