ذكريات شاعر مناضل: 50- الاستعراض الثلجى العالمى

50- الاستعراض الثلجى العالمى


فى الأسبوع التالى، وعند وصولى إلى القاهرة، وجدت سهير تنتظرنى فى منزل والدها بشبرا، ووجدتها قد اختارت هى برنامج سهرتنا، إذ كانت قد قرأت إعلانات فى بعض الصحف والمجلات عن وجود فرقة أجنبية للرقص على الجليد، تسمى  "فرقة الاستعراض الثلجى العالمى"، وكانت تقدم عروضها على مسرح أعد لذلك بسراى الجمعية الزراعية بأرض الجزيرة، وكانت عروض تلك الفرقة تحظى باهتمام الناس فى ذلك الوقت، وقالت لى إنها تريد أن نذهب نحن أيضاً لمشاهدة هذا العرض.
وذهبنا إلى ذلك العرض فى الميعاد المحدد له، وفقاً لإعلانات الصحف، وكان العرض رائعاً، رقصات متتالية من العروض الفردية، والزوجية، والجماعية، من راقصين وراقصات رائعى الجمال والبراعة، بملابس زاهية جميلة، تصاحبهم موسيقى تصويرية ساحرة، وكان الرقص يجرى على أرضية مسرح مغطى بالجليد الصناعى، الذى تنتجه وتحافظ على صلابته آلات ميكانيكية فى غاية الكفاءة والإتقان. وكان الحضور حاشداً بأناس من نخبة المجتمع، من مصريين وأجانب.
ولم يفتنا بعد انتهاء العرض، أن نتمشى على شاطئ النيل إلى تلك البقعة الجميلة من الكورنيش، التى عرفناها من قبل، والتى أصبحت محلاً مختاراً لنا، فى أوقات صفائنا. وهناك، وعلى ضفاف ملتقى فرعى النيل، وعلى ضوء الأنوار القمرية الساحرة، وفى مهب النسيم العليل المضمخ بعطر أشجار الياسمين الذى يأتينا من كل مكان، كان حبنا يفصح عن نفسه.
وعدنا فوجدنا يوسف قد وصل، وجلسنا معه قليلاً، وسألنا عما شاهدناه فى نزهتنا تلك الليلة، فروت له سهير عن الاستعراض الثلجى، وهى مبهورة ومتألقة بالحماس والسعادة. وأحسست أن شيئاً من سعادتها قد انتقل إليه، وأنه كان يستغرق لحظات فى التفكير.
فى العطلة التالية، لم يكن يوسف هناك، ولكن شقيقتى "عليه"، انتحت بى جانباً، وأسرت إلى بحديث منفرد، حمل إلى مفاجأة سارة لم أكن أتوقعها فى هذا التوقيت. قالت لى "عليه" إن يوسف يفكر فى أن يعقد لنا قراننا -أنا وسهير- وسألتنى: ما رأيك؟ وفوجئت بالأمر، ولكننى أجبتها على الفور: هذا غاية ما أتمناه. ثم سألتها، أهو الذى أخبرك بهذا؟ -فقالت: طبعاً، وهل كنت أخبرك به إلا بناء على رأيه هو؟ وسألتها: وهل سهير تعلم بقراره؟ فأجابتنى: طبعاً، وهى موافقة وسعيدة.
بعد قليل، وصل يوسف، وسهير معه. وسرعان ما أخبرته عليه بما دار بينها وبينى من حديث، فنظر إلى فلم أجد ما أقوله إلا أن تقدمت إليه لأحتضنه، وأقبل شفتيه. وكان هذا هو جوابى على تساؤلاته. وكانت سهير تشهد هذا الموقف وقد أحمرت وجنتاها حياء وخجلاً.
لم يضيع يوسف، كعادته، وقتاً، فقرر أن يتم عقد قراننا فى اليوم التالى مباشرة، وكان يوافق يوم 20 من أغسطس 1952، وهو يوم حافل فى تاريخ حياتى. يوم عقد قرانى على العروس التى اختارها قلبى والتى اختارنى قلبها.
لم يفتح معى يوسف أى حديث آخر، لا عن المهر، ولا عن الشبكة، ولا عن الشقة، ولا حتى عن نفقات عقد الزواج وأجرة المأذون، فقد كان يعرف عنى كل شئ، وكنت أنا أعرف عنه كل شئ. كان كأنما يزوج ابنته من ابن له، أو أخ أصغر. زواج يأتى فى وقته وأوانه، دون تكلف أو افتعال، كما تأتى الظاهرة الطبيعية فى الزمان والمكان المناسبين.
فى عصر ذلك اليوم التقت مجموعة من الأقارب والقريبات فى شقة يوسف بشبرا، كانت هناك شقيقتى عليه وابنها حسين وابنتها الصغيرة نعمت، وكانت هناك شقيقتى "بهيجة"، ومعها ابنها أحمد، وابنتها الصغيرة هند، وكانت شقيقتى "سعاد" وبعض أبنائها وبناتها، وكانت هناك شقيقتى "خيرية" وبعض أبنائها وبناتها، وكان هناك المستشار أحمد الأزهرى، زوج شقيقتى خيرية، والدكتور سعيد الأزهرى، زوج شقيقتى سعاد. وكان هناك محمد، ومحمود، شقيقا سهير. وكان هناك يوسف كمال، ابن خال شقيقتى عليه، وصديق الأسرة.
وبعد صلاة العصر، حضر مأذون المنطقة وأحد مساعديه، وسرعان ما بدأت إجراءات عقد الزواج، وأخذ المأذون موافقتى، ثم أخذ موافقة العروس عن طريق وكيلها يوسف صديق (والدها). وشهد على العقد كل من المستشار أحمد الأزهرى، ويوسف كمال. ثم دوت الزغاريد من بعض الحاضرات، وجرى توزيع أكواب شربات الورد.
وأعرب يوسف عن اعتذار السيدة "توحيدة"، والدة سهير، عن الحضور بسبب مرضها، ولكنها ستستقبلنى أنا وسهير صباح باكر لكى تزف إلينا التهنئة بنفسها.
وفيما عدا الزغاريد، وأكواب الشربات، وبعض الأغانى الساذجة التى غنتها هند، ابنة شقيقتى بهيجة، لم يكن هناك أى برنامج لحفل عقد القران. ولكننى أذكر الإحساس الذى تملكنى وقتها. إحساس عميق بالرضا والراحة، كما يحس الذى سبح طويلاً عبر النهر، عندما تصل قدماه إلى الضفة البعيدة، إلى شاطئ النجاة والأمان. لم يشغل بالى وقتها أى شئ آخر.
ولكن ذهنى انشغل وقتها بسؤال هام: هو لماذا اتخذ يوسف صديق هذا القرار، وفى ذلك التوقيت؟ قلبت الأمر على جميع وجوهه إلى أن وصلت إلى إجابة اعتقد أنها هى الإجابة الصحيحة.
كان يوسف قد تأثر بما بدا علينا -سهير وأنا- من مظاهر الحب والانسجام، فمال -وهو الإنسان العاطفى- إلى توثيق هذه العلاقة الجميلة وتدعيمها، بالرباط القانونى الحاسم، وهو عقد الزواج. وكان ذلك سبباً هاماً فى قراره، ولكنه لا يجيب على السؤال الذى يطرح نفسه، وهو عن السبب فى هذا التوقيت السريع لهذا القرار.
وبدا لى وقتها، وأظنه الجواب الصحيح على ذلك السؤال، أن الأحداث التى أعقبت قيام الثورة، وانتقال السلطة إلى مجلس القيادة، وبدأ ممارسة المجلس لساطاته، وما جرى فى تلك الفترة الوجيزة من ممارسات، قد أشعرته بكثير من القلق والوجس، بل والتشاؤم عن مصير الأوضاع، وعن مصيره هو شخصياً، ومن ثم عن مصير أسرته، بما فى ذلك مصيرى أنا أيضاً. وكان ليوسف إحساس مرهف بالأخطار، يجعله يستشعرها ولو من بعيد، وكنت قد لاحظت عليه هذا القلق منذ الأيام الأولى بعد طرد الملك، وبدأ ممارسة الضباط للسلطة، وقد أفضى إلى أيامها، أكثر من مرة، بعدم ارتياحه أو عدم اطمئنانه لبعض ما يحدث. ظواهر الميل إلى الاستئثار بالسلطة بشكل مفرط ومنفلت. ظواهر التكتل والشللية التى تنذر بالانقسام والتفكك تركيزاً للنفوذ ورغبة فى أبعاد الآخرين، وما وراء ذلك من نوازع أنانية وتسلطية، ونرجسية. وروى لى طرفا مما كان يصدمة من تلك الظواهر. فمعظم أعضاء القيادة لم يكونوا يؤمنون بمبادئ الثورة إيماناً عميقاً، أو حتى يعرفونها، وفى أثناء المناقشات التى كانت تجرى عن ذلك، كان بعضهم يقول: مبادئ سته إيه؟ أنا لا أعرف عنها شيئاً ولم أقرأها. وعندما تكلم يوسف مرة عن الشعب، قاطعة جمال سالم بقوله: شعب إيه اللى بتتكلم عنه. الشعب اللى بيبطط الجله؟
ورغم أن المدة كانت قصيرة. إلا أن لمسة يوسف من دلائل على اتجاهات معظم أعضاء القيادة، لم يكن يبشر بالخير على مصير هذه الثورة. لذلك فإنه كان يستشعر بعد الإطمئنان إلى مصير الثورة، أو مصير البلاد فى ظل هذه الأوضاع.
لذلك فقد اتجهت وقتها إلى اعتبار أن هذا القلق، كان هو السبب الرئيسى الذى جعله يتجه إلى التعجيل بعقد قرانى على سهير. وعلى أى حال فقد تلقيت هذا القرار، بمنتهى الراحة والسعادة.
وأذكر، أنه بعد انفضاض الحاضرين لعقد الزواج، استأذنت من سهير، وخرجت لحضور اجتماع للجنة المنطقة بالتنظيم، بمنزل الزميل فتح الله بشبرا أيضاً. وهناك التقيت أيضاً بالرفيق بدر، الكسرتير العام للتنظيم، وجرت فى الاجتماع مناقشة عن الأوضاع السياسية القائمة فى ذلك الحين. وحين علم بدر بأننى قد عقدت قرانى قبل الحضور إلى الاجتماع مباشرة، هنأنى هو وباقى الرفاق، وأصر هو على ضرورة انصرافى وذهابى إلى عروسى فى ذلك الوقت. وقد كان.
لم يطل غيابى عن سهير، فلحقت بها، وتناولنا عشاءنا سوياً، وكنت قد حملت إليها بعض ثمار المانجة التى تحبها.
وفى صباح اليوم التالى، ذهبت أنا وسهير إلى حلمية الزيتون، لنلتقى بوالدتها السيدة "توحيدة"، التى قابلتنا بالترحاب، وأزجت إلينا تهانينا الحارة بعقد قراننا. ثم أصرت على دعوتنا إلى الغداء حيث قدمت لنا الطبق المفضل لديها: السمك بالمايونيز. فأكلنا هنيئاً مريئاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق