ذكريات شاعر مناضل: 63- اليوم خمر وغداً أمر

63- اليوم خمر وغداً أمر

كانت عملية التوافق مع وضعى الجديد عملية عسيرة ومعقدة، خاصة فى إطار وضع أمنى حساس ودقيق، ولكنى وطدت نفسى على تحمل هذه المصاعب آملاً أن تتكفل الأوضاع الجديدة بإيجاد الحلول المناسبة للمشكلات بشكل تلقائى. وكنت قد عزمت على قضاء آخر الأسبوع فى القاهرة، أنا وسهير وليلى -وصلاح، على أن نعود لنقضى باقى الأيام بالواسطى، والزاوية. وحافظت على هذا النظام بقدر ما سمحت لى به الظروف.
بعد أسبوع سافرنا إلى القاهرة، وذهبنا إلى منزل يوسف بحلمية الزيتون، ثم فى مساء نفس اليوم ذهبت إلى مقر مكتبى الجديد بشارع الساحة، فوجدت أن بهجت -ابن خالتى- قد قام باللازم فى غيابى، استلم الغرفة من صاحبها -المحاسب يوسف، وأشرف على نظافتها، وعلى عمل اللافتات اللازمة باسمى: محمود توفيق المحامى واحدة كبيرة على نافذة الغرفة المطلة على شارع الساحة، وواحدة سغيرة على باب العمارة، وثانية على باب الشقة. ووجدته قد قام بفرش الحجرة، فوضع فيها مكتباً كبيراً وكرسى مكتب، كما وضع فيها طقم أنترية مناسب، وسجادة. ونجفة مناسبة للإضاءة. وجلست قليلاً فى الحجرة -على سبيل التجربة، فوجدت الوضع مناسباً إلى حد كبير غير أنى أدركت أنه يتعين على أن أحضر موظفاً ليقوم بأعمال السكرتير فى غيابى، على أن تكون ظروفه ملائمة، وأن يكون لديه بعض الإلمام بعمل المحاماة.
وسرعان ما خطر ببالى هذا الشخص، وهو "محمود رستم" أحد أنسبائنا الشركاء فى مطبعة صغيرة بشارع محمد على، وكانت له عدة قضايا بمكتبى فى الواسطى، تتعلق بميراث له فى بعض العقارات بمديرية بنى سويف، وبالتالى فهو ملم ببعض الاصطلاحات القضائية. واتصلت به، وعرضت عليه الأمر، فوافق على الفور، ثم حضر إلى المكتب، فاتفقت معه على التفاصيل، وسلمته مفتاحاً للغرفة، وآخر للشقة. وكان مقيماً بالقاهرة، ويكاد يكون بلا عمل يشغله تقريباً. كما رحب بأداء هذه الخدمة لى، نظراً لمجاملاتى له فى أمور قضاياه فى بنى سويف.
ثم اتصلت بزملاء اللجنة التحضيرية بالجبهة الوطنية الديموقراطية، واتفقت معهم على لقاء فى اليوم التالى. وقد تم هذا اللقاء فى منزل الصاغ حسن الدسوقى بالمنيل، وراء قصر الأمير محمد على ولى العهد السابق. وهناك التقيت بأفراد اللجنة جميعاً، حسن الدسوقى، صلاح عبد الحفيظ، يوسف صبرى، محمود الهلالى. وكان اللقاء مثمراً، تم فيه أولاً تبادل الرأى حول الموقف السياسى، خصوصاً الأوضاع فى القوات المسلحة، وكانت لديهم معلومات وفيرة عن تطورات تلك الأوضاع، والتى كانت تؤكد وأن الأوضاع لم تكن مستقرة فى تلك القوات، وخاصة فى سلاحى المدفعية والفرسان. ثم استعرضنا تطور النشاط فى بناء الجبهة، وفى كسب عناصر جديدة للجنة التحضيرية. وعلمت أنه قد تم ضم عنصرين جديدين، أحدهما هو الأستاذ أحمد فؤاد فارس، المفتش بوزارة المعارف، وكنت أعرفه من قبل، والثانى هو الأستاذ عبد الحفيظ الصيفى، وكانت له صلات بالإخوان المسلمين، وكان يعتبر حلقة صلة مناسبة بهم. كما علمت بأن المجموعة قد استطاعت إقامة صلات مع بعض عنار الطليعة الوفدية، كريم، وأحمد عبد الجواد وهبة، وفكرى عبد الجواد، وأن هذه العناصر قد أبدت حماسية على فكرة الجبهة، كما أبدت استعداداً للعمل من أجل إقامتها.
استطعت أنا خلال تلك الزيارة أن أتصل بالمهندس حنفى الشريف، النائب الوفدى السابق، ثم من خلاله، بالنائب عيد مرعى أبو سمرة، نائب العريش السابق، وأبدينا موافقة تامة على التعاون معنا باسم حزب الوفد، كما استطعت الاتصال بالصحفى إبراهيم يونس، بصفته من قيادات الحزب الاشتراكى وأبدى موافقته على التعاون معنا.
وهكذا بدا لنا أن العمل فى سبيل بناء الجبهة، يسير بصورة مبشرة. واتفقنا على بعض الخطوات، منها ضرورة إصدار بيان من اللجنة تتولى فيه التعريف بنفسها، وبمهمتها، كما تتولى فيه التعريف بفكرة الجبهة الوطنية الديموقراطية، وباهميتها، وبالخطواط الرئيسية لبرنامجها، على أساس أن يكون هذا البيان وسيلة فعالة فى العمل من أجل استكمال بناء تلك الجبهة، وقد كلفت أنا بإعداد هذا البيان، وعرضه على اللجنة فى الاجتماع القام. ومنها ضرورة إنشاء جهاز فنى لطبع مطبوعات اللجنة، وقد كلف بهذه المهمة، الزميل يوسف صبرى، باعتباره ضابط شرطة، ولديه القدرة على تنفيذ هذه المهمة مع مراعاة الاحتياطات الأمنية الواجبة.
وكنت قد علمت بأن زكى مراد. كان هو المسئول فى تنظيم حدتو عن العمل الجبهوى، أما الآن، وقد قبض عليه فيمن قبض عليهم من الشيوعيين فى الحملة الأخيرة، فقد أصبحت هذه المسئولية شاغرة، وكنت قد كلفت بها فى الاجتماع التنظيمى السابق، وأبلغت أعضاء اللجنة التحضيرية بهذا الأمر، وأننى منذ الآن، وإلى جانب صفتى كعضو فى اللجنة التحضيرية، ومسئول الاتصال بها، أصبحت أمثل الحركة الديموقراطية فى التنظيم المراد إقامته للجبهة. وكانت اللجنة التحضيرية، قد بدأت يطلق عليها فى الأوساط الجبهوية، أوساط الوفديين، والإخوان، وضباط الجيش، اسم: لجنة يوسف صديق.
ثم اتصلت بأعضاء اللجنة القيادية فى تنظيمى حدتو، وحضرت معهم اجتماعاً آخر، تضمن كالعادة: عرضاً للوضع السياسى، ثم للوضع التنظيمى. وكان عرضاً مؤلماً لما لحق بالتنظيم من خسارة فادحة فى أعضائه وقيادته نتيجة للضربة البوليسية الأخيرة، ثم نتيجة لانقسام "التيار الثورى" الذى وقع فى المنظمة أخيراً بقيادة بدر ومن معه من أعضاء اللجنة المركزية، وهو ما وضع المنظمة عملياً على حافة التصفية، وما يقتضى جهداً خارقاً لإنقاذها. وقد كلفت من جانب اللجنة المركزية المؤقته، التى كانت تتولى مسئولية قيادة التنظيم، والعمل على إنهاضة من محنته، كلفت بوضع تقرير عام، لإحياء الروح المعنوية للبقية الباقية من أعضاء التنظيم وأنصاره من العاطفين، كما كلفت بوضع دراسة عن قانون الاستثمارات الأجنبية الذى كانت حكومة الثورة قد أصدرته فى الفترة الأخيرة بهدف فتح الأبواب أمام تلك الاستثمارات. وقد عرضت على اللجنة نشاطى فى مجال إقامة الجبهة، وأقر أعضاء اللجنة ما قمت به، اقتناعاً بأهميته وضرورته. وقد كلفت بالاستمرار فى هذا النشاط الجبهوى، وبأن أكون ممثل المنظمة (حدتو) فى هذا النشاط. كما كلفت أيضاً بمسئولية العمل من أجل الوحدة بين المنظمات الشيوعية، وتمثيل حدتو فى الاتصالات التى تجرى من أجل هذه الوحدة، وفى لجنة الوحدة، التى بدأت الدعوة لإقامتها بين عدد من المنظمات، نائباً عن حدتو.
وهكذا عدت من هذه الرحلة، وأنا مثقل الكاهل بالجهد الذى بذلته فيها، وبالمسئوليات والتكليفات التى ألقيت على كاهلى.
وحين عدت أنا وأسرتى -سهير وليلى- إلى حياتنا الأخرى -المعتادة- كانت أمامى هذه الأعباء والتكليفات، بالإضافة إلى أعمالى الأخرى الخاصة بمكتب المحاماة فى الواسطى، وما تقتضية من جهود كبيرة أيضاً، فى دراسة القضايا، وفى كتابة المذكرات والإعلانات وحوافظ المستندات.. إلخ.
كنت قد بدأت أشعر بثقل المسئوليات، وأتوقع زيادتها أكثر فأكثر مع مرور الوقت. ولكنى كنت أستعين على الشقاء بالله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق