ذكريات شاعر مناضل: 10- وجه الأحزان

10- وجه الأحزان


سافرت إلى مصر، أنا والشيخ أحمد، وأختى سعاد، وذهبت هى إلى منزلها فى الحلمية الجديدة، بينما توجهت أنا ومعه إلى بولاق. وهنا سارت الحياة سيرتها المعتادة، إذ تولت خالتى وليفة، والدة الشيخ أحمد، وحماة أختى بهيجة، تدبير أمورنا المعيشية، رغم تقدمها فى السن، فى غياب شقيقتى.
 وفى الصباح التالى، توجهت أنا ومحمود عمار إلى المدرسة، وسارت أمور الدراسة سيرها المعتاد، وبذلت أنا كل جهدى فيها، كما وعدت أبى قبل أن أفارقه.
ثم جاء الشهر التالى، وامتحان شهر ديسمبر، وطابور أول يناير، وهات الكرسى يا مرسى.
وتكررت الوقائع على نفس النمط، مع فارق كبير بالنسبة لى، إذ أننى صرت الأول على الفصلين، رغم أننى رسبت فى مادة الرسم، وهنأنى الناظر وصافحنى، وصفق لى مع سائر المدرسين، ومع كل تلاميذ المدرسة، ولكنه قال لى قبل أن أرجع إلى مكانى فى الطابور: يابنى شوف لك حل فى حكاية الرسم دى، مش معقول أضربك، وأنت الأول على المدرسة.
 وأمضيت أياماً وأنا أشعر بفرح ممزوج بالدهشة، وكنت أعجل الأيام حتى أعود إلى أبى فأخبره بأننى حققت ما كان يريده، وهو أن الأول على المدرسة.
ولكن المقادير كانت تجرى مجراها هى، وليس فى المجرى الذى نريده نحن لها. إذ لم يمض على عودتى من الزاوية "زاوية المصلوب" -قريتى سوى أيام، حتى تلقى الشيخ أحمد تلغرافاً بضرورة حضوره وأنا معه، ومعنا شقيقتى سعاد، فوراً. وفى الصباح التالى، توجهنا -ثلاثتنا إلى محطة القطار، وركبنا قطار الصباح الباكر. وفى القطار قابل الشيخ أحمد أحد معارفه، وتحدث معه قليلاً. ثم عاد إلينا وقد تغير وجهه. وأصابنى قلق غامض رغم أننى لم أكن قد سمعت شيئاً. بالفعل، ما أن اقترب لنا الحنطور من المنزل حتى سمعت صوت النائحات، ورأيت موكب الجنازة والنعش يحمله الرجال، ورأيت بعض المقرئين الذين كنت أعرفهم وهم يتقدمون الموكب، ثم بدأوا ينشدون قصيدة البردة، بلحنها المميز: مولاى صلى وسلم دائماً أبداً .. على حبيبك خير الخلق كلهم. وبدا لى واضحاً أنه قد قضى الأمر. ومات والدى.
سرت فى جنازته ذاهلاً صامتاً، وحضرت طقوس دفنه، ثم عدت إلى المنزل، ووجدته غاصاً بأخواتى وقريباتى، ونساء أخريات. وفى الصباح أقيم مأتم النساء فى ردهة البيت الكبيرة، وكان المنزل عبارة عن فيلا فسيحة، يسميها أهل البلد "السراية". أما مأتم الرجال، فكان مقاماً فى سرادق كبير أقيم أمام منزل عمى محمد أبو الحاج أحمد فى درب أولاد على، الذى يضم بيوت عائلتنا كلها تقريباً، وقبل أن أذهب إلى السرادق، أوصتنى شقيقتنا الكبرى"زينب" بما أفعل فى المأتم: أن أقف مع من يتلقون العزاء من المعزين، باعتبارى صاحب الشأن، وأن أصافح المعزين، وأرد على عبارات التعازى فأقول لكل منهم: شكر الله سعيك، أو حياتك الباقية .. إلخ.
وتوجهت إلى السرادق، وفعلت كما أوصتنى شقيقتى، ثلاثة أيام وأنا أذهب إلى السرادق، وأفعل كما فعلت فى أول يوم. وأعود إلى المنزل فى المساء فأجد أخواتى وقريباتى ن نساء العائلة، غارقات فى ملابسهن السوداء، ثم تنصرف منهن من تنصرف، وتلجأ أخواتى ومن تبقى معهن من القريبات إلى تناول العشاء، وأنا معهن، ثم ننام كيفما اتفق، على الأسرة، أو الأرائك، أو على فرش وأغطية مفروشة على الأرض.
ثلاثة أيام وأنا على هذا الحال، صامت، ذاهل عن نفسى، لا أكاد أعى شيئاً أو أسمع ما يقال.
ثم حان وقت الرحيل، والعودة إلى القاهرة. وعدت مع الشيخ أحمد، ومع شقيقتى، بهيجة وسعاد. واستأنفت حياتى السابقة، فى المنزل وفى المدرسة. ولكننى كنت كشخص آخر، صامت عازف عن الكلام، وعن الضحك، وعن اللهو. كان أبى أقرب إلى مما كنت أتصور، ولم يكن هو أبى وحسب، بل كان أبى وأمى فى نفس الوقت، إذ أن أمى كانت قد ماتت عند ولادتى. وها أنا أحس فجأة أنهما ماتا فى يوم واحد.
لقيت من المدرسين والتلاميذ كثيراً من العطف والمواساة. خاصة من الأستاذ عبد السلام، الذى كان يحبونى من قبل بعطفه وعنايته لتفوقى وكان محمود عمار قد أخبرهم بوفاة أبى. ولكن أمور الدراسة سارت بعد ذلك سيرها المعتاد.. وعقد الامتحان الشهرى فى موعده المعتاد، فى أواخر شهر يناير، وأعلنت النتائج فى أول فبراير، فى طابور الصباح، وبالنظام المعتاد.
- هات الكرسى يا مرسى.
ثم: محمود محمد توفيق - الأول.
والتصفيق المعتاد من التلاميذ والأساتذة، ومصافحة الناظر لى. وكلمة: مبروك. والله يفتح عليك.
كنت قد تغيرت. كنت أعشر كما لو كنت فى حلم، ولكن نشاطى فى الدراسة. وعزمى على النجاح والتفوق، كانا مستمرين. وكنت كثيراً ما أتذكر أبى، فتنهمر دموعى فجأة وبلا سبب ظاهر للآخرين. وكان أكثر ما يحزننى أن أبى قد توفى قبل أن يعرف أننى أصبحت الأول على المدرسة بأيام قليلة، قبل أن أحقق له رغبته.
وذات يوم كان الأستاذ عبد السلام يلقى علينا درسه فى النحو والصرف، فلاحظ انصرافى عن الإصغاء إليه. فاقترب منى دون أن أشعر ورآنى أقرأ فى شئ آخر غير الكتاب الذى يشرح منه. ومد يده فأخذ هذا الشئ، فإذ به فرخاً من الورق المسطر الفولسكاب، ونظر فيه ثم سألنى: ما هذا؟ وأجبته: هذا من شعر والدى. وكانت قصيدة من شعر والدى، مكتوبه بخطه الواضح الجميل.. عنوانها: من الهديل إلى المطوقة، وكان والدى قد أعطاا لشقيقتى بهيجة لتحتفظ بها، بناء على رغبتها، وكانت قد أعطتها لى فى اليوم السابق لأقرأها وأعيدها إليها.
 ألقى الأستاذ عبد السلام نظرة على القصيدة، وأخذ يتمايل طرباً وهو يترنم بأبياتها، ثم توقف عن القراءة وأعطاها لى، وقال: اقرأها أنت على زملائك. ورغم ارتباكى أخذت اقرأ القصيدة:
 قل للمطوقة اسجعى وارتادى..
قد ضاق عنك وعن هواك الوادى
تمسين والهة الفؤاد جوية
حرى الدموع، شجية الإنشاد...
حتى وصلت إلى قوله:
لو كنت مصغية إلى ذى لوعة
يشكو نواك سمعت خفق فؤادى
وهنا بدأت الدموع تنهمر من عينى، وبدأ صوتى يختلج، فأشار لى الأستاذ عبد السلام بالتوقف، وقال لى:كفاية، الله يفتح عليك، لقد كان والدك شاعراً عظيماً، وربنا يعوضك عنه خيراً، ونظرت إلى وجهه، فإذا بعينيه مغرورقتان بالدموع.
وتوالت الأيام، وتوالت الامتحانات، وتوالت النتائج: محمود محمد توفيق: الأول، الأول، الأول. وهكذا حتى نهاية السنة. وكنت أتلقى التحية والتهنئة فلا أتأثر، وكأنها موجهة إلى شخص آخر. صامت عابس عازف عن الكلام واللهو والضحك. حتى "سنجق" التى كانت تحضر كل شهر مع زميلاتها، وكانت تتابع إعلان النتائج. وتعرف بتفوقى المستمر، وتشارك معهن فى التصفيق، أو تحاول الكلام معى أمام باب المنزل عندما ترانى أحياناً، فقد كنت عازفاً عن أى كلام معها.
وجاء اليوم المشهود، امتحان آخر السنه: الشهادة الابتدائية بجلابة قدرها. أدينا الامتحان فى مدرسة فاروق الأول الثانوية بروض الفرج. وظهرت النتائج وكانت تنشر فى جريد الأهرام فى ذلك الحين، فوجدت أننى وزميلى محمود عمار من الناجحين. ثم عرفنا من المدرسة نتائجنا. كنت قد حصلت على 77,5 فى المائه، كانت تعتبر نتيجة عظيمة بمقاييس ذلك الزمان. وحصل محمود عامر على نتيجة أقل: 60% ولكنه كان -هو ووالده راضيين بها. وطلبت منى المدرسة صورة فوتوغرافية لى، لنشرها فى الصحف مع خبر نجاحى والمجموع الذى حصلت عليه، وذلك كدعاية للمدرسة. وأخذت أسعى لعمل الصورة لدى أحد المصورين فى شارع فؤاد. ولكن لم يتم الأمر، طرأ أمر آخر حال بينى وبين تحقيق ما تريده المدرسة. وكان الحادث أليماً وغريباً.
فذات يوم من الأيام التالية، كان زميلى محمود عمار يركب دراجة من ذوات العجلتين، وكان يتدرب عليها فرحاً واحتفالاً بنجاحه، فسقط بها، وأصيب بكدم فى فخذه، ولكن احداً لم يهتم بالأمر. وفى اليوم التالى حدث التهاب وتورم فى الفخذ، وذهبوا به إلى طبيب فى الحى، فأمر بعمل مكمدات على الفخذ بخلات الرصاص. وداوم على ذلك العلاج يومين دون نتيجة، بل ازداد الورم، وتفاقم الألم، حتى أصبح لا يكف عن الصراخ. وحملوه إلى طبيب جراح مشهور، بشارع الشريفين بوسط القاهرة، فقال لوالده إن لديه خراجاً فى الفخذ، ونصح بإجراء جراحة لفتح الخراج وعلاجه، وفى نفس ذلك اليوم، أجريت له العملية، وحمل إلى البيت وهو يصرخ من الألم.
خلال يومين آخرين تدهورت حالة محمود عمار، إلى أن أسلم الروح، ولم يكن الامر كله قد استغرق سوى بضعة أيام. مات الفتى وهو فى بداية الشباب، وبعد أيام من نجاحه وحصوله على الشهادة المأموله.
واستعددنا على عجل للرحيل إلى الزاوية -قريتنا- لمواراة الفقيد الثرى فى أرض الآباء والأجداد. فى الصباح الباكر تم تجهيز الجثمان ووضعه فى تابوت ثم حمل إلى سيارة لنقل الموتى كانت واقفة أمام المنزل. ونزلت الأسرة كلها لترافق الجثمان إلى مثواه الأخير.
ركبت شقيقتى وخالتها إلى جوار السائق، وركبت أنا والشيخ أحمد وجلسنا إلى جوار التابوت فى صندوق السيارة الخلفى، كل منا فى جانب منه.
تحركت السيارة، وبدأ بكاء وعويل الجيران يتبعها. ونظرت وأنا جالس إلى جوار التابوت إلى وجه الشيخ أحمد فرأيته غارقاً فى الدموع..
كنت أفكر فى محمود عمار الذى عشت معه أكثر من عام فى بيت واحد، وفى مدرسة واحدة. وفى فصل واحد. كنا نأكل معاً، وننام فى سرير واحد، ونذهب ونعود إلى المدرسة ومنها معاً، ونقضى معاً أوقات فراغنا، ونقوم بنزهاتنا ورحلاتنا الصغيرة. وأحسست بأننى افتقده، وأننى أحبه كأخ شقيق لى. وها هو الآن، راقد فى نعشه ونحن نأخذه إلى مثواه الأخير. وكانت الدموع تفيض على وجهى، ثم بدأت انتخب بصوت مرتفع، حتى أن الشيخ أحمد، والده، كف عن بكائه، والتفت إلى قائلاً: صلى على النبى.
كانت السيارة قد أنهت سيرها فى شارع بولاق، وانحرفت لتسير فى شارع فؤاد، أمام مسجد السلطان أبو العلا فى طريقها إلى الجيزة وما بعدها.
ونظرت من الشباك الخلفى للسيارة إلى شارع بولاق الجديد الذى عشت فيه أكثر من عام، وشاهدت فيه كل ما شاهدت، وخامرنى شعور غامر بالحزن، وتساءلت فى نفسى: ترى هل أرى تلك الربوع مرة أخرى؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق