ذكريات شاعر مناضل: 48- الإعدام شنقاً

48- الإعدام شنقاً

 كنت قد تغيبت أياماً كثيرة بالقاهرة، تابعت فيها أحداث حركة الجيش منذ يوم 22 يوليو، وإلى ما بعد عزل الملك ونفيه خارج البلاد، ثم تطورات حالة يوسف صديق الصحية والعملية، على النحو الذى ذكرته فيما سبق،وبذلك انقطعت طيلة هذه الأيام عن استكمال مشروعى بافتتاح مكتب المحاماة بالواسطى، مما كان يقتضى المتابعة المستمرة، والإقامة الدائمة أو شبه الدائمة بجواره. وشعرت بأننى يجب أن أعود إلى الواسطى، وإلى الزاوية، لمتابعة عملى هناك. وعن لى قبل أن أغادر القاهرة، أن أمر ذات صباح على مدرسة شبرا الثانوية -التى كانت محل عملى فى العام السابق، بسبب إحساسغامض بالحنين إبيها، إلى من عرفتهم هناك من العاملين بها. وكنا فى العطلة الصيفية المدرسية، ولذلك لم أجد الناظر ولا أحداً من الوكلاء أو المدرسين، ولكنى وجدت عدداً من الفراشين الذين كنت أحبهم ويحبوننى، ومنهم شاب كل يدعى "أحمد عبد الرحيم"، كان يعمل بلا عقد، مساعداً لأسطى "بحر" كبير الطباخين بالمدرسة، وزملائه. وعلمت منه أن حالته ساءت ولا يجد ما يعيش به، ولا ما يعمله الآن. أحسست بالإشفاق عليه، فسألته، إذا كان يقبل أن يذهب معى إلى الواسطى، ليعمل فى رعاية شئونى الخاصة، ورزقى ورزقه على الله؟ -فتهلل وجه فرحاً بهذا العرض، فأعطيته جنيهين، وطلبت منه أن يذهب إلى محل إقامته القريب، ويحضر إلى بعد ساعة، ومعه ملابسه، ليسافر معى فى نفس اليوم. وقد كان. سافرت، ومعى أحمد عبد الرحيم إلى الواسطى عصر ذلك اليوم. ومن الواسطى أخذت عربة حنطور إلى الزاوية، ومنها إلى السراية، محل إقامتى، وهناك فوجئت بمفاجئة أخرى: وجدت فرساً جميلة، لونها أبيض مشوب بزرفة، واقفة تحت إحدى الأشجار، أمام شرفة المنزل، ومربوطة إلى جذع الشجرة، وسألت شقيقى محمد عنها، فقال لى إنها فرس الحاج خليفة أبو على، ابن عمنا، وأنه أرسلها هدية منه إلى، لاستخدامها فى الذهاب إلى مقر عملى بالواسطى، والعودة منه. كما أخبرنى، أن الحاج عويس أبو بكر، وهو عم لنا، قد أرسل هو الآخر، عدة لهذه الفرس، كانت موجودة لديه، عبارة عن سرج وركابين، ولجام، وهى بحالة جيدة وموجودة بالداخل. وتذكرت أنه سبق لى رؤية تلك الفرس، وهى ترمح حرة طليقة على شاطئ النيل بالجزيرة المواجهة للسراية، وأبديت إعجابى بها، وأن الحاج خليفة قد علم بذلك، فقرر إهدائها إلى.
 سررت بالهدية، وتفاءلت خيراً بها، وفقاً لما كنت قد سمعته من حيث نبوى شريف يقول: "الخيل معقود بنواصيها الخير". كم أخبرنى شقيقى محمد أنه قد عثر لى على سائس مناسب للفرس، هو ولد صغير، عمره عشرة أعوام، يسمى زارع، وهو تحت أمرى من الآن. ثم نادى على زارع، فحضر يجرى، ووجدته فتى ذكياً خفيف الحركة، صغير السن حقاً، ولكنه صالح لهذه المهمة. فوافقت عليه.
وفى الصباح، وجدت زارع قد جهز الفرس، فركبتها وهو يتبعنى ماشياً، ومعه أحمد عبد الرحيم، وتوجهنا إلى مكتبى الجديد بالواسطى. فوجئ أهل البندر بهذا الشاب الذى يركب الحصان، وإذ عرفوا من أنا، ازدادت دهشتهم واستغرابهم، فهم لم يكونوا قد رأوا من قبل محامياً يركب حصاناً. المعروف لديهم أن المحامى إما أن يمشى على قدمية، وإما أن يركب حماراً إذا كان آتياً من قرية قريبة من البندر. وقد تعودوا بعد ذلك على هذا المنظر، وأطلقوا على لقب: الأستاذ المحامى، راكب الحصان. وأظن أنه قد وقر فى نفوسهم أن هذه رتبة أو درجة تميزنى عن باقى المحامين بالمركز.
 فى المكتب، وجدت راغب أفندى "الوكيل"، وسيدهم أفندى "الكاتب"، وعبده "الفراش" على آحر الشوق لعودتى. ووجدتهم يتناقلون الأخبار السياسية، عن الحركة، وعن عزل الملك، وطرده. وأحسست أنهم يظنون أنه كانت لى يد فى حدوث ذلك. بعد قليل وجدت أناساً كثيرين يحضرون إلى المكتب، بعضهم يبارك لى بعزل الملك، وبعضهم يبارك لى بالمكتب. كان منهم بعض أقربائى، ومنهم بعض من عرفتهم من قبل، وآخرون لم أرهم قبل ذلك.
 ثم عرفت من راغب أفندى، ومن سيدهم أفندى، أنه فى غيابى، حضرت للمكتب بعض القضايا. ثلاث قضايا مدنية، وعدد من قضايا الجنح، تبديد محجوزات، رى برسيم، قضايا تموين، جناية مخدرات. وقد أحضرا لى دوسيهات تلك القضايا التى كانا قد أعداها من قبل. كما سلمانى بعض الجنيهات التى كانا قد حصلاها أتعاباً عن تلك القضايا.
قبل أن ينتهى ميعاد العمل بالمحكمة والنيابة، فوجئت بسيدهم، يخبرنى أنى مطلوب فى النيابة، وأن هناك اثنين من المتهمين قد طلبنانى للحضور معهما فى التحقيق، قائلين لوكيل النيابة: عايزين الباشمحامى اللى راكب الحصان. فضحكت. وقمت وتوجهت إلى مبنى النيابة، وصعدت إلى حجرة وكيل النيابة بالدور الثانى، واستأذنت ودخلت. وفوجئ وكيل النيابة، وكان زميلاً وصديقاً عزيزاً من أيام الدراسة بحلوان الثانوية، ولكنه كان قد درس الحقوق بالإسكندرية -وليس بالقاهرة مثلى، وما أن رآنى حتى هب واقفاً وهو يضحك ضحكاً عالياً، ويقول: اهلاً وسهلاً بالباشمحامى "اللى بيركب الحصان"، ورأيته أنا وعرفته، وكان هو الزميل والديق: محمد بكر شافع، زميلى من أيام حلوان الثانوية، وبن شقيقة المرحوم "الشهيد" سيد قطب، الشاعر والأديب والداعية الإسلامى، وقد ترقى بكر شافع بعد ذلك حتى أصبح نائباً لرئيس محكمة النقض. وأشار لى بكر إلى رجلين جالسين القرفصاء فى ركن الحجرة، وقال لى: أدى الموكلين اللى طلبوك أنت بالذات.
حضرت معهما التحقيق، وكانت التهمة، أنهما كانا قد تعاطيا مسكراً هو "السبرتو"، ووقفا يتطوحان أمام باب الجامع. وضحك بكر وقال لى: ماذا تقول فى الدفاع عنهما؟ وكان الثابت من المحضر، أنهما يعملان فى كسح بيارات المجارى بالجامع، وليس لهما محل إقامة إلا حوش الجامع، وليست معهما أيه نقود. فقلت لبكر، إنى أطلب إعدامهما شنقاً رأفة بحالهما. فضحك وهو يدارى ألمه، وأصدر قراره بحفظ المحضر، لعدم الأهمية.
وأخرجت من جيبى جنيها سلمته لهما، فأخذاه وانصرفا. وخرجت أنا وقد اتفقت مع بكر على ضرورة لقائنا كثيراً فى هذا المنفى الذى نقل إليه: والذى كان بالنسبة لى، جنة الله فى الأرض.
 وصرح المتهمان بعد أن خرجا من النيابة لمن سألهما عما حدث: 
-أبداً، الباشمحامى شدنا طلعنا من السجن، وعطانا جنية.
فى المكتب وجدت ثلاث سيدات يجلسن فى احتشام ووقار فى انتظارى، وقدمهن راغب أفندى إلى على التوالى:
الأولى: اسمها الست زينب بنت سالم، من قرية ميدوم التابعة لمركز الواسطى، وقال لى راغب أفندى، إن لها قضية مدنية، نزاع على ملكية قطعة أرض، بينها وبين أبناء المرحوم زوجها المتوفى، وأن القضية كانت موجودة من أيام الأستاذ جرجس عبد الله، ومؤجلة لما بعد الأجازة القضائية. وسلمت على الست زينب، ودعت لى دعاء حاراً بالسلامة، ثم دست فى يدى جنيهاً فشكرتها، وطمأنتها على قضيتها. وانصرفت مسرورة.
وكانت الثانية: أسمها هى الأخرى: الست زينب بنت ناصر، وهى أرملة بلا أولاد، وشقيقة للحاج عبد الحكيم أبو ناصر، عمدة الواسطى، وكانت لها قضية مدنية أخرى من أيام الأستاذ جرجس، هى نزاع على نصف فدان بينها وبين شقيقها العمدة. والقضية منتدب فيها خبير، ومؤجلة حتى يباشر الخبير مأموريته، ويقدم تقريره. وانصرفت الست زينب بنت ناصر، بعد أن دعت لى بالسلامة والصحة، ولم تنس أن تدس فى يدى جينهاً هى الأخرى.
وجاءت السيدة الثالثة: وكان اسمها هى الأخرى الست زينب بنت سلطان، وهى من قريتى "الزاوية" وتمت لى بصلة قرابة بعيدة، ولم يكن لها قضايا بعد، ولكنها ستفكر -بعد ذلك- فى رفع قضية، وكانت أرملة بلا أولاد. وقد انصرفت وهى تدعو لى، بالصحة والسعادة، ودست فى يدى جنيهاً، قبلته منها بعد أن تمعنت، ولكنها ألحت.
كان الوقت قد أصبح عصراً، فركبت فرسى عائداً إلى الزاوية، وحولى سائسى زارع، وتابعى أحمد عبد الرحيم، ورأيت جموع الناس فى الشارع الرئيسى لبندر الواسطى، يهبون لتحية هذا الباشمحامى الذى يركب الحصان.
 وأدركت خلال الأيام التالية، أن الحصان كان له دور هام فى ذيوع صيتى كمحام كبير، أتميز عن باقى المحامين، رغم أننى كنت أصغرهم سناً، وأحدثهم عهداً.
كما أدركت أننى مهيألى فرصة أكبر للنجاح فى القضايا الجنائية، وأنى مرشح لذلك، بحكم استعدادى الطبيعى. وساعد على ذلك أن ساقت لى المصادفات فرصة الحصول على كتاب قديم، يعتبر من أفضل المراجع فى القضايا الجنائية، اسمه "عماد المراجع"، لمؤلفة الأستاذ عباس فضلى المحامى أمام محكمة النقض والإبرام، وكان مقدماً إلى قرائه بمقدامات قيمة من الأساتذة -كبار المحامين: عبد السلام بك ذهنى، محمد صبرى أبو علم، مكرم عبيد باشا، محمد على علوية باشا، عبد الرحمن بك الرافعى، عزيز بك خانكى.وكان الكتاب عبارة عن سفر رائع فى شرح قانون العقوبات، والتعليق على مواده، وإيراد الأحكام القضائية المتعلقة بكل جريمة. ويقع الكتاب فى حوالى ألف صفحة. ويعتبر من أفضل المراجع، من الوجهتين القانونية والعملية لكل مشتغل بالقانون. وكان قد عرض على من أحد باعة الكتب بشارع محمد على فاشتريته منه بثمن زهيد، ثم اكتشفت أنه يعتبر كنزاً من الكنوز، وعرفت فيما بعد، أنه كان سبباً من أسباب تفوقى فى القضايا الجنائية.
وكنت ق نبهت على راغب أفندى، وكيل المكتب، وسيدهم أفندى، الكاتب، بأن يقبلا أى قضية جنائية تأتى إلى المكتب، حتى بدون أتعاب، مما شجع على امتلاء المكتب بهذه القضايا، من كل الأنواع.
فى الأيام التالية، تعودت فى المساء، أن أجلس مع أقاربى ومعارفى فى الأجران، أو على نواصى حقول القطن، لأجيبهم على كل أسئلتهم حول الموقف السياسى، وحركة الجيش، وطرد الملك، مدافعاً عن الحركة وموضحاً أهميتها للشعب المصرى. ولم يكن اهتمامهم بكل ذلك كبيراً، نظراً لعدم اتصاله بواقع حياة الفلاحين، وأوضاع الريف. ولذلك، فقد كنت أتابع كل ما يكتب أو يقال، حول قانون الإصلاح الزراعى، لإيمانى بأنه سوف يفتح الباب واسعاً أمام اهتمامات الفلاحين، بالثورة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق