ذكريات شاعر مناضل: 74- عن المكان والسكان

74- عن المكان والسكان

الصحراء كائن أسطورى غريب الأطوار، كنت أعايشه وأتأمله من قريب لأول مرة، وأنا فى أعمق أعماقه. وأحسست بأنها تشبهه امرأة شموساً جامحة، متقلبة المزاج والأهواء، مستعصية على الاحتواء أو الفهم، ما أن تظن أنك تقترب منها أو تأنس إليها، إلا وتفاجئك بنوبة من نوبات مزاجها المتقلب، وتظهر لك وجهاً آخر من وجوهها العديدة التى لا تعرفها ولا تتصورها.
فى نهار الشتاء، تجدها مشمسة دافئة حانية مبتسمة، تحملك على أكف الراحة إلى الهناء والنعاس والاسترخاء، أما إذا غابت الشمس فتراها قد لبست وجهاً عابساً مكفهراً، ثم إذا جن الليل، فتراها قد أخرجت من أعماقها برودة قارسة لا توصف، ولا تحتمل، ولا سبيل إلى التغلب عليها، خاصة ونحن نأوى إلى خيام جدرانها وسقفها من القماش الذى يكاد لا يصدعنا برداً، وتحتنا رمال يتسرب منها أى دفئ يصل إليها. كان الشخص منا يغطى نفسة بثلاثة، أو أربع، أو حتى خمس بطاطين من بطاطين السجن، فلا يكاد يحس بالفئ، بل يظل جسمة يرتعش فتنسحب جحافل البرد أمام أشعة شمس النهار.
فى ليل الصيف، يتحول جو الصحراء إلى ربيع ناعم مزهر، يحلو فيه السمر والسهر، وتمتلئ السماء بنجوم لامعه لا يحيط بها الحصر، متفاوته الأحجام ودرجات البريق، والخفقان، حتى ليظن المرء أنه أمام كائنات حية تزيد كل منها أن تعبر عن نفسها. ثم ينبلج الفجر، ناديا وديعاً رفيقاً، ولكنه - كالسعادة - قصير العمر متعجل للرحيل. وما أن تتصدر الشمس وتتخذ مجلسها على عبد السماء، حتى تزول كل الأوهام عن جمال هذا الفردوس الأرضى ووداعته، وتبدأ الجحيم فى فتح أبوابها، بابا بعد باب، حتى يتحول الهواء والرمل والجبال والصخور والحصى، إلى شواظ لاهب من النيران.
وفى أوقات الربيع والخريف الهادئة، ما أن يبدأ النسيم العليل يهب عليك بلطفه ووداعته، حتى يبدأ إيقاع هبوبه فى التصاعد، ثم يشتد حتى تدرك بع قليل، أن الأمر جد لا هزل فيه، وأنك أصبحت فى جوف العاصفة. وتستمر هذه العاصفة ساعات، بل يوماً، بل أياماً متوالية، حتى تقلب الأرض، عاليها وسافلها، فإذا كل شئ تحت الرمال، وكل شئ بلون الرمال. وإذا بالأر تتحول إلى بحر من الرمال المتحركة، بحر يموج  بالكثبان حتى تحسبه أمواجاً فاقعة الصفرة، يكتسى بصفرتها أديم كل شئ. فإذا عن تلك أن تخرج من خيمتك ولو لضرورة، ولو لدقيقة واحدة، فسوف تعود بعدها شخصاً آخر، تغطى وجهك وشعرك ورموش عينيك، وملابسك الرمال، حتى لا يكاد يعرفك أقرب الناس. وعند انتهاء العاصفة، نبدأ فى إزالة الرمال التى تسد مداخل الخيام، والتى تدفن الخيام نفسها حتى منتصف جدرانها القماشية.
وتخرج لك من بطون التاريخ قصة هذه العواصف، التى دفنت جيش قمبيز، ملك الفرس الذى غزا مصر، دفنته تماماً حتى باد واختفى من الوجود تماماً.
والتى نجا منها الإسكندر الأكبر بمعجزة من المعجزات، لدى ذهابة - حين غزوه لمصر، إلى واحه (سيوه)، مما جعله يلجأ إلى عبادة آمون، باعتباره منقذه وحامية.
حاولت أن أتوال مع الصحراء، وأن أعرف لغتها، وأن اسمع ما يجيش فى قلبها من خلجات وأسرار قديمة قدم الزمان، ولكن ذلك كان يستعصى على، إذ كانت تراوغنى وتصدنى، فلم أفلح فى أن أعبر عنها ولو بقصيدة واحدة، ولكنى مازلت طامعاً فى تحقيق هذا الأمل.
كانت واحة جناح التى تبعد قليلاً عن المعسكر - السجن - تقع على بعد ثلاثة أو أربعة كيلو مترات، ولذلك سمى هذا السجن - المعسكر باسمها. وكانت - فيما علمنا قرية صغيرة، تابعة لواحة باريس، التى تقع على بعد نحو خمسين كيلو متراً، وكانت بارايس هذه واحة كبيرة كثيرة السكان، كثيرة العيون والنخيل والزراعات، وكنت قد عرفت منها "فى حلوان الثانوية"- عبدالله سلطان، شقيق عمدتها، وخليل سليمان، ابن شقيقته، وكثيراً ما كانوا يحضرون لنا معهم، بعد الأجازات، سلة من الدوم، أو من التمر، من إنتاج هذه الواحة. وكثيراً ما ما سمعت من الخليل - وكان صديقاً لى - الكثير من الأحاديث والمعلومات عن هذه الباريس، التى كان اسمها مبعث تهكم منا، بينما كان مبعث زهو وافتخار له. أما عن واحة جناح فكانت واحة صغيرة، غلبانة، لا يزيد عدد سكانها عن خمسمائة، وعدد بيوتها عن مائة، وعدد عيونها محدودة، وكذلك عدد النخيل بها، وكان اختيار موقع العين الجديدة على مقربة منها، القصد منه إيجاد مصدر أفضل لريها، وقدر أكبر من الأرض الزراعية المحيطة بالعين لأبنائها، للعمل به واستثمارة. وبالفعل، رأينا عدداً منهم - نحيلى الأجسام والوجوه، وهم يعملون فى تلك الأرض كأجراء، لدى الحكومة، مالكة العين والماء، تحت إشراف مهندس زراعى شاب، كان أصلاً من أبناء الواحات. وشهدنا حول العين، بعض زراعات جديدة، قمح، وفول، وبرسيم.. إلخ.
عن الواحة نفسها، فلم يرها أو يذهب إليها إلا نفر قليل منا، استطاعوا أن يذهبوا إليها، ضمن طلبة من المسجونين، ذهبت مع المقاول، لإحضار بعض جذوع أشجار السنط، التى كنا نستخدمها فى خبز الخبز، وطهى اليمك، غير أننا عرفنا من أهل جناح رجلاً شيخاً هزيلاً، كان يحضر هو وزوجته العجوز من حين إلى آخر، ليقف إلى جوار السور السلكى، ليبيعنا شيئاً من منتجاته، قدراً من البلح الرطب، أو البيض، وليبيع لأثرياء الإخوان منتجات أخرى، ديوكاً رومية، أو بعض الجديان. وكان الرجل واسمه "أبو عمر"، وزوجته "أم عمر"، يحضران وكل منهما يركب حماراً، يتدلى على جانبية "خرجان".
كان من زملائى فى الخيمة شاب من أصل أجنبى - يونانى وكان يهودياً، وكان مرحاً ظريفاً - فيه بساطة عجيبة، كنا أنا وهو نتعاون فى بعض الأشياء، صب الماء للاغتسال، تنفيض البطاطين من الرمال، تخميس السجائر، وكان هو يحب التدخين ولا يستطيع البعد عنه ساعة. وكانت الحياة العامة "أى عبد الجابر خلاف ومعاونوه - يصرفون لكل مدخل أربعة سجائر فقط فى اليوم، وكان ذلك لا يكفى لكبار المدخنين، ومنهم صلاح حافظ، وأوزمو، ولذلك كان الجميع يحتالون على ذلك الوضيع بحيل مختلفة، منها التخميس، وهو أن يشترك عدد منهم، ثلاثة أو أربعة، فى تدخين السيجارة الواحدة، هوليود أو بلمونت - وهى سجائر شعبية معروفة فى ذلك الوقت - ورخيصة الثمن نسبياً - ويتبادل المدخنون تقديم السجائر للتخميس. ومنها التقطيع، وهو تقطيع السيجارة الواحدة بواسطة شفرة الحلاقة إلى نصفين، واستعمال مبسم من البوص، مجلوب من الواحة، فى التدخين، لزيادة عدد مرات التدخين من 4 مرات إلى ثمانية. ولكن أوزمو - شريكى فى "كوميون" التدخين، لم تكن تكفية المرات الثمانية كل يوم للتدخين، ولذلك قالى لى:
-محمود - إيه رأيك نقسم السيجارة ثلاث حتت؟ قلت له:
طيب يا أوزمو - موافق.
فعكف على قسمة السجاير بالشفرة على هذا النحو. فكنا أنا وهو، ندخن - بواسطة المبسم - ثلث السيجارة بتخميسة سوياً. ولكن أوزمو، بعد يومين، عاد وقال لى:
-محمود.. إية رأيك نقسمها أربع حتت؟ قلت له:
-طيب يا أوزمو - موافق.
وقد كان، فأصبحنا أنا وهو نخمس ربع السيجارة سوياً. واستمر الحال على هذا النحو الغريب، فلم يعد لكل منا فى نصيبة غير نفس واحد من السيجارة. ولكن بعد يومين عاد أوزمو يقول لى:
-محمود.. إيه رأيك - نقسمها ثمان حتت؟ قلت له مهدداً:
-أوزمو والله العظيم انت مجنون رسمى وكان أوزمو - كما اكتشفنا - شخصاً موهوباً فى تقليد الناس، وفى حفلة من حفلات السمر، قام بتقليدى، فانفجر الحاضرون بالضحك، وقالوا لى، إنه نسخة طبق الأصل منك. وفى كل حفلة بعد ذلك كانوا يطلبون منه تقليدى، فيفعل وتتصاعد الضحكات. حتى أنا نفسى كنت لا أتمالك نفسى من الضحك.
بعد خمسة عشر عاماً من ذلك التاريخ، ذهبت إلى باريس زائراً، وكان أوزمو يعيش بها بعد أن أفرج عنه ونفى من مصر، وعلم بوجودى، فحضر للقائى، ووجدت أمامى خواجه باريسى أنيق، ولكنى لم أتمالك نفسى من الانخراط فى الضحك بمجرد رؤيتى له. فضحك هو أيضاً. وأصر على دعونى إلى غداء، ثم أصر على دعوتى إلى نزهات عديدة - متحف اللوفر، حديقة لوكسمبرج، غابة بولونيا، الباتو موش.
وسألت عنه بعض أصدقائنا من أهل باريس بعد ذلك، فقيل لى إنهم لم يعودوا يرونه أو يعرفون عنه شيئاً.. وأنه قد اختفى. وكان كل زملائنا من الشيوعيين المصريين اليهود، حين يفرج عنهم ويرغمون على ترك مصر، فإنهم يفضلون الهجرة إلى إيطاليا أو فرنسا أو اليونان، ولا يختار أحد منهم الذهاب إلى إسرائيل، على عكس اليهود غير الشيوعيين، الذين كانوا يذهبون إليها زرافات ووحدانا ليضيفوا إلى قوتها، بأشخاصهم ، وأموالهم، وكانت تلك من سلبيات السياسة المصرية.
وكان فى خيمتنا أكثر من عشرة زملاء آخرين، من خيرة الشباب والمناضلين. وكذلك باقى خيامنا الأربعة، أذكرهم جميعاً بكل خير، ولا أنسى أيامهم الطيبة، رغم ما كان فيها من معاناة.
أذكر صلاح حاقظ، النابغة الموهوب، أذكر ذكاءه وعبقريته، وكنوز المواهب التى كان يحتوى عليها كيانه النحيل. كاتب مقال متألق، قصاصاً وروائياً وشاعراً وزجالاً، وكاتب أغان رشيقة. ومؤلف مسرحيات ومخرجها وممثلها. ومغنياً وملحناً وكان يغنينا ويروح عنا بأغانى عبد الوهاب القديمة، التى كان يحفظها كلمة كلمة، ولحناً لحنا، وأداء طبق الأصل، وكثيراً ما كنت أطلب منه أن يغنى لنا، أولى وحدى أغنية: يا نوال فين عيونك، فيغنيها غناء يوقف الطير على الشجر، وكثيراً ما غنانا أغنية أحلام: يا عطارين دلونى، أو أغنية ليلى مراد، اسأل عليا، وارحم عينيا من دمعة رايحة ودمعه جاية، فيبدع فى أدائها أيما إبداع.
قلت له مرة مداعباً، يا صلاح إنك تغنينا هنا عن كل الفنون، ما عدا فناً واحداً هو فن السينما، فابتسم مفكراً ولم يقل شيئاً. وفى اليوم التالى، رأيته يتداول مع زميلنا حليم طوسون، صاحب المهارات اليدوية الباهرة، وفى المساء دخلنا خيمة المطعم، وكانت هى مكان احتفالاتنا، فرأيت ستارة منصوبة فى برواز خشبى يقف فى أحد الأركان، وقد نصب خلفها حامل مصباح كهربائى كبير، وبعد العشاء، وقف صلاح وحليم وراء الستارة، وأضاءا المصباح، وقدما لنا عرضاً لطيفاً من عروض لعبة خيال الظل، كانت قصتها وحوارها من تأليف صلاح حافظ الفورى، وأمتعنا العرض، وخرج صلاح قائلاً لى: ذلك ياسيدى هو أصل فن السينما الذى طالبتنى به، ولعلمك، فهو فن شعبى مصرى قديم.
وكان معنا المثقف الموسوعى، الأديب الطبيب، الدكتور شريف حتاته، الذى كان يرعانا صحياً فيعالجنا ويحسن علاجنا، ويثقفنا فيحسن تثقيفنا، يدرس لنا السياسة، والاقتصاد، والفلسفة، واللغة الروسية. وكان ابن ذوات أنيق الملبس والمسلك والحديث، دبلوماسياً بالفطرة، وكان مندوبنا لدى الإدارة، يمثلنا فيحسن تمثيلنا، ويكسب لنا ود واحترام المأمير، والضباط، والجنود، والحراس. وقد ترك فى كل السجون التى مر بها، وهى كثيرة، صيتاً طيباً وذكريات لاتنسى.
وكان هناك حليم طوسون، التركى، أحمر الوجه كستنائى الشعر، صاحب النشاط الجسمانى الذى لا يهدأ، أسطى كل الحرف، النجارة، والكهرباء، وغيرها، رغم أنه محام من الحقوق الفرنسية، وابن ذوات هو الآخر.
 وكان هناك محمد شطا، الزعيم الشيوعى، العامل الراسخ القدم فى الحركة العمالية والذى ينطوى فى داخله على عمدة فلاح من المنوفيه، فى كل خصاله وأقواله وأفعاله. وكان هناك سعد كامل، المحامى والصحفى، والإنسان الممتاز، الذكى الظريف، الحاضر النكته دائماً.
هناك وهناك وهناك، نماذج لا حصر لها من الرجوله والمواهب والقدرات، أحالت خواء الصحراء إلى شعله من النور والنار والإيمان.
ولم نكن هناك وحدنا أبداً، إذ كان معنا الأهل والأحباب، والأصدقاء، أو كثير منهم.
كانوا معنا بالخطابات، والطرود، والزيارات.
كنا نتلقى تلك الخطابات، ونرسلها، بمعدل مرة كل شهر، وكانت تأتينا وعليها ختم، فتح بمعرفة الرقيب، وكذلك كانت خطاباتنا تصل إلى ذوينا، ممهورة بنفس الختم، ونفس العبارة، وكانت خطابات سهير لى تمتعنى وتشجينى وتحمل إلى الكثير مما كنت فى حاجة إليه من المشاعر، كانت فى الحقيقة خطابات غرامية. إلى جانب كونها خطابات عائلية شافية وافية.
وكانوا معنا بالهدايا والطرود، فى كل مناسبة، وبلا مناسبة.
كانت الطرود تمدنا بكل ما ينقصنا فى هذه الحياة المصطنعة الجافة. الملابس الداخلية، والجوارب الصوفية فى الشتاء، الكتب واللوازم التعليمية والرياضية، المأكولات المعلبة وغير المعلبة، الشاى والبن والسكر، الصابون، والسجاير. والأدوية وكان زميلنا عبد الجابر، ومساعده بدير النحاس، يتسلمون كل طرودنا ويدخلونها فى "دومين" الحياة العامة، ليقوموا بتوزيعها علينا بالعدل والقسطاس. وإن كان هذا لم يمنع عنهم لسان صلاح حافظ الذى قال عنهم:
كل طرود الناس، انت اللى واخدها..
وبدير على النحاس هو اللى ها بدها..
وكانت بعض العائلات الميسورة، تبالغ أحياناً فى كميات ونوعيات المواد التى ترسلها إلى أبنائها، إذ كانت تعلم أن هؤلاء الأبناء لهم إخوة آخرون كثيرون.
وكانوا معنا بالحوالات المالية البريدية. التى كان مصيرها، مصير الطرود، إذ كانت تدخل فى "الدومين"، على يد عبد الجابر خلاف وبدير النحاس. وأخيراً، وليس آخراً، فقد كانوا معنا بأشخاصهم، وذلك عن طريق الزيارات التى كانت تسعدنا بها العائلات. وكانت الرحلة إلى جناح، الواحات، من القاهرة، أو من الإسكندرية مثلاً، لا تقل فى صعوبتها، أو فى مشقتها عن الرحلة إلى بيت الله الحرام فى مكة، وإلى مقام الرسول فى المدينه المنورة. عذاباً فى عذاب، وشقاء فى شقاء، ونفقات فوق نفقات. وكل ذلك تتحمله العائلات المسكينة، دون ذنب أو جريرة، وتستبيح السلطات لنفسها أن تلقى كل هذا العذاب على عاتق الآباء والأمهات، والزوجات والأطفال، بلا مبرر، إذ كان فى وسعها أن تودع المسجونين فى أماكن أكثر معقولية من هذا المنفى السحيق. والواقع أننى أخذت أوقن بأن عقوبة السجن، فى معظم الحالات، ليست عقوبة للمسجون نفسة، بقدر ما هى عقوبة لأهله.
زارتنى سهير فى جناح عدة مرات، كانت تحضر فى كل منها فى مجموعة من السيدات، أن زهدى، الحارس الأمين، والقائد المحنك، روحية زوجة عبد الجابر، هدى زوجة صلاح حافظ، والدة ألبير آرييه، ياسمين زوجة محمد شطا، سميرة زوجة أحمد طه.. إلخ، وكانت الزوجات يصحبن معهن أطفالهن خلال هذه الرحلات المهلكة.
سهير كانت تصحب معها ليلى، التى كانت فى الثالثة من عمرها، فى كل هذه الزيارات، ومرة منها تركت ليلى لتبيت معى فى خيمتى، على أن تأخذها معها فى اليوم التالى، وكانت الزيارة تتم على يومين متتاليين، كنوع من التعويض عن طول الرحلة ومشقتها، وكانت العائلات تقضى الليل فى استراحة حكومية بمدينة الخارجة. وباتت ليلى معى، ولكنها استيقظت فى الليل. فلم تجد أمها، فارتفع بكاؤها، ماما، ماما، وكانت ورطة كبيرة لم ينقذنى منها إلا حضور، صادق أفندى أمين، باشكاتب السجن الذى كان قريب سهير، وتعرفه ليلى. جاء صادق من خيمته خارج المعسكر، وهو بالفانلة واللباس، وعرفته ليلى، وأخذ يداعبها، فأنست إليه عن البكاء. وكان معنا فى هذه الليلة، "عبده ابن زميلنا القائد العمالى، أحمد طه، إذ حضر مع والدته للزيارة، وبقى مع أبيه خلال تلك الليلة، ولكنه كان ولداً جدعاً، فلم يبك ولم يفضح الدنيا، رغم أنه كان من سن ليلى، إنما ولد.
وفى زيارة تالية، أحضرت سهير معها، ولدنا يوسف، الذى كان قد بلغ السنة الأولى والنصف، فأسعدتنى رؤيته وهو يمشى ويجرى ويتكلم، ولكن أزعجنى أنه كان قد أصيب باللإسهال، فحضر الدكتور شريف حتاته إلى مكان الزيارة - مكتب المأمور - وتولى علاجه، فشفى والحمدلله، ولأخى الدكتور شريف حتاته. ثم أصبح هو نفسه بعد ذلك طبيباً بارزاً، وفقه الله ورعاه.
كانت خطابات سهير، وزياراتها لى - هى والأولاد، بمثابة النسيم العليل الذى ينضر صحراء حياتى، أو طوق النجاة الذى يلقية الرحمن الرحيم إلى، لينشلنى من أمواج الكآبه التى تحيط بى. وكانت شجاعتها وصلابتها، وهى فى هذه السن الصغيرة، التى لم تبلغ التاسع عشرة بعد، وهى تحمل على عاتقها عبء طفلين مازالا فى الثانية والثالثة من عمرهما، ثم وهى تحمل همى أنا فى هذه المتاهات والسجون والمنافى، دون سند أو معين، كما تحمل هم والدها البطل الذى كانت تداوم على زيارته فى السجن الحربى، وتلبية طلباته، كان كل ذلك يثير فى الإعجاب والعجب لتلك الزوجة الصغيرة البطلة، ولكن عجبى يزول عندما أتذكر أنها ابنه بطل، وأن للبطولة جينات تنتقل إلى الأبناء والبنات، كما تنتقل سائر الجينات الأخرى.
وفيما بعد كتبت عن سهير، فى عيد ميلادها فى قصيدة عنوانها - نور عينيك:
أى قلب رف حولى يا سهير
مثل أطياف ملاك طاهر
مثل أنفاس نسيم عاطر
مثل أنداء صباح زاهر
أى ينبوع حنان غامر
أى تمثال وفاء نادر !
...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق