ذكريات شاعر مناضل: 58- وعلى الأعراف رجال

58- وعلى الأعراف رجال

 دخلنا إلى معتقل روض الفرج من الباب الخلفى لمبنى القسم، وصعدنا إليه على السلم المؤدى للدور الأول (فوق الأرضى) وكان المبنى واقعاً فى أحد الشوارع الجانبية المتفرعة من شارع شبرا العمومى، وكان وصولنا قبل غروب الشمس بقليل. وكان المعتقل يتكون من غرفة للمأمور، ثم من عنبر كبير، كان أصلاً قشلاقاً للجنود، وكان به حوالى العشرين سريراً، من أسرة الجنود، مصفوفة على صفين متقابلين بموازاة الجدراين الرئيسين للعنبر، وكان ملحقاً به دورة مياه.
 وجدنا بالعنبر عدداً من المعتقلين، الذين كانوا مودعين به منذ أيام، فى انتظار الترف فى أمرهم. وعرفنا منهم عدداً من الشيوعيين، منهم أحمد طه الزعيم العمالى، وعلى عبد البارى، المحامى المعروف، وآخرون. كما كان هناك عدد من الشخصيات الأخرى: النبيل عباس حليم، من العائلة المالكة، ورئيس حزب العمال الشهير بحزب عباس حليم. ووجدت هناك –يوسف كمال الدين- وهو أحد أقاربنا من بنى سويف، وكان مفتشاً إدارياً بوزارة الداخلية، ومعروفاً بصلته بيوسف صديق، بحكم قرابته لزوجته –شقيقتى علية. وكان هناك شخصيات أخرى منها: العقيد شرطة فارس اسحق، مأمور نقطة الزمالك، المعروف بحسن علاقاته بالجاليات الأجنبية المقيمة بالزمالك، وبالجالية البريطانية بصفة خاصة .. إلخ.
 بعد أن استرخا قليلاً على بعض الأسرة الخالية، حضر مأمور المعتقل، العقيد أحمد صالح، فرحب بنا، وأبلغنا بأن أقامتنا بهذا المكان، لن تكون طويلة، حسب المعلومات التى وصلت إليه، ومع ذلك فهو يتمنى لنا إقامة مريحة، ويعرض خدماته علينا، واستعداده لأدائها فى حدود القانون. كان هذا المأمور شخصاً مجاملاً بالغ اللطف، وكان حسن المظهر، لطيف الشكل، وسيماً ولكن كان يبدو عليه الحزن، وشئ من "القرف"، وعلمنا فيما بعد أنه يعيش مأساة أليمة، بسبب إصابة زوجته –وأم أولاده- بمرش السرطان، وتدهور حالتها الصحية باستمرار.
 ومنذ الصباح، صحونا منتعشين، وبدأنا نتعرف على زملائنا فى العنبر، كان عباس حليم أكثرهم مرحاً على عكس ما هو متوقع من أمير، جئ به من قصره الفاخر فى حى جاردن سيتى، ومن حياته المرفهة، إلى هذا العنبر الموحش، لينام على سرير من أسرة جنود البوليس، ولكنه كان حسن الملبس والمظهر، يأتيه طعامه –بإذن خاص- من قصره، أو من أرقى المطاعم بالقاهرة، فلا يأكل وحده أبداً، بل يعزم على الآخرين جميعاً، أو على من يقبل منهم عزومته، ليأكلوا معه من نفس الطعام، وشاهدنا بأنفسنا، قوارب الشركسية، وشرائح الديك الرومى، وأوعية الكافيار الحمر والأسود، والسومون فيميه.
 وكذلك كان يحدث لبعض الآخرين: فارس اسحق، على عبد البارى، إمام واكد وآخرين، مع الفارق الكبير بين هؤلاء وبين النبيل عباس حليم فى المستوى.
 أما نحن، الشيوعيون وأمثالهم، فكان يأتينا الطعام من المتعهد، وكان طعاماً متوسط الرداءة.
 وفى أوقات الفراغ، كانت تتشكل من المعتقلين حلقات متعددة، للسمر وتبادل الأخبار والآراء. أما عباس حليم فكان لا يتكلم فى السياسة أبداً، كل كلامة مزاح وذكريات مرحة. وأما يوسف حلمى، فهو محدث لبق فى السياسة وفى الثقافة والفنون. وأما على عبد البارى، فكان لا يكف عن القراءة فى كتاب الأغانى، الذى كان معه دائماً، وأما أنا فكنت أختار الحلقة التى أجلس فيها، كيفما أتفق.
 بعد ثلاثة أيام، أبلغنا –نحن الأربعة-  بالاستعداد للذهاب إلى جهة أمنية، وكان المفهوم، أنه سيتم الإفراج عنا. وبعد أن ودعنا الآخرون وأوصونا بألا ننساهم، حضرت قوة من الضابط والعساكر، فاصطحبتنا إلى مبنى المجمع، وهناك أخذنا المصعد إلى مقر للمباحث –أو المخابرات- بالدور الثامن.
 أدخلنا إلى غرفة للانتظار، ملحقة بمكتب ه>ا المسئول الأمنى الكبير، وكان هو –الصاغ محيى الدين أبو العز- من رجال الصف الثانى بحركة الجيش.
 جلسنا هناك بعض الوقت، وأدخلت إلينا أكواب عصير الليمون. ثم أدخل لاأستاذ يوسف حلمى، لمقابلة المسئول الكبير، ولم نره بعد ذلك، وعلمنا، أو فهمنا، أنه تم الإفراج عنه فوراً.
 ثم أخذ الأستاذ محمد أبو الخير، ثم تلاه الأستاذ أحمد صادق عزام، بنفس النظام والطريقة.
 وأخيراً، أخذت أنا، ودخلت إلى الحجرة ذاتها، فوجئت الصاغ محيى الدين أبو العز جالساً إلى مكتب حسن الهيئة، وعلى جانب المكتب رجل نحيف أصفر الوجه، علمت فيما بعد أنه البكباشى حسن المصيلحى، أحد كبار المسئولين عن قسم مكافحة الشيوعية بوزارة الداخلية. وكان يجلس وأمامه عندة أفرخ من أوراق الكتابة، وبدا لى أنه يقوم بدور كاتب التحقيق الذى كنت أراه  فى غرف وكلاء النيابة.
 أشار إلى الصاغ محيى الدين أبو العز بالجلوس على مقعد أمامه، ولما جلست، قال لى بابتسامة مصطنعة:
 -هيه يا أستاذ محمود، مش هاتبطل العمايل اللى أنت بتعملها دى؟ وشعرت بأن الدم يندفع إلى رأسى، فأجبته:
 وأيه هى العمايل دى اللى أنا باعملها؟
 فأحمر وجهه، وبدا عليه أنه يحاول أن يكظم غيظه.
 كنت فى تلك الأيام مقتنعاً بفكرة مسيطرة على، وهى أن الثورة تقف فى مفترق طرق تاريخى، ما بين طريق الدكتاتورية العسكرية، وطريق الديموقراطية، الذى هو طريق الثورة المصرية منذ ثورة عرابى، وثورة 1919، وأن الثورة قد بدأت تتأرجح بين هذين الطريقين، منذ أيامها الأولى، نتيجة لصراعات وضغوط مختلفة ومتعارضة، منذ أيامها الأولى، نتيجة لصراعات وضغوط مختلفة ومتعارضة، وكنت أعتقد أن مستقبل ومصير هذا الصراع، هو فى يد المثقفين، وهو يتوقف على مدى صلابتهم فى الدفاع عن قضايا الحرية، والديموقراطية وحقوق الإنسان، فإذا فرطوا فى هذه المبادئ أو ساوموا عليها، انتهى أمر الثورة إلى الغرق فى مستنقع الدكتاتورية وظلام الإرهاب. وإذا دافعوا عنها ببسالة واستقامة، سوف يكتب لهذا الثورة النجاة، وكان يسوءنى جداً أن أرى مواقف بعض المثقفين الكبار، وهى تهتز وتتأرجح، وتتراجه أمام ضغط الأفكار والآراء والمواقف، المعادية للديموقراطية.
 تمالك غيظه بصعوبة، ثم قال:
 -أنت عارف وأحنا عارفين، أنت بتعمل أيه؟
 فقاطعته قائلاً فى حزم:
 -أنا مش عارف.. تسمح تقول لى؟
 فهز رأسه رافضاً –ثم قال:
 -أنت عايز تخرج وألا مش عايز؟
 فقلت له:
 -عايز.. ومش عايز.. ده يتوقف على طريقة الخروج. ثم أضفت:
 -تسمح تفهمنى.. أنا فهمت أنك أنت ضابط جيش، وعايز أعرف:
 -أنت بأى صفة بتسألنى، أنا شخص مدنى، مش عسكرى، وليس من حقك أصلاً أن تسألنى عن أى شئ. أنتم لغيتم الدستور، فهل لغيتوا القانون أيضاً؟ وماتنساش أن أنا محامى، وإ>ا كان هناك ما أسأل عنه، فالذى يسألنى هو النيابة، أو حتى البوليس، ولا إيه.. مش كده؟!!
 أحمر وجهه وأصفر، وقد لمحت طرف ابتسامة على وجه حسن المصيلحى، وكأن كلامى مس وتراً حساساً فى نفسه، أو هكذا خيل إلى.
 لم يرد على محيى الدين أبو العز، أنما فتح درج مكتبه وأخرج منه فرخاً من الورق، وعليه كتابة، قدمه إلى قائلاً:
 -إذا كنت عاوز تخرج أمضى على الوقة دى.
 -تناولت منه الورقة، وتصفحتها سريعاً، فوجدت عنوانها: تعهد بعدم الاشتغال بالسياسة. وازداد اندفاع الدم إلى رأسى، ولم أوقع الوقة، ولا رددتها إله، ولكنى وجدت نفسى أمزق الورقة أربعة أرباع، ثم بصقت عليها، ثم رميتها على الأرض، ثم دست عليها بحذائى.
 وأصابته لوثه فجعل يصرخ:
 -إيه ده، إيه ده، إيه ده؟
 ثم ضغط على الجرس، فدخل جندى، أشار إليه محيى قائلاً:
 -خدوه بره.
 وقبل أن أرج، شاهدت محيى الدين وهو يرفع سماعة التليفون، وعلمت فيما بعد أن هذا التليفون هو خط مباشر بينه وبين جمال عبد الناصر، أو زكريا محيى الدين. 
اخرجنى الجندى إلى الحجرة الخارجية، وجلست، وإذا ببابها يفتح ويدخل منه ضابطان، هما: عبد المجيد شديد، ومحمد السقا، وكنت أعرفهما من قبل، وأعرف أنهما من مساعدى يوسف صديق، وكانا قد حضرا إلى منزلى بالزاوية وتناولا الغداء به مع يوسف يوم 15 يناير المشهود. قالا لى:
 -إيه اللى أنت عملته ده؟ فأجبتهم:
 -ده أقل واجب.
 حاولا تهدئتى وإصلاح الموقف، ولكنه لم يكن قابلاً للإصلاح. ثم جاء الحرس، واصطحبنى فى طريق العودة إلى معتقل روض الفرج. وعلمت من الحرس، ثم من مأمور المعتقل، أن زملائى الثلاثة. قد أفرج عنهم فعلاً، إذ حضروا وأخذوا حقائبهم، وخرجوا إلى بيوتهم.
 وعرف المأمور، وعرف المعتقلون، أننى أعدت إلى المعتقل بعد أن رفضت التوقيع على التعهد بعد الاشتغال بالسياسة، وقد رويت لهم بإيجاز ما حدث. فتباينت ردود أفعالهم. وكان واضحاً أن بعضهم أقرنى، وربما حسدنى على ما فعلت، بينما بعضهم الآخر، اعتبرنى طائشاً أو مجنوناً، ولكننى كنت راضياً عن نفسى.
 فى الصباح الباكر، أيقظنى أحد المعتقلين، وأخبرنى أن هناك من يقف تحت نوافذ المعتقل ويطلبنى، وكانت تلك طريقة مألوفة فى معتقل روض الفرج، أن يحضر البعض فيقفوا فى الشارع وينادوا من يرديون التحدث معهم، فيطل الشخص المطلوب من النافذة ذات القضبان الحديدية، ويتم تبادل الحديث، نظرت من النافذة، فوجدت الأستاذ يوسف حلمى واقفاً فى الشارع، وعندما رآنى قال بحماسه المعتاد:
 محمود، أحييك وأهنك على ما فعلت، لقد كنت أفضلنا، وأصبح موقفك معروفاً ومحل تقدير الجميع. وسوف نوالى –بالتعاون مع الأستاذ النقيب- عمر عمر – المطابة بسرعة الإفراج عنك، وبالمناسبة، النقابة صرفت لكل منا –نحن الثلاثة- مبلغ خمسين جنيهاً إعانة بمناسبة اعتقالنا والإفراج عنا. وقررت صرف نفس المبلغ إليك فلمن تريد أن يسلموا المبلغ؟
 قلت له:
 -أشكرك أولاً على هذه الزيارة الجميلة، وعلى كل ما قلت، وأرجو أن يسلم المبلغ إلى زوجتى سهير. ولك وللنقيب ألف شكر.
 وكنت أعرف أن نقيب المحامين، الأستاذ عمر عمر –الوفدى- هو زميل وصديق حميم ليوسف حلمى، وشريكه فى مكتب المحاماه الكائن بشارع سليمان باشا. وأدركت وقتها، أن النقابة قد تحركت للمطالبة بالإفراج عن المحامين المعتقلين، وغالباً ما كان هذا أحد الأسباب التى أدت إلى قرار ترحيلنا من الطور، ثم الإفراج عنا.
 انصرف يوسف حلمى وقتها، وقد شعرت نحو  بالامتنان والحب العميق. وفى مساء نفس اليوم، استدعيت إلى مكتب مأمور المعتقل، وذهبت فوجدت هناك يوسف صديق، وسهير، وشقيقتى علية. وسلمت عليهم، وترك لنا المأمور الغرفة، وخرج إلى الشرفة. وكان لقاء حاراً وجميلاً بيننا، وعلمت أن يوسف قد أحيط علماً بما جرى لى بالأمس، وأنه كان راضياً عن موقفى، وكذلك شقيقتى علية، أما سهير فقد بدت فى عينيها نظرة حزن، تألمت لها كثيراً. وأخبرت سهير بأمر النقود التى قررتها لى النقابة، وطلبت منها أن تتوجه إلى مكتب النقيب فى اليوم التالى لتسلمها، وكانوا قد أحضروا لى هدية من التفاح، تسلمتها، وشكرتهم، انصرفوا آسفين على بقائى بالمعتقل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق