ذكريات شاعر مناضل: 20- دولة اسمها روسيا

20- دولة اسمها روسيا


كان يوم 22 يونية سنة 1941 يوماً بالغ الأهمية فى تاريخ الحرب العالمية الثانية. ففى هذا اليوم بدأت ألمانيا النازية غزوها لأراضى الاتحاد السوفييتى. كنت وقتها بقريتى "زاوية المصلوب" أمضى العطلة الصيفية. ووصلتنى صحيفة الأهرام تحمل أنباء هذا الهجوم.
لم أكن أنا -ولا أغلب المصريين- نعرف وقتها شيئاً يذكر عن هذا الاتحاد السوفييتى، ولم نكن حتى نعرف ما هو، وأقصىما كنا نعرفه أن هذا الاتحاد السوفييتى هو اسم آخر لبلد فى أوروبا هو "روسيا"، وكنت قد سمعت عنه طراطيش كلام لا أكثر ولا أقل. وكان ذلك منذ بضعة شهور، حين قرأنا فى الصحف أن روسيا هذه قد وقعت معاهدة صداقة وعدم اعتداء مع المانيا فى بدايات الحرب، وكان مدرسنا الإنجليزى المستر وينجفيلد يبدو عصبياً فى تلك الأيام، نظرا لتوالى الأنباء السيئة عن انتصارات ألمانيا فى أوروبا، وأراد زميلنا  "ألطاف" أن يشاغبه كعادته فسأله عن رأيه فى هذا الاتفاق بين روسيا وألمانيا، وكان ألطاف هذا شخصية غريبة. كان طويلاً مفتول العضلات ذا جسم رياضى، وشعر أجعد مائل للحمرة. وكان محباً لرياضة ركوب الخيل وكانت لدى أبيه مزرعة بها عدة خيول، ولم يكن ألطاف يلبس إلا بدلة ركوب الخيل، ذات البنطلون المنتفخ والحذاء الطويل "الكزلك". سأل ألطاف المستر وينجفيلد عن  تلك المعاهدة بين ألمانيا وروسيا، وأدرك المستر أن ألطاف يستفزه، فأجاب باستهانة:
-إنها أمر تافه لا تعنى شيئاً.
وقال ألطاف وهو يحاوره:
-كيف ذلك وروسيا دولة مهمة؟
فأجابه المستر ساخراً:
- روسيا دولة ضعيفة جداً، إن فنلندا الصغيرة قد هزمتها فى الحرب، ومرغتها فى الوحل.
وتلقى ألطاف الكرة وسددها إلى المستر قائلاً:
- بالعكس، إن روسيا دولة قوية جداً.
واستشاط المستر غاضباً وتساءل فى سخرية:
- من الذى قال لك ذلك؟
فأجابه ألطاف بسرعة:
 - والدى.
وهنا تحول المستر إلى شخص بذئ، وقال لألطاف متحدياً:
- أبوك كذاب.
وتنمر ألطاف وقال للمستر بنبرة أكثر تحدياً:
- بل أنت الكذاب.
وهنا صاح المستر بألطاف:
- أنت ولد قليل الأدب، أخرج من الفصل، ولا ترينى وجهك بعد الآن.
 كان هذا الحوار العجيب يدور باللغة الإنجليزية، وكان مستوى ألطاف فيها لا بأس به. ودق الجرس بانتهاء الحصة. وسارع المدرس بالخروج مندفعاً إلى الفناء. وما هى إلا دقائق حتى حضر أحد الفراشين منادياً على ألطاف ليتوجه سريعاً إلى مكتب حضرة الناظر.
توجه ألطاف -كما علمنا- إلى مكتب الأستاذ "حسنين رأفت" ناظر المدرسة، وقابل وهو فى طريقة المدرس الإنجليزى خارجاً من الحجرة ووجهه محتقن بالدم. وفى المكتب وجد ألطاف الناظر واقفاً، ومعه بعض المدرسين. وواجهه الناظر صائحاً:
- أنت ألطاف؟ وأجاب هذا بهدوء وقلة اكتثرت:
- أيوه سعادتك، أنا ألطاف.
فصاح فيه الناظر:
- إيه اللى عملته ده يا بغل؟ الله يخرب بيتك.
وأجابه ألطاف بقلة اكتراث:
- ما عملتش حاجة. هوه اللى شتم بابايا.
وطاش صواب الناظر فصاح به:
- باباك إيه يا بغل. أنت عايز تخرب بيتنا؟ انت عايز الإنجليز يهدوا المدرسة فوق دماغنا. اطلع بره. انت مرفود رفد نهائى يا بغل. وصمم الناظر على فصل ألطاف، ولكن الأستاذ الشيمى، ومعه المدرسون الذين كانوا واقفين مع الناظر، تدخلوا فى الأمر، وظلوا يراجعون الناظر ويحاورونه، حتى اقتنع بالعدول عن قراره، واكتفى بنقل ألطاف إلى فصل آخر، ترضية للمدرس الإنجليزى.
وكانت تلك هى المناسبة التى سمعت فيها، أنا وطلبة الفصل شيئاً عن روسيا، وعن الاتحاد السوفييتى.
وفى الأيام التالية، توالت أخبار الصحف عن هذا الغزو الألمانى لأراضى الاتحاد السوفييتى، ومنها عرفنا أن هذا الغزو قد جاء مفاجئاً ودون مقدمات، ومنافياً لمقتضيات المعاهدة الموقعة بين الطرفين قبل شهور قليلة. ورغم أن سياسة الدول الغربية قد انصرفت منذ سنوات إلى إغراء هتلر ودفعه إلى شن هجومة على الاتحاد السوفييتى بضربة قاصمة، ودمرت طائراته وهى جاثمة فوق الأرض، وأصبح على قواته أن تخوض حرباً ضارية تحت سماء مفتوحة لطيران العدو الذى امتلك زمام المبادرة الاستراتيجية.
وتراجعت القوات السوفييتية، وتمكنت القوات الألمانية خلال ثلاثة أسابيع من التوغل على جميع المحاور الرئيسية بعمق يتراوح بين 400 و 600 كيلو متر. وبعد أسبوع واحد من شهر يولية كانت قوات هتلر تدك موسكو وليننجراد. وعندما حل شهر نوفمبر 1941 كانت القوات الألمانية قد احتلت مناطق تضم 40% من سكان الاتحاد السوفييتى، 61% من السكك الحديدية، 84% من إنتاج السكر، 68% من إنتاج الحديد، 58% من إنتاج الصلب. وكان هتلر يرى أنه لا يحتاج لأكثر من بضعة أسابيع حتى يكسب معركته ضد الاتحاد السوفييتى بالكامل. ولم يكن تقدير أمريكا ودول الغرب كلها بعيداً عن ذلك.
وطغت أنباء الحرب فى روسيا إلى حد كبير على سائر الأنباء الأخرى. ومع ذلك فلم يكن فى إمكاننا أن نعرف: هل كان الاتحاد السوفييتى ضعيفاً جداً كما قال المستر وينجفيلد، أم كان قوياً كما قال والد ألطاف.
...
لم يمر وقت طويل حتى دخلت أنا وزميلى كمال عبد الحليم فى تجربة جديدة، من نوع آخر تماماً.
كان كمال هو الآخر، ذا ميول شعرية وأدبية. وفكرية. وكنا ندخل أنا وهو، وربما مع زملاء آخرين فى أحاديث طويلة عن هذه الأمور. وذات يوم قريب من أحداث 4 فبراير، عاد من عطلة نهاية الأسبوع، ففاتحنى فى مشروع جديد، ألا وهو إصدار مجلة أدبية وثقافية جديدة، وبعد بحث قصير، أعجبتنى الفكرة، واتفقنا على العمل أنا وهو على تنفيذها، فى يوم الجمعة التالى نزلنا أنا وكمال إلى القاهرة لبحث الأمر مع إحدى المطابع، وذهبنا إلى شارع محمد على حيث توجد العديد من المطابع. وجدنا بجوار دار الكتب مطبعة اسمها "المطبعة اليوسفيه" وتحدثنا فى الأمر مع صاحبها وكان اسمه "محمد يوسف". عرفناه بأنفسنا، وشرحنا له فكرتنا، فأبدى الرجل إعجابه بالفكرة. واستعداده للمعاونه. وأوضح لنا الرجل أن إصدار مجلة يحتاج إلى إجراءات كثيرة ليست متاحة لنا، وأن المتاح هو إصدارها باسم كتاب غير دورى. ثم شرع الرجل فى تدارس الأمر معنا، وانتهى الحديث إلى الآتى:
1- اسم المجلة سيكون "صوت الشباب". نشرة غير دورية، واقترح الرجل أن يضاف بعد الاسم عبارة: يصدرها نخبة من نوابع الطلبة. ووافقنا.
2- أن تصدر المجلة فى حجم المجلات الأسبوعية. وأن يطبع منها 300 نسخة.
3- أن علينا أن نقوم نحن بإعداد المادة.
4- علينا أن نقوم بدفع تكلفة العدد إليه، وقدرها ثلاثة جنيهات. 
واتفقنا على أن نعود إليه يوم الجمعة التالى. ومعنا مواد العدد، والمبلغ المطلوب.
انشغلنا طوال الأسبوع التالى بإعداد مادة المجلة، كتبت أنا وهو معظم المادة، واستعنا ببعض زملائنا من ذوى القدرات الأدبية من القسمين الداخلى والخارجى فقدموا لنا بعض المواد من إنتاجهم. واكتمل لنا بذلك قدر من المواد يكفى لإصدار المجلة. كانت لدينا حصيلة من القصائد الشعرية، والقصص القصيرة، والمقالات الأدبية، اشترك معنا فى تقديمها من القسم الداخلى الزملاء: عمر محمد الطاهر الشاعر والأديب السودانى، وصادق عبد الماجد، الشاعر والديب السودانى أيضاً، وعدنان أسعد، الشاعر والأديب السعودى، وكمال يظان، الشاعر والأديب اللبنانى، واسكندر ثابت العدنى، الشاعر والأديب والموسيقى العدنى. ومن القسم الخارجى: الشاعر والأديب محمد بكر شافع، والشاعر والأديب وحيد على الجابرى.
واستطعنا أن ندبر الجنيهات الثلاثة، وفى يوم الجمعة التالى، ذهبت أنا وكمال فقابلنا محمد يوسف فى المطبعة اليوسفية بباب الخلق وسلمناه المواد والنقود. اطلع على المواد، ثم جعل يرسم على ورق أمامه شكل العدد، وترتيب المواد. واتفقنا على أن نحضر إليه فى الأسبوع التالى. لاستلام المجلة مطبوعة.
وقبل أن نعود إلى حلوان، مررنا على مطعم الكاشف للأسماك بالعتبة. فتناولنا غداء شهياً من سمك البياض المقلى.
- فى يوم الجمعة التالى ذهبنا إلى المطبعة اليوسفية، واستلمنا أعداد المجلة، واطلعنا على العدد، وكانت فرحتنا غامرة، ونحن نعود بها إلى المدرسة.
- فى الصباح التالى وقفت أنا وكمال، وبعض الزملاء المشاركين فى تحرير المجلة من القسم الداخلى، ومع كل منا كمية من أعداد المجلة، وأخذنا فى توزيعها على الطلبة لدى دخولهم من باب المدرسة، وفى أرجاء الفناء الداخلى. كنا نسلم الطالب نسخة من المجلة، ونأخذ منه قرشاً واحداً ثمناً لها (وهو سعر التكلفة). وظللنا هكذا حتى دق جرس الطابور الصباحى، فتوقفنا عن التوزيع، انتظمنا فى الطابور.
- بعد قليل من الوقت أقبل الناظر "حسنين رأفت" ومعه الأستاذ أحمد محمود وبيد كل منهما نسخة من المجلة.
كانت المجلة قد وصلت إلى الناظر والمدرس الأول بطريقة ما.
- ووقف الناظر فى مواجهة الطابور، وأشار بيده إلينا بالانتظار، ثم قال وهو يرفع نسخة المجلة فى يده:
- يسرنى أن أخبركم، بأن بعض زملائكم قد قام بعمل جيد يستحقون عليه التهنئة، وهو أنهم أصدروا هذه المجلة التى سموها "صوت الشباب". وهذا عمل جيد، وإنى أهنئهم عليه، ولكنى كنت أتمنى أن يخبرونى به من قبل، وأن يذكروا بالمجلة أنها تصدر من مدرسة حلوان الثانوية. وقد قررت أن تقوم المدرسة بتمويل الإعداد القادمة من المجلة، وأن يشرف على إصدارها معهم، الأستاذ أحمد محمود المدرس الأول للغة العربية.
وصفق الطلبة فى الطابور ابتهاجاً بذلك. وبدا واضحاً أن الناظر كان مسروراً بهذا العمل، وعلمنا أن صدور مثل هذه المجلة من طلبة المدرسة كان أمراً يرفع من شأنه لدى الوزارة.
وفى الشهور التالية من العام الدراسى، أصدرنا أعداداً من المجلة، عدداً كل شهر. وقد أدى إصدار المجلة إلى تحسين علاقة الناظر بالطلبة، وإلى تقوية علاقتنا أنا وكمال، بالأستاذ أحمد محمود.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق