ذكريات شاعر مناضل: 9- إلى جوار الوالد

9- إلى جوار الوالد


أخذنا الشهادات التى أعطيت لنا بنتائج الامتحان الشهرى. وعندما أعطيت شهادتى لشقيقتى، أطلعت عليها، وقبلتنى ثم قالت: سنسافر باكر إلى البلد لرؤية بابا، ونعود بعد باكر إن شاء الله. وسألتها: لماذا، فقالت: انت وحشته وعايز يشوفك. وكان باكر هذا يوم الخميس.
سافرنا أنا وشقيقتى والشيخ أحمد -زوجها- وشقيقتى سعاد التى وجدناها تنتظرنا على رصيف محطة القطار.
وصلنا إلى الواسطى، وأخذنا عربة حنطور أقلتنا إلى الزاوية "زاوية المصلوب" -قريتنا. وبعد أن وصلنا إلى منزلنا، دخلنا إلى حجرة والدى، وكان يرقد على سريره الخشبى بحجرة نومه، وإلى جوار السرير كانت هناك منضدة صغيرة عليها دورق ماء، وعدة زجاجات دواء. وحين دخلنا الحجرة، اعتدل أبى قليلاً فى رقدته ليلقانا.
سلمنا عليه، وحين جاء دورى للسلام عليه، انحنيت على يده أقبلها، بينما جذبنى إليه، وقبل رأسى، ثم أمرنى أن أجلس على مقعد مجاور لسريره.
جلست على ذلك المقعد، بينما جلس الآخرون على أريكة، وعدد من المقاعد الأخرى الموجودة بالحجرة. وظل أبى ناظراً لى، لا يرفع عينيه عنى، برهة طويلة. وهنا تقدمت شقيقتى بهيجة، وقدمت إليه شهادة المدرسة بنتيجة امتحانى قبل الأخير. إطلع عليها ورنا إلى مبتسماً ثم قال: الثالث على الفصل؟
فقلت له مصححاً: لأ .. على الفصلين.
ازدادت ابتسامته اتساعاً وقال: مبروك.. وليه الثالث، ليه مش الأول؟ وأجبته دون تردد وأنا أحنى رأس حياء: إن شاء الله.
ارتاح أبى لإجابتى، واتسعت ابتسامته، ثم أشار لى فانتقلت لأجلس إلى جواره على حافة السرير، ثم أمسك برأسى فمسح عليه بيده، ثم قرأ ويده على رأسى آية الكرسى. وانتقلت للجلوس على المقعد مرة أخرى، وحين نظرت إليه، وجدت عينيه مغرورقتين بالدموع.
اتصل الحديث بينه وبين الآخرين لفترة وأنا جالس استمع فى صمت، ولاحظ أبى أننى بدأت اتململ، فنظر إلى وقال: انت زهقان.. معلهش اقعد معايا شوية كمان. قلت له: حاضر. ولكن الحقيقة أننى كنت أريد أن أخرج لأتفرج على الحديقة، وعلى المشاهد الأخرى التى حرمت من رؤيتها مدة طويلة.
بعد مدة أشار إلى أبى فتقدمت إليه، وقبل رأسى مرة أخرى، ثم قال: أخرج انت اتفسح، على بركة الله.
وانسحبت من الحجرة ببطء، ولكنى ما ان خرجت منها حتى اندفعت إلى الخارج وأنا انطلق كالسهم. جريت أولاً إلى ذلك الركن من الحديقة الصغيرة، المجاور للسور، وكنت قبل سفرى إلى القاهرة، قد قمت بزراعة بعض بذور البطيخ والشمام فى حوض صغير من الأرض، زرعتها ورويتها وتعدتها حتى أنبتت شجيرات البطيخ والشمام، ونمت، حتى أن بعضها قد أخرج بعض الأزهار، ولكن سرورى بها لم يكتمل، إذ جاء رحيلى المفاجئ فوضع حداً لهذا السرور. وكنت بعد رحيلى، أتذكرها أحياناً، واتساءل بينى وبين نفسى، عما حدث لها. حزنت إذ لم أجدها، وسررت عندما وجدت بعض الشجيرات منها، وقد ذبلت وجفت وأصبحت هشيماً ملقى على الأرض. وأيقنت وقتها أن الأمر كان حقيقة ولم يكن مجرد وهم من بنات خيالى كما كان يخيل إلى فى بعض الأحيان.
ثم جريت إلى الحديقة الكبيرة، وكانت حديقة شاسعة، مليئة بأشجار لا حصر لها، وتشتمل على أنواع شتى من أشجار الفاكهة، وكنت أحفظها كلها وأعرف مواقعها وأنواعها عن ظهر قلب. جريت إلى أشجار البرتقال واليوسفى، والليمون الحلو واللارنج، التى كانت تشكل معظم أرجاء الحديقة، والتى كانت وقتها قد عريت من الثمار. وجريت إلى أشجار الليمون التى كانت تكون صفين طويلين ممتدين بطول الحديقة، مجاورين للسور الشرقى المقام من الأسلاك الشائكة والاغصان الشوكية الجافة. ووجدت فى بعضها بعض حبات الليمون، وبعض الأزهار. وجريت إلى أشجار الجوافة ومشيت تحتها حيث وجدت بعض الثمار ساقطة على الأرض المعشبة، رغم أننا لم نكن فى موسم إثمارها، وكانت تلك الثمار التى تأتى فى غير أوانها تسمى "الرجوع"، ويقال عنها إن هذه الأشجار، وأنواع أخرى، تحلم بالثمار وتطرح البعض منها فى غير أوانه، وكنت معتاداً قبل رحيلى أن أتى إلى هذه الأشجار لأجمع بعض هذه الثمار، وكانت حبات صغيرة الحجم نسبياً، ولكنها شهية وحلوة ولذيذة المذاق، أكثر بكثير من مثيلاتها التى تأتى فى موسمها الطبيعى. التقطت بعض ما وجدته منها، وأكلت واحدة منها، ووضعت الباقى فى جيبى. ومررت على أشجار المشمش، والخوخ والبرقوق، والكمثرى، والرمان، والمانجو، فوجدتها جميعاً فى أماكنها المعتادة. حتى أشجار التين الشوكى، وكان هناك صفان منها، يمتدان متجاورين إلى جوار السيج الغربى للحديقة، فى مقابلة صفى أشجار الليمون. انتشيت وامتلأت فرحاً بجولتى فى هذه الجنة التى نشأت وترعرت فى ظلالها منذ نعومة أظفارى، والتى كثيراً ما جريت ولعبت فيها مع أخوتى وأخواتى، والتى كثيراً ما صاحبت أبى وهو يتجول فى أرجائها، حين كان فى صحته وعافيته، قبل أن يهاجمه المرض فى سنواته الأخيرة.
ثم ذهبت فى جولتى إلى القسم الأخير من المشهد المألوف، إلى الركن الجنوبى الشرقى من المكان، إلى الحوش القديم. دخلت إلى الحوش وكأنى أدخل إلى معبد مقدس، وكان هذا شعورى كلما دخلته من قبل، قبل رحيلى بسنوات.
كان عبارة عن مربع كبير من الأرض محاط بسور قديم من الطوب الأخضر. وتمتد بطول أضلاعه الأربعة غرف وأحواش وحظائر من نفس النوع من الطوب. كان هناك اصطبل للخيل، وحوش للجمال، بكل منهما مزاود لوضع الأعلاف. وكانت هناك مخازن للحبوب والبذور، وشونات للأعلاف والدريس.
وكانت هناك عربتان مهملتان، متروكتان فى ناحية من الفناء، واحدة من عربات الحنطور، والأخرى من عربات الدوكار. كان المكان كله خالياً من ساكنية، وخاوياً على عروشه. فمنذ سنوات عديدة، وبعد أن أصاب والدى المرض، وتوقف عن مزاولة النشاط الزراعى، انتهت الحاجة إلى هذا الحوش، وكل ما كان فيه، فبيع ما بيع منه، وتبدد منه ما تبدد.
كان دخولى إلى هذا الحوش، ومرورى به، ورؤيتى لكل ما به، كأنه طقس غريب يملأنى بمشاعر وأحاسيس غامضة وحزينة، لم أجد لها من قبل تفسيراً. وحين أصبحت فى سن تسمح لى بالتفكير ومحاولة التفسير، أدركت أن الجماد له حياة، وله لغة، وله إيحاء وتأثير، كما أدركت أن الأماكن القديمة، والمهجورة، تحتفظ بآثار من الحياة التى كانت تدور فيها، والأحياء الذين كانوا يؤمونها، حتى من الأومان القديمة، سواء كانوا من بنى الإنسان أو من الحيوان. كما أدركت أن المكان يحتفظ فيه بشئ من روح الزمان. وبعد سنوات طويلة أدركت أنه لعل فى هذا ما يفسر تلك الجاذبية الشديدة التى كانت تدفع الشعراء العرب القدامى، فى الجاهلية وما بعدها، غلى الوقوف بالاطلال، وإلى الحديث معها ومخاطبتها، ثم إلى إرسال ذلك الفيض من المشاعر والأحاسيس الجياشة التى تضمنتها المقدمات الطللية الشجية التى كانوا يستهلون بها قصائدهم، والتى كانت تفتح الطريق الواسع إلى قلوب سامعيها أو قارئيها.
أخذت ماكنت احتاج إليه من المشاعر والأحاسيس، من وقفتى تلك على الأطلال، واندفعت خارجاً من باب الحديقة الخارجى، إلى المواطن المحيطة بالمنزل، والتى كنت فى شوق إلى رؤيتها، وقفلت راجعاً إلى منزلنا، حيث أبى وأخوتى وأخواتى.
دخلت إلى حجرة والدى فى المساء، وجلست معه بعض الوقت، ولاحظت أنه قد أحس بشئ من الراحة والأطمئنان على حالتى، وعلى مستقبلى، ويبدو أنه كان يحس نحو ذلك بالقلق.
ودخلت إليه مرة أخرى فى الصباح التالى، صباح الجمعة، قبل أن أرحل مع الشيخ أحمد زوج أختى، ومع شقيقتى سعاد، إلى القاهرة، بعد أن قررت بهيجة البقاء مع والدنا بضعة أيام.
وقبل أن أخرج من غرفته، أمسك بيدى وأنا أودعه، وقال لى: عايزك تبقى دكتور، دكتور قلب بالذات.
 وأجبته بإخلاص: حاضر يا بابا. فقبل رأسى مرة أخرى، وانصرفت. انصرفت من المنزل، ومن البلدة كلها، وقلبى مثقل بالمشاعر والأحزان، والأحاسيس الغامضة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق