ذكريات شاعر مناضل: 64- أطراف الرماح

64- أطراف الرماح

كانت عجلة العمل تدور بسرعة متزايدة، ومعها تتزايد وطأة الواجبات الملقاه على كاهلى، وكان وقتى الذى أقضيه بالواسطى والزاوية مثقلاً بأعباء عملى بالمحاماة، وهو مصدر الرزق الوحيد لى ولعائلتى، وقد أضيفت إلى تلك الأعباء، أعباء التكليفات التى كنت أتولاها نتيجة دورى فى النشاط الحزبى، والنشاط الجبهوى، من دراسات، وقراءة وكتابة التقارير والبيانات المطلوبة. وفى القاهرة، كانت أعبائى فى التنظيم (حدتو)، وفى الجبهة، تتزايد هى الأخرى، من لقاءات ومقابلات، واجتماعات ..إلخ، بحيث يضيق الوقت الذى كنت أقضيه فى القاهرة -وهو يومان فى الأسبوع، عن الوفاء بتلك الواجبات، اللهم إلا على حساب الوقت الضرورى للراحة، وللوجبات الاجتماعية، وبدأت اتجه لإطالة هذا الوقت يوماً إضافياً فى الأسبوع، الثلاثاء أو السبت، لإنجاز ما يتطلبه الواجب من أعباء.
عقدنا اجتماعاً تنظيمياً جديداً للمجموعة القيادية المكونة منى (عامر)، ومن خلاف (عبد الحكيم)، ومن صلاح حافظ (دبوس)، ومن بدير النحاس (على)، وحضر الاجتماع الزميل كمال عبد الحليم (خليل)، وكان قد أفرج عنه -صحياً- من السجن الحربى، وتمكن -رغم ظروفه- من حضور الاجتماع. فى الاجتماع تم عرض النشاط، ومناقشة الوضع السياسى، وعدد من القضايا الهامة. مثل الجبهة، وموضوع الوحدة الشيوعية، وغيرها. ثم طرحت مسألة توزيع المسئوليات داخل المجموعة القيادية. اعتذر كمال عن تولى أيه مسئولية، كما طلب إعفائه من حضور الاجتماعات بشكل منتظم، بسبب ظروفه الصحية، واستمراره فى العلاج من الصدمة العصبية التى أصابته بالشيزوفرنيا، التى عولج منها -بالصدمات الكهربائية، وما زال يخضع للعلاج، ثم بسبب ظروف الأمان الحرجة بالنسبة له، ولكن كمال اقترح أن تسند إلى المسئولية السياسية للتنظيم، وأن تسند إلى خلاف -المسئولية التنظيمية، ومعها مسئولية الاتصال والمسئولية المالية، وأن يسند إلى صلاح حافظ، مسئولية الدعاية، وإلى بدير النحاس، مسئولية بحرى، ومعها مسئولية الجهاز الفنى.
وكان المقرر أن تسند إلى -مع المسئولية السياسية، مسئولية العمل الجبهوى، والعمل الوحدوى، والإشراف على تشكيل وتنظيم لجنة منطقة بالقاهرة، وتقرر أن تسمى اللجنة القيادية باسم اللجنة المركزية المؤقته، إشارة إلى دور اللجنة المركزية الأصلية للتنظيم -وهى قيادته التاريخية، التى كانت كلها -ماعدا كمال- موجودة بالسجون والمعتقلات.
فى القاهرة، التقيت بالزملاء المرشحين لتشكيل لجنة المنطقة الجديدة، وكان منهم الزميل فؤاد فارس، والزميل يوسف إدريس (الكاتب الشهير بعد ذلك) وزميل ثالث اسمه وديع وهيب وعقت مع هذه المجموعة اجتماعاً ضمهم معاً لأول مرة. كما التقيت بالزميل -شهدى عطية- وكان قد أفرج عنه مؤخراً. بعد انتهاء فترة عقوبته بالأشغال الشاقة لسبع سنوات، كان قد قضاها كلها بليمان طره، وكان اجتماعى به طيباً، ولكنه اعتذر عن حضور اجتماعات عاديه، وطلب أن يظل اتصاله بى فردياً، بسبب ظروف أمنه الحساسه، والتزامه بنظام المراقيه الذى كان قد خضع له كعقوبة إضافيه. كما التقيت أيضاً بالزميل أسعد حليم، الذى طلب إرجاء البت فى أمر ارتباطه التنظيمى، بسبب احتمال سفره إلى الخارج، طالباً موافقة التنظيم له على هذا السفر. وبالنسبة للعمل الوحدوى الشيوعى، حضرت اجتماعاً للجنة الوحدة التى تقرر تشكيلها مؤخراً، وكان الاجتماع يضمنى -كممثل لحدتو، ويضم عبد الحميد السحرتى، كممثل لنحشم، ومحمد عباس فهمى، كممثل (م.ش.م)، وإبراهيم فتحى، كممثل لمنظمة -وحدة الشيوعيين (وش). وقد تكرر هذا الاجتماع بعد ذلك مراراً، وأقسم بالله العظيم، أن هذه الاجتماعات كانت من أشق المهام التى تعرضت لها فى حياتى كلها. كنت أشعر فى هذه الاجتماعات بأننى قطعة لحم ألقى بها إلى أربعة قطط جائعة مسعورة، فهى لا تنفك تهاجم، وتموء، وتزأر، وتعض، وتخمش، فى جسد العبدلله، باعتباره ممثلاً للانتهازية، والخيانة التى هى حدتو، لأنها -بالإضافة إلى انتهازيتها الأصلية- التاريخية، قد ارتبكت أفظع خيانة بتأييدها لحركة الجيش، الفاشية، الدكتاتورية العسكرية، قاتلة خميس والبقرى، وعدوة الطبقة العاملة، والشعب المصرى، والحركة الاشتراكية والعمالية العالمية. وكانت المقادير القاسية، قد ساقت إلى هذه الوحوش الضاربة فرصة جديدة للهجوم، ألا وهى ما سمى وقتها ببيان السجن الحربى، الذى لم أكن قد عرفت به من قبل، وهو بيان صدر من مجموعة رفاق حدتو، الذين كانوا مسجونين بالسجن الحربى، والذين نسب إليهم أنهم أصدروا بياناً -قيل- إنه يتضمن تأييداً جديداً لحركة الجيش، يعيد إليها الاعتبار، بعد أن أنكشفت خيانتها وفاشيتها ودكتاتوريتها العسكرية نتيجة لسياستها وقراراتها على مدى الشهور التى قضتها فى السلطة. ولم أكن فى الواقع قد أطلعت على هذا البيان، لا قبل إصداره، ولا بعد ذلك، كما لم أكن قد سمعت عنه شيئاً داخل التنظيم. والغريب فى الأمر، أن هؤلاء الرفاق الأربعة، كانوا متفقين فى الرأى، وفى المعلومات، وفى الأقوال، تمام الأتفاق، على انتهازية حدتو، وخيانتها، قديماً وحديثاً، وكانوا يتلذذون بتعذيبى، باعتبارى ممثلاً للانتهازية والخيانه. ولم يكونوا يقبلون منى القول بأننى لا أعرف شيئاً عن هذا البيان، ويعتبرون قولى هذا دليلاً قاطعاً على انتهازيتى الحدتاوية الأصيلة. أما عن موضوع اللقاء، وهو مناقشة شروط ومتطلبات الوحدة بين التنظيمات الشيوعية التى كنا نمثلها، فطبيعى أن هذا الموضوع كان لا محل له من الأعراب، إذ كان غارقاً فى خضم السباب والشتائم. ومع ذلك فقد كنت حريصاً على استمرار هذه الاجتماعات، باعتبار ذلك موقفاً مبدئياً.
وفيما بعد، عندما نقلت إلى رفاقى فى اللجنة المركزية المؤقته ما سمعت عنه، فوجئت بأن خلاف وصلاح، كانوا قد سمعوا عن بيان السجن الحربى، ولكنهم لم يقرأوه، وكانت معلوماتهم عنه قليلة (طشاش). أما عن كمال، فكان لا يصغى إلى أى كلام أو تساؤل فى هذا الشأن، ويأخذه بتهكم، الأمر الذى جعلنى أشعر أن لهذا الموضوع علاقة بحالته الصحية، بشكل ما.
وفيما بعد، حاولت أن استكمل معلوماتى عن هذا الموضوع، ولكنى، والحق أقول، لم أصل -حتى الآن- أى بعد أكثر من خمسين عاماً، إلى معرفة واضحة لهذا الأمر، كما لم أقرأ نصاً لهذا البيان، بل كانت كل محاولاتى للاستيضاح، تثير ردود فعل سلبية، تشعرنى بضيق الرفاق المعنيين من هذه المحاولات.
وفيما يتعلق بالنشاط الجبهوى، كنت قد كتبت البيان الذى كلفت بكتابته من جانب اللجنة التحضيرية، عن أهمية الجبهة وأهدافها، وعرضته عليهم فنال موافقتهم، وتولوا هم طباعته على الاستنسل بمعرفتهم، وقاموا بتوزيع أعداد كبيرة منه خلال اتصالاتهم الجبهوية، كما قمت أنا بتوصيل أعداد منه إلى حدتو، للاستعانه به فى الدعوة إلى الجبهة. وعلمت أن هذا البيان قد قوبل بارتياح لدى كل من أطلع عليه، وكان محل اتفاق بين العناصر الوفدية، والإخوانية. وتواصلت اجتماعاتى مع مجموعة اللجنة التحضيرية للجبهة، حيث لمست التقدم المتواصل فى نتائج العمل على إقامة الجبهة، وتزايد عدد العناصر الجديدة التى وصلت إليها تلك الدعوة، والتى أبدت تعاطفاً معها.
فى مجال القوات المسلحة، تم الاتصال بالضابط محمد رياض، قائد حرس الرئيس محمد نجيب. وقد أبدى حماساً للجبهة، كما أنه أبلغنا بارتياح اللواء نجيب إلى هذا النشاط، وتشجيعة له. وقد التقيت بمحمد رياض، وارتحت إلى ذكائه وإخلاصه، وكنت مهيأ لذلك لمعرفتى بأنه ابن الدكتور أحمد رياض، ناظر مدرسة شبرا الثانوية، الذى كنت أكن له الحب والتقدير منذ كنت طالباً بها منذ خمسة عشر عاماً.
وعن طريق اللجنة التحضيرية، بواسطة عبد الحفيظ الصيفى، قابلت الأستاذ صالح أبو رقيق، القيادى البارز فى جماعة الإخوان، كما قابلت الأستاذ حسن العشماوى المحامى، والعضو القيادى البارز بالجماعة، الذى ترددت عليه مراراً فى مكتبه للمحاماه بميدان لاظوغلى. كما قابلت المرحوم الشهيد سيد قطب، عدة مرات، وفى كل هذه اللقاءات، وجدت أن فكرة الجبهة الوطنية الديموقراطية تلقى ترحيباً حاراً من الجميع، كما كان لدور يوسف صديق الأدبى فى إقامة هذه الجبهة ورعايتها صدى طيب لدى، لما كان يحظى به من تقدير واحترام.
كانت لقاءاتى بالشهيد سيد قطب. الذى كان وقتها رئيساً لتحرير مجلة الدعوة التى كان يصدرها الإخوان المسلمون، تتم فى كازينو صغير بجوار العين الجديدة بحلوان، التى كان يسكن هو فيهان والتى كنت أعرفها أنا جيداً منذ إقامتى فيها على عهد تلمذتى بمرسة حلوان الثانوية. وقد سررت جداً بالتعرف إلى الشهيد سيد قطب، وقامت بينى وبينه فوراً علاقة ودية طيبة من التفاهم والثقة، خاصة بعد أن عرف صلتى بابن شقيقته الأستاذ محمد بكر شافع، وكيل نيابة الواسطى وقتذاك، وبعد أن عرف صلتى بالشعر -إذ كان هو شاعراً وناقداً لامعاً، وبعد أن عرف صلتى بيوسف صديق، الذى كان هو يقدره ويعرف فضله. وأشهد لله، وللتاريخ، أن سيد قطب كان شخصية عذبه ودوده، وأنه رغم ما قيل عنه من تشدده كمفكر إسلامى، كان سهلاً لين العريكه، ولا أدل على ذلك، من أنه -رغم علمه بأننى شخص شيوعى- وممثل لأكبر منظمة شيوعية- وهى حدتو، لم تكن لديه أيه مشكلة فى التفاهم معى، وفى الالتقاء معى على مبادئ وأهداف الجبهة الوطنية الديموقراطية.
وفى تلك الفترة أيضاً، التقيت بالأستاذ محمود سيف النصر، ابن عم المناضل أبو بكر حمدى سيف النصر، الذى كان أول ممثل لحزب الوفد فى العمل الجبهوى مع حدتو، وكان وقتذاك سجيناً بالسجن الحربى، لاتهامه فى قضية الجبهة. وقد أصبح محمود، خلفاً له، وممثلاً للوفد فى العمل الجبهوى، بعد حنفى الشريف، وعيد مرعى، اللذين تحدثت عن دورهما فى الجبهة فيما تقدم. وكان محمود سيف النصر بدوره عنصراً مخلصاً ومتعاوناً فى العمل الجبهوى إلى أقصى حد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق