ذكريات شاعر مناضل: 15- إلى حلوان

15- إلى حلوان


ركبنا -أنا والشيخ أحمد- قطار الديزل من محطة باب اللوق، فى طريقنا إلى حلوان حيث كانت الدراسة بها ستبدأ فى اليوم التالى مما يتعين معه أن ألتحق بالقسم الداخلى بالمدرسة فى مساء اليوم السابق على الدراسة. وكانت صلتى بالشيخ أحمد قد عادت إلى مجاريها تقريباً بعد انقطاعها، وبعد أن كان قد تغلب على أحزانه التى انتابته بعد وفاة نجلة محمود، وكان مازال هو الوصى على، وولى أمرى، والمراسل الذى ترسل إليه الخطابات المدرسية الخاصة بى، فضلاً عن كونه زوج شقيقتى "بهيجة"، وابن عمى، وابن خالتى فى نفس الوقت. كان قطار الديزل آية فى النظافة وجمال المنظر، وقد سار بنا مخترقاً عدة أحياء فى طريقه إلى حلوان. وكان مكوناً، إلى جانب عربة القاطرة، من ثلاثة عربات، واحدة منها للدرجة الأولى، ذات مقاعد وثيرة ومكسوة بالقطيفة الحمراء، ثم عربتين متتاليتين للدرجة الثانية، مقاعدهما من الخشب المصقول اللامع، ومنظرهما جميل ونظيف، ولم تكن به عربات للدرجة الثالثة. كانت معى حقيبة ملابسى الكبيرة، تحتوى على كل الملابس والمستلزمات الأخرى، التى كنا قد اشتريناها -كالعادة- من محل الفرنوانى بالعتبة، كما كانت معى حقيبة الكتب الصغيرة المعتادة.
سار بنا قطار الديزل سيراً ناعماً حثيثاً، بين مناظر جميلة من أحياء القاهرة، ولم يكن يتوقف أكثر من دقيقة واحدة فى المحطات السته بين باب اللوق وحلوان، ريثما ينزل من ينزل، ويصعد من يصعد من ركابه، الذين كان يبدو عليهم جميعاً، الهدؤ والراحة، وحسن المنظر.
وصلنا إلى محطة حلوان، وكانت هادئة نظيفة حسنة المنظر، ثم أخذنا من أمامها عربة حنطور تنقلنا إلى "مدرسة حلوان الثانوية للبنين".  وسار بنا الحوذى، فى الشارع المواجه للمحطة، وهو شارع هادئ، نظيف، تظلله الأشجار لمسافة قصيرة، انحنى بعدها إلى شارع آخر، يتكون من ضفة واحدة، ويحد غربى حلوان من الناحية البحرية ماراً بعدد من القصور والسرايات الكبيرة، التى كان أغلبها مغلقاً أو كالمغلق.
وصلنا إلى المدرسة، وكانت تتكون من سراية كبيرة محاطة بسياج من الجديد الذى تعلو أسياخه رأوس كأسنة الحراب، وداخله حديقة كبيرة من الأشجار الوارفة، تتخللها أحواض كثيرة للزهور والرياحين. وكان هذا المبنى هو مبنى الإدارة، وملحق به بناء آخر كبير، مكون من ثلاثة طوابقن هو  عنابر القسم الداخلى.
 فى مبنى الإدارة، استقبلنا رجل فى أواسط العمر، يرتدى ملابس أنيقة، ونظارة نظر سميكة الزجاج، وقدم لنا نفسه: إبراهيم حليم، مدرس لغة إنجليزية، والمشرف المختص باستقبال تلاميذ القسم الداخلى، وعمل الترتيبات اللازمة لهم. وقدم له الشيخ أحمد نفسه: أحمد عمار، المحامى الشرعى، ولى أمر التلميذ محمود محمد توفيق، المنقول من مدرسة شبرا الثانوية، بالسنة الثانية ثانوى. تشرفنا، تشرفنا - قالها كل منهما للآخر. ونظر الأستاذ إبراهيم حليم إلى كشف فى يده، وبعد أن وجد الاسم مدرجاً فى الكشف، التفت إلى مبتسماً وقال: أهلاً وسهلاً. ثم انصرف الأستاذ إبراهيم حليم للحديث مع الشيخ أحمد عن حلوان وجوها الجاف الجميل، ومزاياها الصحية، إلى أن استنفد هذا الحديث أغراضه، ثم فوجئت به يوجه إلى الشيخ أحمد سؤالاً غريباً:
هاتدى لمحمود قد إيه مصروف إيد كل شهر؟
وفوجئ الشيخ أحمد بالسؤال، ولكنه تفكر قليلاً ثم قال:
-ثلاثين قرشاً، على أساس قرش صاغ كل يوم.
فوجئت بالأستاذ إبراهيم وهو ينتفض قائلاً فى لهجة اعتراض:
ثلاثين قرش فى الشهر! قرش صاغ بحاله فى اليوم!
لا لا يا شيخ أحمد، دا كتير قوى، انت ماتعرفش إن كتر الفلوس بتفسد الأولاد؟ ثم أضاف، أنا عندى ولد من سن محمود، وهو تلميذ فى نفس المدرسة، وأنا باديه قرش تعريفه بس كل يوم. لا يا شيخ أحمد، أنا بانصحك، قرش صاغ فى اليوم كتير قوى.
احتار الشيخ أحمد فيما يقول، ثم تساءل نخليهم عشرين قرش فى الشهر؟
وصمت الأستاذ إبراهيم متفكراً ثم قال بلهجة المغلوب على أمره:
-طيب يا شيخ أحمد. زى بعضه.. وربنا يستر.
كنت أصغى لهذا الحوار العجيب مندهشاً، ولكنى لم أرغب فى التدخل، مع أن الأمر يخصنى. فقد كنت أعلم أن الشيخ أحمد سيعطينى الثلاثين قرشاً. وكنا متفقين على ذلك، وهو لم يكن يعطينى شيئاً من عنده، إن النقود كانت من دخلى من إيراد الأرض القليلة التى ورثتها عن والدى، ومن النصيب الذى كان يصرف لى من معاش والدى القليل، عن خدمته كضابط فى الجيش.
 بعد هذا الحوار السخيف ودعنا الشيخ أحمد وانصرف ليعود إلى المحطة بالحنطور الذى كان ينتظره خارج المرسة، بينما صعدت أنا وفراش الداخلية، حسنين، الذى أوصلنى بحقيبتى الكبيرة، إلى الدور الثانى من الملحق الخاص بالداخلية، وإلى الحجرة، ثم إلى السرير والدولاب الخاصين بى حسب التعليمات التى تلقاها من الأستاذ إبراهيم حليم. وكنت ذا خبرة بنظام الداخلية، بعد السنة التى قضيتها فيها فى مدرسة شبرا.
دق جرس الاستيقاظ، كما هو معروف، فى تمام الساعة السادسة صباحاً، ونهضنا إلى الحمامات، ثم فى السابعة إلى المطعم فى الدور الأرضى حيث تناولنا طعام الإفطار، وكان مشابهاً تماماً لما كنا نتناوله فى مدرسة شبرا، ثم إلى الملحق، حيث توجد الفصول.
كانت مدرسة حلوان الثانوية للبنين فى الأصل فيللا انيقة خاصة بالخديو توفيق، كان يتخذها مشتى يقضى فيها بعض الفترات فى فصل الشتاء، فى طقس حلوان الجميل الذى كان يحبه، وهذه الفيللا هى التى يتكون منها مقر إدارة المدرسة الآن. وبعد وفاة الخديو توفيق ألحق بمبنى السراى، ملحق مكون من ثلاث طوابق، بكل منها صفان من الحجرات بينهما ممر، من أجل تحويل المكان إلى فندق سياحى لاستقبال النزلاء من الأجانب، ومن عليه المصريين، وكانت تلك الحجرات مخصصة لإقامة هؤلاء النزلاء. ثم انتهت الحاجه -لسبب ما- إلى هذا الفندق، وتحول المنبى الأصلى، وملحقه، إلى مقر للمدرسة الثانوية للبنين، التى تقرر إنشاؤها فى حلوان، ضمن الحركة التى قامت لنش التعليم، والنهوض به فى البلاد. وخصصت الفيللا الأصلية لتكون مقراً لإدارة المدرسة، ولتكون بها بقية الأغراض التعليمية الأخرى، أما الملحق، فكان صالحاً تماماً، بأدواره الثلاثة، وحجراته العديدة، ليكون مقراً للقسم الداخلى بالمدرسة.
فى مواجهة المنبى الرئيسى للمدرسة كان هناك مبنى آخر كان هو مقر الفصول الدراسية للمدرسة، وكان عبارة عن فناء شاسع من الأرض، محاط بحجرات كبيرة تقع على كل ضلع من أضلاعه الأربعة، وكان فى الأصل إصطبلاً لخيول الخديو، ثم تحولت حجراته الآن إلى فصول لتعليم التلاميذ. وكان هذا الملحق يشغل مربعاً كاملاً من المربعات التى كانت تنقسم لها مدينة حلوان. وكان له بوابة كبيرة تقع مباشرة فى مواجهة بوابة المدرسة.
دق الجرس فى تمام الساعة السابعة والنصف، ودخلنا إلى فناء الملحق، حيث انتظمنا فى الطابور المألوف، وأدينا النشيد الوطنى، ثم وقفنا ننتظر موكب ناظرنا الجديد.
دخل الناظر ومعه كوكبة من الأساتذة، وحيانا بإشارة من يده، فحييناه بالتصفيق، ثم هتف وهتفنا معه: تحيا مصر، تحيا مصر، تحيا مصر.
كان المشهد مألوفاً لى، وكنت قد شهدته مرات كثيرة سابقة. ولكن الناظر لم يكن هو الدكتور أحمد رياض، بل كان ناظراً آخر، هو الدكتور أحمد البدرى.
ودخلنا إلى الفصول، وبدأ يوم دراسى جديد، وعام آخر من أعوام حياتنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق