ذكريات شاعر مناضل: 70- فى سجن القناطر

70- فى سجن القناطر

سارت بنا سيارة الترحيلات من سجن قرة ميدان، فى أقصى جنوب القاهرة إلى سجن القناطر، مخترقة بنا القاهرة كلها، من جنوبها إلى شمالها، ثم طريق القناطر الزراعى، ثم حدائق القناطر المترامية الأطراف، إلى أن وقفت بنا أمام مبنى سجن القناطر. هناك نزلنا، ثم أدخلنا من البوابه العمومية الكبيرة، إلى مكاتب إدراة السجن، حيث أدخلنا فى أحد المكاتب، وتولى بعض الموظفين المدنين أخذ بياناتنا - وتسجيلها فى دفاترهم. كما أخذوا منا "الأمانات" - وهى الأشياء ذات القيمة التى قد تكون موجودة معنا. ولم يكن معنا أى نقود، وأنا لم تكن معى أيه أشياء ذات قيمة، سوى ساعة يد، كان قد أحضرها لى يوسف صديق من سويسرا خلال مدة وجودة بها. ومما يذكر أن هذه الساعة قد سرقت من الأمانات فيما بعد، سواء من أمانات سجن القناطر، أو سجن ليمان طره.
المهم - أدخلنا من باب الوسط إلى فناء السجن، وكان يقف به رجلان وكلب. أما الرجل الأول فكان عقيداً فى الشرطة، رجلاً كهلاً عامق السمرة، له ساق صناعية، وساق عادية، ويسمك فى يده بزمام كلب كبير، من نوع الولف، وعرفنا أن اسمه العقيد سيد والى - وأنه مأمور السجن، وكان قد فقد ساقة أثناء خدمته بالشرطة، وركبوا له بدلاً منها ساقاً صناعية، ونقلوه للخدمة فى السجون، وكان لا يشاهد سائراً واقفاً، إلا وبيده زمام هذا الكلب، الذى يستمد منه القوة اللازمة لمزاولة عمله. وأما الرجل الآخر - فكان ضابطاً برتبه يوزباشى، وكان شاباً وسيماً - حليوه - أبيض اللون أحمر الوجه، أشقر الشعر والشارب، أزرق العينين، وكأنه من أصل سكوتلاندى، وهو ضابط العنبر المخصص للشيوعيين. وقد علمت فيما بعد أن اسمه عبد العال سلومه، وأنه ليس من سكوتلاندا ولايحزنزن، إنما هو من قرية ميدوم التابعة لمركز الواسطى، مركزنا، وأنه قريب لزميلنا سعد كامل، عضو حدتو، وسكرتير عام اللجنه المصرية لأنصار السلام.
أخذنا اليوزباشى عبد العال سلومة معه إلى عنبر أ، وصعدنا معه إلى مكتبه بالدور الثانى، حيث سجل عنده بعض البيانات عن كل واحد منا، ثم نادى على شاويش "الدور" - الذى أخذنا إلى إحدى الغرف المجاورة، والتى خصصت لنا، وسلم كلا منا "نمرته"، وهى برش من نسيج الليف، ومرتبه محشوة بالقش، وبطانيتان متوسطتا الحال. ثم سلمت لكل منا المعدات الأخرى، قروانه من الألمونيوم، وصحن مسطح، وصحن أخر صغير، وملعقة، كلها من الألمونيوم أيضاً. وفرشت لنا النمر على أرضية الغرفة، ثم وضع لنا فى أحد أركانها جردلان، أحدهما مستدير، للمياه، والآخر مبطط، للبول، وعلى كل منهما غطاوه، ما كاد كل منا يستقر على نمرته، حتى مر علينا اليوزباشى سلومة وقال متودداً إزاى الحال - كله تمام؟ قلت له - تمام وعال العال - فابتسم وقال لشاويش الدور:
-سيب لهم الباب مفتوح، ماتقفلش عليهم دولت، ثم قال لنا:
-علشان لو عايزين الحمام. فشكرناه وانصرف.
بعد قليل فتحت أبواب الزنازين والغرف فى الأدوار كلها، فتدفق ساكنوها. -وكلهم من الشيوعيين- وذهبوا ينسلون زرافات ووحدناً، بعضهم إلى دورات المياه. وبعضهم ينزلون ويخرجون إلى فناء السجن، لأخذ طابورهم من المشى والوقوف فى دفئ الشمس، وكنا فى أواخر ديسمبر، والبرد شديد. ثم وجدنا عدداً من الزملاء يتوجهون إلينا فيسلمون علينا، عرفت منهم الشيخ مبارك، زميلى القديم فى حدتو، وكان معه زميلآخر، طويل عريض غزير الشارب، ذا هيئة عسكرية، عرفت أنه فؤاد حبشى، أحد الزملاء القياديين فى حدتو.
وزميلان آخران. جلسوا معنا على نمرنان واستمروا حتى هدأ الوضع بعد انصراف الآخرين إلى الطابور. عرفوا بأمر وصولنا منذ أيام، وكانوا قد علموا بنبأ القبض علينا فى حينه مما نشرته جريدة الأخبار وقتها فى صدر صفحتها الأولى والذى جاء فيه - بالبنط العريض: القبض على زعماء الشيوعيين، وبعده: المقبوض عليهم أربعة، منهم اثنان من المحامين- هما عبد الجابر خلاف ومحمود توفيق، وصحفى هو صلاح حافظ وموظف هو بدير النحاس. ثم الصياغة المعتادة لأخبار اليوم فى رواية الأخبار، بفضل أخبار اليوم - عرف نبأ القبض علينا، فعرفت عائلاتنا، وعرف وزملاؤنا ورفاقنا فى كل مكان. وحمدنا لجريدة الأخبار ذلك.
تعددت لقاءاتنا مع الزملاء القياديين فى أوقات متعددة بعد ذلك حيث جرى التحقيق المألوف معنا عن ظروف القبض علينا للتأكد من أنه لم تكن هناك وشاية أو خيانه فى الأمر، ومن ثم لمعرفة أن أمن التنظيم، مازال سليماً لم يمسه أذى كبير. واعتبر الأمر منتهياً عند ذلك الحد.
ثم عرفنا الكثير عن وضع الشيوعيين المسجونين معنا. هناك الكتله الكبيرة، من زملاء حدتو الذين قبض عليهم على مدى عامى 53، 1954، وهناك مجموعات أخرى من الزملاء الشيوعيين، من مختلف التنظيمات الأخرى: ت ث - التيار الثورى، نحشم- نحو حزب شيوعى مصرى، نحس، نحو حزب شيوعى، الرايه- الحزب الشيوعى المصرى، ع ف، أو د ش، حزب العمال والفلاحين، النواة- نواة الحزب الشيوعى، النجم الأحمر، وغيرها، حتى أنه كان هناك عدد من الرفاق، غريبى الأطوار، من تنظيم يسارى متطرف، اسمه مشمش: م.ش.م المنظمة الشيوعية المصرية، الذى كان كبيراً فى وقت ما، ثم كاد الآن أن يتقرض. وكانت هناك مجموعة من الحزب الشيوعى الفلسطينى، منهم الشاعر الفلسطينى معين بسيسو وشقيقة، وآخرون، وكان قد قبض عليهم فى غزة التى كانت تحت الإدارة المصرية وقتها، وجئ بهم حتى يسجنوا ويحاكموا فى مصر، كما كانت هناك مجموعة من الحزب الشيوعى اليونانى، كانوا قد قبض عليهم فى مصر، ووضعوا رهن التحقيق فيها، ريثما يرحلون إلى اليونان.
كان هناك نوعان من المعاملة للمسجونين الشيوعيين، فمنهم فئة تعامل معاملة حرف أ، ينامون على أسرة، ويأكلون طعاماً من عند المتعهد، لا بأس به، ولديهم إضاءة، ويتمتعون بقراءة الصحف.. إلى جانب امتيازات أخرى فى الزيارات وغيرها، ومنهم فئة تعامل معاملة حرب بـ ينامون على الأرض، ويأكلون من طعام السجن، الفول والعدس واليمك، والجبن القريش، والعسل الأسود، وكلها من أردأ الأنواع، ولا يحظون بأيه امتيازات مما يحظى به حرف أ، وكان الذى يحدد ذلك هو قرار الحبس الصادر من النيابة، وفقاً لتعديل قانونى صدر مؤخراً لقانون الإجراءات الجنائية وكنا نحن الأربعة، ممن أمرت النيابة بمعاملتنا معاملة حرف ب.
علمنا أن العلاقة بين المسجونين الشيوعيين وبين إدارة السجن متوترة وتزداد سوءاً يوماً بعد يوم، وقال لنا زملاؤنا إن النية تتجه غلى اليقام بإضراب عن الطعام احتجاجاً على سوء المعاملة، وكانوا فى الوقت الراهن يستعدون لهذا الإضراب. وكان التحضير للإضراب عن الطعام عند الشيوعيين، وربما عند غيرهم من المسجونين السياسيين، علماً وفناً له أصوله وقواعده. اختيار التوقيت المناسب له من الوجهه السياسية، تمهيد الرأى العام المحلى والدولى لهذا الإضراب، بشرح أسبابه ومبرراته وتهيأة هذا الرأى العام للتعاطف معه، لكى يقوم بالضغط على السلطات لتلبية مطالب المضربين، ولمتابعة تطورات الإضراب. ثم اختيار المضربين ممن تسمح لهم أوضاعهم الحية بالمشاركة فى الإضراب، إذ يجب استبعاد ضعاف الصحة، أو من لديهم حالات مرضية خطيرة، كمرضى القلب، والرئه، والكلى، والمعدة، من الاشتراك فى الإضراب، خوفاً على حياتهم، وحتى لا تكون ظروفهم عامل ضغط على زملائهم المضربين. ثم تحديد أفواج المضربين، من الذى يبدأ الإضراب، الأقوى صحة ومن ثم الأقدر على الاستمرار، ثم الأقل قوة، والذين سيدخلون كفوج ثالث. وبعد ذلك فهناك تحضيرات صحية للمضربين، إخلاء المعدة والأمعاء قبل الإضراب، وتطهير الفم والأسنان، وضمان نظافتها خلاله.
بعد حوالى العشرة أيام من وصولنا إلى سجن القناطر، بدأ الإضراب عن الطعام، وكنا نحن الأربعة من الدخلين فيه من الفوج الأول، وكان قد تم اختيار لجنه من غير المشاركين فى الإضراب، تتولى قيادته، كما تتولى ضمان الاتصال بالعائلات وبالرأى العام المحلى والخارجى، خدمة لهذا الإضراب.
فوجئت إدراة السجن بامتناعنا عن تسلم الطعام، سواء طعام السجن أو طعام المتعهد، وبإبلاغنا للسجانه والضباط، ببدء إضرابنا عن الطعام، وبأسباب إضرابنا، وهى سؤ المعاملة، وطلبنا إليهم إبلاغ النيابة العامة بذلك لتحرير المحضر اللازم بذلك قانوناً، وبدأنا نتسلم الطعام ولا نمسة، بل نتركة حتى يحضر السجانه لأخذه بعد فوات وقت تناوله، ونقل المضربون إلى الحجرات الكبيرة التى تسع كل منها عشرين فرداً، بينما نقل غير المضربين إلى حجرات أخرى. ونقلت أنا وعبد الجابر إلى حجرة، بينما نقل صلاح وبدير إلى حجرة أخرى، ولم يكن فى الحجرة إلا جردل الماء، وجردل البول. وكان الماء هو الشئ الوحيد الذى نتناوله حتى لا تصاب معداتنا وأمعاؤنا بالجفاف والتشقق.
فى الأيام الأولى للإضراب تجاهلت إدارة السجن الأمر، وبقينا ثلاثة أيام ولا أحد يسأل عنا أو يسألنا عن أسباب الإضراب أو عن طلباتنا. كما لم يحضر أحد من النيابة لسؤالنا.
وفى اليوم الخامس، دخل الفوج الثانى الإضراب، فأهتز موقف الإدارة نوعاً، وبعدها وجدنا بعض رجال النيابة يحضرون إلينا للإطلاع على أحوالنا ولسؤالنا. وكانت الإجابة واحدة، سؤ المعاملة، والإضراب حتى الموت. وعلمنا من زملائنا أعضاء لجنة المتابعة، أن العائلات قد بدأت تتظاهر أمام باب السجن، وأمام مصلحة السجون، وأن الصحافة الأجنبية، خصوصاً الفرنسية والبريطانية بدأت تنشر عن أخبار الإضراب وتعرب عن التضامن معنا.
فى اليوم العاشر دخل الفوج الثالث الإضراب، وبدأ موقف الإدارة والحكومة يهتز بشكل ظاهر، فأخذ مأمور السجن، يحضر بكلبه أكثر من مرة فى اليوم ويقف بأبواب الغرف، ويحاول الكلام مع المضربين، وهم لا عيرونه التفاتاً، وبدأ بعض رجال النيابة، من مستوى أعلى يدخلون، ليتحدثوا معنا، ونحن مصرون على أقوالنا: سؤ المعاملة، والإضراب حتى الموت.
فى تلك الليالى كنا نسمع كلما جن الليل صوتاً يغنى لنا من وراء شراعة غحدى الغرف بالدور الأعلى، باللغة اليونانية. وكان الصوت قوياً، يهز كل أركان السجن، وكان رائع الجمال، وعرفنا أنه نشيد من أناشيد الحزب الشيوعى اليونانى، كان يطلقه كل ليلة وبلا انقطاع منذ بدء الإضراب، رفيق يونانى من المسجونين معنا- اسمه ستافرو، تعبيراً عن تحيتنا، والتضامن معنا. كان هذا النشيد، والمعنى الكامن ورائه، يعطينا دفعة قوية من العزم والإرادة، ويشد من أزرنا، وكنا نجد فيه خير تعبير عن التضامن الأممى، وتأثيره القوى فى دعم نضال المناضلين، وفيما بعد قلت فى قصيدتى: دمع على طلل، فى ذكر هذا التضامن الأممى:
واحتفالات بمايو..وأكاليل الزهور
واحتفالات بأكتوبر..والعرض الكبير
...
وأناشيد عذاب..عن ربيع البشرية
ونداء للتآخى..فى ظلال الأممية
...
يا لها من صيحة دوت بأسماع البرية
أطلعت صبحاً جديداً..فى ظلام العنصرية
...
من فيتنام لكوبا..للصحارى العربية
ومن القطب إلى غابات أفريقيا القصية
...
ومعونات، وتعليم، ودعم بالسلاح
لشعوب تكسر القيد وتمضى للكفاح

وفى صباح كل يوم، كان يمر مأمور السجن، ومعه عبد العال سلومة، وضباط آخرون، ومعهم جمع من ضباط المصلحة ورجال النيابة، ليحاولوا الحديث معنا، وهم يأملون أن يروا منا بادرة ضعف أو تراجع، ولكنهم لا يرون منا إلا الصلابة والإصرار. وعندما كانوا يسألوننا: ماذا تريدون، كنا لا نجيب إلا بعبارة، سؤ المعاملة، الإضراب حتى الموت.
وأخيراً، فى اليوم السابع عشر، عندما سألونا: ماذا تريدون؟ قلنا لهم: اللجنة.
واتصلوا بأعضاء اللجنة- وكانت قد أصبحت معروفه لهم، وبدأوا التفاوض معها. واستمرت المفاوضات حتى المساء. واخيراً تم الاتفاق على تلبية مطالبنا، وحددت هذه المطالب كتابه، واتفق على وقف الإضراب بدأ من صباح باكر، اليوم الثامن عشر.
وغنى ستافرو فى تلك الليلة ثلاث أغنيات.
وفى الصباح جاءت لجنة السجن والمصلحة والنيابة، ومعهم أعضاء لجنتنا، وأبلغنا بالاتفاق. فوافقنا على إنهاء الإضراب. ولم يكن إنهاء الإضراب عن الطعام بالأمر السهل، بل كانت له طقوس وإجراءات هامه، حتى لا يؤدى تناول الطعام بعد هذه المدة الطويلة إلى ضرر بالغ، وربما إلى الموت. وهو ما تكرر حدوثه فى مثل هذه الحالة، سواء فى مصر أو فى الخارج. من ذلك وفاة الرفيق أنطون مارون، سكرتير عام الحزب الشيوعى المصرى سنة 1927 بعد إضرابه عن الطعام، وحين إنهائه.
وشاهدت سيد والى، مأمور السجن المتعجرف وهو يقوم بنفسه بتقديم أكواب الشاى باللبن- الدافئ إلى الزملاء، المستلقين على الأبراش على الأرض، ليكون هو أول ما يدخل إلى أجوافهم. ثم سمعته يقول لأحد رجال المصلحة: يقولون أن الشيوعييت لا يصومون فى رمضان لأنهم لا يستطيعون الصيام، فما قولكم فى هذا الصيام الطويل: سبعة عشر يوماً، يالهم من رجال!.
وتدرجنا فى تناول الغداء، حتى عدنا خلال أيام، إلى الوضع شبه العادى، وكنت أرى حالة زملائى بعد انتهاء الإضراب، فأكاد لا أعرفهم، كانوا قد فقدوا معظم أوزانهم، ولا أنسى منظر صلاح حافظ الذى كان نحيلاً من الأصل، فعندما رأيته بعد الإضراب، كدت أبكى.
وبعد أقل من أسبوع، تم ترحيلنا إلى سجن الاستئناف، نحن الأربعة، لتتم محاكمتنا بعد يومين، أمام محكمة الدجوى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق