ذكريات شاعر مناضل: 32- فى غمار التنظيم

32- فى غمار التنظيم


كان تأثرى بالكتب الماركسية التى قرأتها كبيراً، فقد وجدت فيها قوة فكرية باهرة، وسلامة منطق أخاذة، وعمقاً فى شرح القضايا المختلفة التى تصدت لها، وكان "البيان الشيوعى" فوق ذلك كله، ينطوى على جاذبية أدبية آسره، وكذلك بقية الكتب الأخرى.
وشعرت بأنه لا يمكن لأى منصف أو باحث عن الحق والحقيقة أن يرفض هذا الفكر، كما اقتنعت بأن منهج كمال فى تعليق تحفظاتى التى أبديتها له قبل قراءة هذه الكتب، وتركها للمستقبل، ولحين أن نمارس التجربة إلى الحد الكافى للحكم عليها، هو منهج مقبول. وأدركت أنه فى بلد كبلدنا، مصر، فلا مجال أمامنا للاختيار بين هذا المنهج التقدمى العلمى، وبين أى منهج آخر، ولذلك فما أن انتهينا من الامتحانات، ومن قبل أن تعلن نتائجها، ونعرف بنجاحنا، حتى ألتقيت بكمال، وأبلغته بموافقتى على الانضمام إلى تنظيمة، تنظيم "الحركة المصرية للتحرر الوطنى". وهنأنى كمال على قرارى، وأبلغنى بأنه سوف يحضر لى اللائحة التنظيمية للحركة، وتقريراً يشرح أفكارها وبرنامج عملها السياسى، ثم يبلغنى بالخطوة التالية، فى وقت لاحق، وقد كان.
أبلغنى كمال بعدها بأيام بأننى أصبحت "عضواً مرشحاً" فى خلية من طلبة كلية الحقوق. وسنمر بفترة ترشيح قصيرة، حتى يتم تصعيدنا إلى العضوية العاملة خلال شهور، بعد أن نجتاز مرحلة الاختبار والتدريب. كما أخبرنى أن هذه الخلية تتكون منى، ومن ثلاثة آخرين، هم:
- عبد العزيز بيومى رضوان - الطالب فى السنة الثالثة بالكلية.
- كامل زهيرى - الطالب فى السنة الثانية بالكلية.
- عادل أمين - الطالب فى السنة الثانية بالكلية.
كما أخبرنى بأنه -أى كمال- سيكون هو المسئول عنا خلال فترة الاختبار والتدريب. وأبلغنى كمال أيضاً بموعد أول اجتماع للمجموعة، وكان بعد ثلاثة أيام، وبمكان الاجتماع،  وهو منزل كامل زهيرى، الذى كان مقيماً بمنزل عائلته، وأعطانى العنوان، بشارع الألفى المتفرع من ميدان السيدة عائشة بالقلعة. وكنت أعرف المنطقة لسبق إقامتى بها.
وفى الموعد المحدد، ألتقينا جميعاً، وكنا نعرف بعضنا البعض عن طريق الكلية. وسبق اشتراكنا معاً فى الإضراب والمظاهرات، وسبق لقاؤنا فى بوفية الكلية.
انعقد الاجتماع فى موعده برئاسه كمال لكونه المسئول عن المجموعة، ومسئولها السياسى، بدأنا -تحت رئاسته-  نتعرف على نظام الاجتماعات وطريقة عملها.
بدأ الاجتماع بالاتفاق على "الأمان" وهو ما نقوله عن سبب لقائنا إذا ما هاجم البوليس اجتماعنا، حتى يكون كلامنا متطابقاً. وكان الأمر واضحاً، إذ أننا أصدقاء وزملاء فى كلية واحدة، وأن لقاءنا جاء للزيارة والاطمئنان على حالة زميلنا -صاحب المنزل- إذ أنه كان متوعكاً فى الأيام الأخيرة من الامتحان.
النقطة الثانية هى: جدول الأعمال، وهى الاتفاق على رءوس الموضوعات التى تبحث فى الاجتماع. وكان سهلاً أن نتفق عليها فى أول اجتماع لنا.
النقطة الثالثة هى: المالية، وقد اتفقنا على أن يدفع كل منا اشتراكاً قدرة خمسة وعشرين قرشاً شهرياً. وأن يكون عبد العزيز هو المسئول المال ليقوم بجمع الاشتراكات، والاحتفاظ بها لحين انفاقها فى متطلبات العمل، أو تسليمها إلى الجهة الأعلى فى التنظيم فى حالة عد بقائها.
النقطة الرابعة هى: توزيع المسئوليات، وقد اتفقنا على أن يكون كمال و المسئول عن المجموعة كلها، كما أن المسئولية السياسية فى أى وحدة تنظيمية شيوعية، هى أعلى المسئوليات وأهمها وأنها تتضمن الإشراف على كل المسئوليات، ونواحى العمل الأخرى.
واتفقنا على أن يكون عبد العزيز، هو المسئول التنظيمى، ومهمته أولاً: الإشراف على ضمان أمن المجموعة، وانتظام أعمالها واجتماعاتها، وحفظ أوراقها ومستنداتها وضمان أمنها، ومسئولية الاتصال فيما بين أفراد المجموعة، وضمان استمراره وعدم انقطاعه فى أى ظرف من الظروف، وتتضمن المسئولية التنظيمية أيضاً، المسئولية المالية -على النحو السابق بيانه وكذلك تتضمن تحرير محاضر الاجتماعات، ورفعها إلى الهيئات الأعلى، وحفظها.
النقطة الخامسة هى: الدعاية واتفقنا على أن يكون أنا مسئول الدعاية، وتتضمن مسئوليته الأشراف على أعمال التثقيف داخل المجموعة، واختيار موادها، وتوفير هذه المواد، وتحديد برامجها وتوزيع المسئولية عن المحاضرات، بحيث يشمل جدول أعمال كل اجتماع محاضرة واحدة، والإشراف على أعمال التثقيف للهيئات الأدنى، فى حالة وجودها. والمسئولية عن أعمال نشر الوعى والثقافة السياسية بين الجماهير، فى نطاق سلطة المجموعة، فى المدارس أو الكليات، والمصانع والأحياء.
النطقة السادسة هى: العمل الجماهيرى، واتفقنا على أن يكون كامل زهيرى هو مسئول العمل الجماهيرى، فى الكلية، وهى العمل على ربط جماهير هذا المجال بخيط التنظيم السياسى، وتقوية صلات هذا التنظيم بالجماهير فى ذلك المجال، وبالتنظيمات والتيارات الأخرى فيه، وضمان القدرة على التنسيق بيننا وبينها، وحشدها للعمل المشترك.
النقطة السابعة: هى التكليفات السابقة، وهى مراجعة تلك التكليفات التى صدرت من المجموعة لأعضائها، والمحاسبة على مدى قيام كل عضو بأداء تلك التكليفات، ومدى نجاحها فيها.
النقطة الثامنة: الاجتماع القادم: وهى الاتفاق على موعد ومكان الاجتماع القادم.
تلك هى النقاط التى يتكون منها جدول أعمال أى خلية أو لجنة شيوعية.
وفيما يتعلق بى، فقد كلفت بإلقاء محاضرة عن كتاب المسألة الوطنية، تأليف جوزيف ستالين. وكنت معجباً بهذا الكتاب، وبأسلوب ستالين الواضح البسيط فيه.
وانتهى الاجتماع، فانصرفنا فرادى، كما تقضى قواعد الآمان فى العمل السرى، إذ أن انصرفنا جميعاً فى وقت واحد، من شأنه أن يلفت الأنظار ويثير التساؤلات، مما يهدد أمن المكان، وأمن المجموعة.
وفى الاجتماع التالى، وكان محدداً له بعد أسبوع، وفى منزل عبد العزيز بيومى -الواقع فى نفس شارع الألفى بالسيدة عائشة- ولكن فى منطقة بعيدة نوعاً ما عن منزل كامل زهيرى، قمت بإلقاء المحاضرة التى كنت مكلفاً بها، ومن أجل ذلك أعدت قراءة الكتاب ودراسته دراسة تفصيلية، وحددت النقاط الرئيسية والأفكار الهامة التى يتضمنها الكتاب، حتى أصبح الموضوع واضحاً فى ذهنى ومحفوراً فى ذاكرتى. وهى خبرة استفدت منها كثيراً فيما بعد، وخاصة حين أصبحت محامياً، وبصفة خاصة فى القضايا الجنائية، التى تعتمد فى المحل الأول على المرافعات الشفوية.
وقمت بإلقاء تلك المحاضرة بطريقة أثارت إعجاب الزملاء.
كنت قد قررت قضاء العطلة الصيفية بالقاهرة، وعدم الذهاب إلى "الزاوية" هذا العام، لأسباب أهمها أنى كنت أريد البحث عن مسكن مستقل لى، ولم يكن أمراً سهلاً فى تلك الأيام، بسبب أزمة المساكن التى كانت مستفحلة منذ سنوات الحرب، وكانت نتيجة الامتحانات قد أعلنت وعرفت بنجاحى، كما عرفت بنجاح كل أفراد المجموعة. بما فيهم كمال.
وذات يوم من تلك الأيام، وبالذات فى 10 يوليه سنة 1946، ذهبت إلى منزل كمال بجهة بين السرايات لزيارته، وطالت السهرة بنا فدعانى هو وشقيقة الأكبر إبراهيم عبد الحليم للمبيت عندهم، وكان إبراهيم موظفاً بادراة السجلات العسكرية بكوبرى القبة، وكنا قد تاعرفنا من قبل، وكان قد تزوج حديثاً ويقيم مع عروسة فى منزل العائلة ذاك.
وانتهت السهرة وآواينا إلى النةم، وكنت أبيت فى نفس غرفة كمال، وبعد أن استغرقنا فى النوم، صحونا على صوت طرقات شديدة على باب الشقة، وقام إبراهيم وفتح الباب، فوجدهم أمامه: ضابط شرطة يرتدى الملابس المدنية، ومعه مجموعة من المخبرين والجنود. ودخل الضابط وحده، وسأل عن كمال، فدلهم إبراهيم على الغرفة. ودخل الضابط إلى الغرفة، فوجدنى أنا وكمال بها، فسأل.
-مين فيكم كمال؟ وأجابة كمال.
-أنا كمال.. وسأله الضابط وهو يشير إلى:
-ومين ده؟ فأجابه كمال:
-دا زميلى فى الكلية، وبايت معانا.
ركز الضابط باهتمام على كمال، وقام بتفتيشه تفتيشاً ذاتياً. كما قام بتفتيش مكتبه الكائن بالغرفة، كما قام بتفتيشى أنا الآخر تفتيشاً ذاتياً، ولما لم يجد شيئاً يوجب الضبط، قال لكمال:
-البس يا كمال هدومك، وتعالى معانا.
وسأله إبراهيم:
- على فين يا حضرة الضابط. فأجابه:
- على الداخلية، عايزينه فى كلمتين. ساعة ولا اتنين ويرجع إن شاء الله. وقام كمال بتغيير ملابس النوم، وارتدى بدلته، ونزل مع الضابط وطار النوم من عينى ومن عيون أهل المنزل. ونزلت إلى الشارع.
وفى صباح اليوم التالى، وكان هو يوم 11 يوليه 1946 الشهير، عرفنا أن المسألة ليست مسألة ساعة أو ساعتين كما قال الضابط، بل كانت أكبر من ذلك بكثير.
كانت تلك هى حملة إسماعيل صدقى التى شنها على جميع قوى المعارضة الوطنية والقوى الديموقراطية فى مصر، يوم 11 يوليه الشهير، والتى تمت فى فجر اليوم الذى كانت اللجنة الوطنية للعمال والطلبة قد أعلنته كيوم للحداد الوطنى وهو يوم 11 يوليه ذكرى اليوم الذى قام فيه الأسطول البريطانى بضرب الإسكندرية فى بدء احتلاله للبلاد سنة 1882. وفى هذه الحملة تم القبض على أكثر من 200 مواطن من زعماء الطلبة والصحفيين والكتاب، كما قام بإغلاق عدد من دور النشر والحف المعارضة، منها صحيفة "الوفد المصر" لسان حال حزب الوفد المصرى، ومنها صحف: الفجر الجديد، أم درمان، والطليعة، كما تقرر مصادرة أى عدد من جريدة "المصرى" يكتب فيه أى كاتب يرفض الدفاع المشترك، وقد أتهم كل المقبوض عليهم بأنهم شيوعيون، فى حين أن كثيراً منهم لم يكونوا كذلك، بل كانوا وفديين وديموقراطيين وأشخاصاً وطنيين وتقدميين فحسب.
وعلى أثر هذه الحملة قدم استجواب فى مجلس الشيوخ إلى رئيس الوزراء عنها، فألقى بيانه الشهير فى تبرير حملته، بأنها كانت ضرورية لصد الحظر الشيوعى الذى بات يتهدد النظام.
ومما قاله صدقى فى بيانه الذى ألقاه، هو أن قام بإلقاء بعض أشعار كمال عبد الحليم الثورية، ضارباً بها المثل على مدى الخطر الذى تمثله على أمن البلاد وسلامتها، ألقى بيانه بصوت مرتعش من الغضب، وصاح أحد أعضاء المجلس من الباشوات قائلاً:
- كيف يقال هذا الكلام؟ ولماذا لم يسجن قائله منذ زمن؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق