ذكريات شاعر مناضل: 40- عام شديد الصعوبة

40- عام شديد الصعوبة


كان عام 1948 عاماً شديد الصعوبة بالنسبة لى. بالنسبة للكلية كنت فى السنة الثالثة وكانت ظروف الدراسة -غير المنتظمة بسبب كثرة الإضرابات والمظاهرات وكثرة انشغالى بالنشاط التنظيمى، تحولان دون إيلاء الدراسة ما تستوجبه من اهتمام. وجاءت ظروفى المالية المتدهورة فأضافت سبباً ثقيلاً إلى الأسباب السابقة، إذ كانت نقودى قد نفدت أو كادت. وكنت عند بدء التحاقى بالجامعة قد بعت الأفدنة الثلاثة التى ورثتها عن والدى، ورصدت ثمنها للإنفاق منه على تعليمى ومعيشتى، وكنت قد أودعتها مع الشيخ أحمد زوج شقيقتى لأسحب منها حسب احتياجاتى، ولكن ارتفاع تكاليف المعيشة جعلنى أتوسع -نوعاً ما فى السحب والإنفاق، وكان الشيخ أحمد يحذرنى من ذلك، ومن قرب نفاذ النقود قبل أن أتخرج وأن أصل إلى بر الأمان، وكان هذا اليوم يقترب سريعاً وأنا لا أستطيع أن أعمل إزاءه شيئاً. كنت آمل أن أجد عملاً ملائماً استعين به على الحياة وإكمال دراستى، وحاولت العثور على هذا العمل كثيراً دون جدوى، وأخيراً، وبمساعدة ابن خالتى بهجت عثمان، الموظف بوزارة المعارف، وبعد جهد جهيد وصعوبات كثيرة، التحقت بالعمل موظفاً كتابياً بمنطقة القاهرة التعليمية بالعباسية، بالدرجة الثامنة، التى كان مرتبها تسعة جنيهات شهرياً، ولكن فى الشهور الثلاثة الأولى -فترة الاختبار- كان المرتب سبعة جنيهات ونصف. وكان مقر العمل هو مبنى المنطقة الكائن بالعباسية الشرقية، ومعنى هذا أن على أن أكب مواصلتين -بالترام- من باب اللوق إلى العتبة (ترام رقم 15)، ثم من العتبة إلى العباسية (ترام رقم 33)، أى أربعة مواصلات فى الذهاب والإياب. وقد تسلمت العمل فى أول ديسمبر سنة 1947، وكان عملى فى قسم الأرشيف بالمنطقة، وهو فى بدرون المبنى الذى يقع فيه. كانت تلك هى أتعس أيام حياتى، (حتى ذلك الحين). كان على أن أصل إلى مقر العمل قبل الساعة الثامنة صباحاً، لأوقع فى كشوف الحضور، وأدخل إلى مقر عملى بالأرشيف، لأبقى فيه إلى الساعة الثانية بعد الظهر، وقد أتأخر عن ذلك أحياناً، ثم أنصرف بعد أن أوقع على كشف الانصراف. كنت أنزل من مسكنى قبل السابعة، وأعود إليه بعد الخامسة فى أغلب الأيام. أما العمل نفسه فكان كثيراً جداً، وهو استلام الخطابات والرسائل الصادرة من أقسام المنطقة وإداراتها، ومراجعتها على دفاتر صادر تلك الجهات، ثم إثباتها فى دفتر صادر المنطقة، الذى كان فى عهدتى، وكان صادر الإدارات والأقسام لا يأتى دفعة واحدة، بل يظل يأتى على دفعات طول اليوم بحيث أظل أستلم وأراجع وأسجل فى دفتر صادر المنطقة وأسلمه إلى فراش البوسته بعد أن أجعله يوقع على الدفتر باستلام كل مكاتبة، وكانت هذه العمليات تتوالى وتتكرر إلى ما بعد موعد الانصراف الرسمى، بحيث كنت أظل منكفئاً على مكتبى لا أرفع رأسى عنه حتى أفرغ من كل ذلك، بعد انتهاء موعد العمل بوقت قد يطول أو يقصر.
وعلمت بعد ذلك أن وظيفة كاتب أرشيف الصادر، هى أشق الوظائف فى عمل الأرشيف فى أى مكان، وأنهم يختارون لها أحدث موظف، وأكثرهم شباباً حتى يستطيع أن ينهض بأعبائها، أما باقى الموظفين فى الأرشيف، وكلهم أكبر منى سناً، فكانت أعباء العمل عندهم أكثر معقولية وإنسانية. وكان رئيس الأرشيف شخصية غريبة تستحق الذكر. كان رجلاً قصيراً قريباً من البدانة، أبيض الوجه أشيب الشعر، يميل وجهه إلى الحرة، وكان قليل الكلام إلى درجة الندرة، لا يعرف وجهه الابتسام، ولا يتكلم إلا بالإشارة، رغم أنه ليس اخرساً، وكان هو أول من يحضر إلى العمل، وآخر من ينصرف منه، وكان يحضر معه حقيبة "صندوق"، يضعها على المكتب مفتوحة، ويختبئ وراء ضلفتها المرفوعة معظم الوقت، ولكنه من حين إلى حين، يبرز من خلف ضلفتها المفتوحة بطريقة مفاجئة ليصوب نظرة إلى أحد الموظفين، ليعرف ما إذا كان يؤدى عمله أم لا. وهكذا يفعل مع الجميع، ولاشك أنه كان يراقبنى أنا بنفس الطريقة، غير أننى لم أكن ألاحظ ذلك، لانشغالى الدائم بأكداس  الأوراق التى كانت تنهال على. وكان فتحى أفندى -رئيس الأرشيف لا يكف عن المضغ، ففى حقيبته تلك عدد لا ينفذ من السندوتشات التى يحضرها من المنزل، ليتسلى طول الوقت عليها. وعلمت فيما علمت، فيما بعد، أن هذا الموظف الكحيان مان من كبار الأغنياء، وأنه يمتلك عدة عمارات كبيرة فى حى العباسية، ولكنه كان يتمسك بهذه الوظيفة الغريبة، لأنه كان يحبها.
كان عملى هذا عملاً سخيفاً ومملاً، ولا يتفق بأى حال مع طبيعتى التى تكره القيود وتحب الانطلاق، وكان لا يتفق بصفة خاصة مع طبيعة شاعر، ولكنى تحملته مرغماً لا بطلاً، فقد كانت الجنيهات السبعة والنصف -آخر الشهر- هى كل ما اعتمد عليه فى الحياة. وكانت بالطبع لا تفى باحتياجاتى الضرورية، حتى أننى كنت أعيش أياماً متوالية على الخبز الحاف، أو على العيش والملح، أو العيش والشاى. واضطررت أكثر من مرة إلى بيع بعض ملابسى فى سوق الكانتو بالعتبة لأستطيع تدبير أمرى بثمنها الزهيد. وكنت أحياناً أمشى على قدمى، المشوار من باب اللوق إلى العتبة، لأوفر أجرة التارم -العشرة مليمات. وعرفت فى تلك الأيام، الطريق إلى "المسمط"، لأتناول فيه من حين لآخر، وجبة شهية، ولو إلى حد ما.
واستمرت محنتى فى الأرشيف عدة شهور، إلى أن جاءنى الفرج على يد زميل من موظفى المنطقة، هو أحمد فؤاد فارس، الذى كنت قد تعرفت به هناك، وكان يعمل فى إدارة المستخدمين، وكان طالباً فى المعهد العالى للخدمة الاجتماعية، وحين عرف أننى طالب بكلية الحقوق، زكانى لدى رئيس المستخدمين، لأعمل معهم فى القسم، حيث كان العمل يحتاج إلى شخص مثلى، لدية خلفية قانونية، لصياغة بعض الأوراق ذات الصبغة القانونية.
وذات يوم صدر أمر النقل، وكنت كمن أنقذته يد العناية الإلهية من الغرق، أما الأستاذ فتحى، رئيس الأرشيف، فقد استقبل الأمر، بشئ من الدهشة، ولكن لا بسرور، ولا بغضب.
تسلمت عملى مع فارس فى قسم التعيينات، بإدارة المستخدمين، فى نفس الغرفة التى يجلس فيها فارس، مع رئيس القسم -الأستاذ حسن صبرى، وشعرت أننى أخرج من الظلمات إلى النور.
وكان مرتبى قد أصبح تسعة جنيات شهرياً، فتحسنت حالتى المادية قليلاً، وفى نفس الوقت حدث لى ما ليس بالحسبان. ففى ذات مساء، كنت فى مسكنى استريح من وعثاء العمل، والمشوار، إذ وجدت طرقاً على الباب، وفوجئت بأن الطارق، هو المقدم يوسف صديق، ابن عمتى سكينة، وزوج شقيقتى "عليه"، ولم أكن قد رأيته منذ وقت طويل. أخبرنى بأنه قد نقل من منقباد إلى القاهرة مؤخراً، وأنه سوف يسافر بعد أيام مع فرقته إلى فلسطين، حيث من المقرر أن يذهب الجيش المصرى إلى هناك للحرب ضد العصابات الصهيونية، وأنه قد استطاع الحصول على مسكن فى قشلاقات الجيش بالعباسية، حيث سيترك فيه زوجته "عليه"، وابنها حسين، ويسافر إلى فلسطين، وأنه لذلك يحتاجنى لكى أذهب معه الآن، إلى ذلك المنزل، لأقيم فيه مع شقيقتى وابنها، طيلة مدة بقائه فى الحرب ولم يكن أمامى إلا الموافقة، فقد كنت أحب يوسف، ولا أعصى له أمراً. كما أننى كنت أحب شقيقتى عليه، ولا أملك أن أتخلف عن نجدتها فى مثل هذا الظرف.
وهكذا، حملت حقيبة ملابسى، ونزلت مع يوسف، وتركت مسكنى الذى لم أرجع إليه بعد ذلك أبداً.
كان ذلك فى أوائل شهر مايو سنة 1948، وكان من مزايا ذلك السكن فى قشلاق العباسية، أنه قريب من مقر عملى فى العباسية الشرقية، بحيث أستطيع الذهاب إلى عملى والعودة منه، سيراً على الأقدام. وكان المسكن عبارة عن فيلا -تقريبا- وأقول "تقريبا" لأنه لم يكن فيلا حقيقية، وإنما كان بناء مكوناً من غرفتين كبيرتين جداً، وغرفة صغيرة جداً، وفراندة طويلة جداً، ومطبخ وحمام. وكانت له حديقة مهملة -جداً، كما أنه كن يطل على ساحة واسعة جداً، كان أصلها ملعب كرة، ثم أصبحت ميداناً لتدريب الجنود. وعرفت أن هذا المسكن كان فى الأصل ملحقاً بالملعب، ومعداً لتغيير ملابس اللاعبين، منذ أيام الجيش الإنجليزى. وكانت عليه ق وضعت فرشها فى أحد هذين العنبرين، وكان الآخر خالياً إلا من دكة طويلة جداً -وضعت لى فوقها مرتبة، وكان للعنبر حمام، فصار ذلك مسكنى.
بعد أيام قليلة، ذهبت أنا وشقيقتى عليه، وابنها الصغير حسين، مع يوسف إلى محطة مصر، لتوديع يوسف، الذى استقل القطار الحربى، متجهاً إلى فلسطين. ثم عدنا -إلى القشلاقات، حيث بدأت مرحلة جديدة من حياتى، لم أكن انتظرها منذ أيام قلائل.
فى اثناء ذلك كان وضع الحركة الديموقراطية يزاد سوءاً، إذ بلغت أزمة الانقسامات مداها، ولم يعد هناك نشاط حقيقى، سوى المناقشات والمهاترات البائسة بين مختلف التكتلات والانقسامات، وكانت الاتصالات الجانبية هى السمة الغالبة على النشاط، والقواعد التنظيمية قد ديست بالأقدام وأصبحت نسياً منسياً.
ثم ما لثبت الحرب أن بدأت، وأعلنت الأحكام العرفية، وفتحت السجون والمعتقلات أبوابها للشيوعيين، وخاصة أعضاء حدتو، الذين كانوا قد أعلنوا موافقتهم على مشروع تقسيم فلسطين، ومن ثم لم يكونوا مؤيدين للحرب. وهكذا تمزقت عرى التنظيم، وتحولت بقاياه إلى جزر صغيرة منعزلة، لا يربط بينها رابط.
وقد تأثرت حياتى الشخصية بكل هذه الظروف، فكان لابد أن أتعثر فى دراستى فى تلك السنة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق