ذكريات شاعر مناضل: 1- مات الملك - يحيا الملك

1- مات الملك - يحيا الملك


كان يوم وفاة الملك فؤاد، هو يوم بداية وعيى بالسياسة. كان ذلك يوماً من أيام شهر إبرايل من سنة 1936 ميلادية. فى صبيحة ذلك اليوم كنت أسير على الجسر الترابى الموصل من قريتى "زاوية المصلوب" إلى بندر "الواسطى" الذى تقع به مدرستى "مدرسة الواسطى الابتدائية" وهو الطريق الذى كنت أسير به كل يوم مرتين، فى ذهابى إلى المدرسة، وفى عودتى منها.
كان الجو ربيعياً لطيفاً، وكانت النفحات الزكية تهب من الحقول الزاهرة التى تقع على جانبية وتمتد إلى مسافات بعيدة، بينما تتعالى شقشقة العاصفير وهديل اليمام من حوله مرحبة بالصباح الجميل. غير أن بعض النفحات كانت تهب على الطريق، محملة بالتراب الذى تأتى به من على الجسر الترابى الذى كنت أسير عليه.
دخلت إلى مدينة الواسطى "البندر" واخترقت شارعها الرئيسى الذى كنت معتاداً عليه، وعلى مشاهدة المألوفة، إلى أن وصلت إلى المدرسة.
ولكن باب المددرسة كان مقفلاً بجنزير حديدى، وكان العلم المصرى الأخضر ذو الهلال والنجوم الثلاثة منكساً إلى منتصف ساريته -وعلمت وقتها أن ذلك رمز للحداد العام. ومن بواب المدرسة الذى كان يقف خلف بابها الحديدى المغلق، ومن الأشخاص الذين يقفون معى فى الشارع أمام الباب، من التلاميذ أو أولياء الأمور، أن المدرسة سوف تغلق لمدة ثلاثة أيام، حداداً على وفاة الملك فؤاد. وكان لابد لى أن أقف راجعاً من حيث أتيت، إلى قريتى، وإلى منزلى.
توقفت أمام بائع للصحف كان يضع صحفه على منضدة صغيرة فى الشارع، قريباً من المدرسة، وكان والدى قد أعطانى فوق مصروفى اليومى، قرشاً آخر، لشراء جريدة الأهرام اليومية التى كان يطلب منى شرائها من حين إلى حين. اشتريت الجريدة، ونظرت إلى صفحتها الأولى، فوجدتها مقسمة إلى قسمين، تحملان صورتين كبيرتين، الأولى، فى القسم الأيمن لرجل كهل يرتدى طربوشاً، وله شارب يتجه طرفاه المفتولان إلى اعلى، وفى الجانب الأيسر صورة كبيرة أخرى لشاب وسيم حسن المنظر، يرتدى هو الىخر طربوشاً يزين جبينه الوضاح. وتحت الصورة الأولى كتابة بخط كبير تقول: الملك فؤاد الأول، ثم عبارة: مات الملك. أما تحت الصورة الأخرى، اليسرى، فقد كانت هناك عبارة مماثلة، وبالخط نفسه تقول: الملك فاروق الأول، ثم عبارة عاش الملك.
وفوق الصفحة كلها، كانت هناك عبارة كتبت بخط أسود كبير، تقول: "مات الملك، يحيا الملك".
كان هذا العنوان الكبير، وهاتان الصورتان، تمثلان حداً فاصلاً بين حقبتين هامتين، من تاريخ البلاد.
طويت الصحيفة ووضعتها داخل حقيبة كتبى، وقفلت راجعاً فى طريقى إلى قريتى.
ما أن خرجت من البندر، وأخذت طريقى على "الجسر" نحو القرية، حتى كان الجو قد أخذ يتغير كعادته فى شهر أمشير وبداية فصل الخماسين. واشتد هبوب الرياح، وتزايدت السحب، ثم مالبث رذاذ المطر أن تساقط، وأخذ يتزايد سقوطه حتى أصبح سيرى على الجسر صعباً، بعد أن تحول سطحة المترب إلى أرض موحلة. ورآنى أحد الفلاحين من قريتى، وهو عبد الفتاح بن محمد أبو سماعين، وكان يعرفنى بل ويمت إلى إسرتى بصلة قرابة بعيدة، وكان له حقل مقات قريب، يزرع به البطيخ والشمام، الذى كان فى مرحلة الإزهار وتكوين الثمار، وكان قد أقام فيه "خصاً" -أى تعريشة من البوص- للاحتماء بها من وهج الشمس أو لفح البرد والمطر، وقد دعانى إلى اللجوء إليه.
ظللت لاجئاً إلى "خص" عبد الفتاح حتى توقف المطر، ثم أخذت طريقى مرة أخرى على الجسر نحو منزلنا، وكنت كلما اقتربت من المنزل، أخذت تلفحنى أزهار البرتقال، الذى كانت أشجاره تحيط بالمنزل من كل جانب.
وحين وصلت إلى المنزل، كان والدى يجلس فى الشرفة الشرقية، وقد ارتدى جلبابة الأبيض، ووضع على كتفه عباءته الصوفية السوداء وبجواره منضدة صغيرة عليها كتاب كان يقرأ فيه. أخبرته بما حدث، وأعطيته صحيفة الأهرام التى أخرجتها من حقيبة كتبى.
نشر الصحيفة وألقى نظرة على صفحتها الأولى، وبدا لى أنه لم يفاجأ بما جاء فيها، وربما أنه كان أمراً متوقعاً، أو أن احداً قد أخبره به قبل وصولى، فاكتفى بقوله: الدوام لله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق