ذكريات شاعر مناضل: 18- عاش الجهاد الوطنى

18- عاش الجهاد الوطنى


أمضيت العطلة الصيفية فى "الزاوية" وعدت إلى حلوان لأبدأ سنة دراسية جديدة. وكنت قد تلقيت من المدرسة -عن طريق المراسل- خطاباً يخطرنى بأنه قد تقرر أن يضاف إلى مواد الدراسة، برنامج للتدريب العسكرى، وبضرورة الحصول على ملابس للتدريب العسكرى -حددها الخطاب- وذكر المحلات التى يمكن شراء هذه الملابس منها، وكان بينها محل الفرنوانى، فاشتريتها من ضمن ما اشتريته من الملابس والمستلزمات الأخرى، وذلك قبل توجهى إلى حلوان لدئ الدراسة.
كنا قد أمضينا الأسابيع المتبقية من العام الدراسى الماضى، فى حالة حزن واكتئاب، بعد اختفاء ناظرنا المحبوب، الدكتور أحمد البدرى، وكانت الوزارة قد أرسلت ناظراً آخر، لم تتح لنا الفرصة للتعرف عليه جيداً، وسرعان ما أنتهى العام الدراسى، وجاء امتحان نهاية العام. فأديناه، وظهرت نتيجة الامتحان، وكنت من الناجحين، ونقلت إلى السنة الثالثة.
وعندما عدت لاستئناف الدراسة، كانت أشياء كثيرة قد تغيرت فى المدرسة، وفى حلوان، وفى مصر، وفى العالم كله، كنا فى أول أكتوبر سنة 1939، وكانت وزارة على ماهر. التى أعقبت وزارة محمد محمود قد استقالت فى يونيه من نفس العام، وأعقبتها وزارة جديدة هى وزارة حسن باشا صبرى. وكانت بريطانيا وفرنسا قد أعلنت الحرب على المحور فى 1939/ 9/3 بعد أن كانت ألمانيا قد اجتاحت كلاً من النمسا وتشيكوسلوفاكيا وألبانيا. ورغم ضغوط بريطانيا على مصر لكى تدخل الحرب إلى جانبها، إلا أن وزارة على ماهر أعلنت فى 1939/9/4 الحيا وفقاً لسياسة تجنيب مصر ويلات الحرب التى أعلنها، ورغم ذلك فقد كانت نذر الحرب وظلالها القاتمة تخيم على كل نواحى الحياة ومظاهراها، فى مصر، بل وفى كل أنحاء العالم.
فى حلوان بدأ اللون الأزرق يصبغ كل النوافذ التى طليت بهذا اللون استعداداً لوقوع الغارات الجوية رغم إعلان مصر الحياد، كما بدأ اللون الكاكى يظهر بكثرة فى شوارع المدينة، بعد أن كثر وجود الجنود البريطانيين فى المدينة، وتحويل الفندق الكبير المواجه للكازينو "جراند أوتيل" إلى مستشفى عسكرى بريطانى، وتحويل مساحة واسعة من الأراضى الزراعية فى  "عزبة الوالدة" المجاورة للمدينة إلى مطار حربى بريطانى. ومع انتشار الجنود البريطانيين -من مختلف الجنسيات- أخذت بعض المحلات التجارية تتحول إلى بازارات لبيع المنتجات السياحية التى يشتريها الجنود كهدايا وتذكارات. وبدأت تظهر فى الشوارع لافتات لإرشاد هؤلاء الجنود إلى موقع المعسكرات والنوادى، والمستشفى العسكرى، مكتوبة باللغة الانجليزية وعليها أرقام ورموز للوحدات العسكرية المختلفة.
أما فى مدرسة حلوان الثانوية للبنين، فقد كان زجاج النوافذ قد طلى باللون الأزرق أيضاً وتم تحويل البدرون الكائن أسفل ملحق القسم الداخلى بأكمله إلى مخبأ لاستعماله عند وقوع الغارات الجوية، وتم تزويده بكثير من الدكك الخشبية، ومضخات الحريق، والجرادل، استعداداً للغارات الجوية المتوقعة. وفى الأيام  الأولى لبدء الدراسة، وزعت علينا علب كارتونية تحتوى على كمامات من المطاط لارتدائها عند وقوع الغارات، اتقاء للغازات السامة. التى يتوقع إلقاؤها فيها، ومع كل كمامة ورقة إرشادات لكيفية استعمالها.
 وكان قد ألحق بالمدرسة أحد الصولات من الجيش، ومعه جاويش، لإعطائنا دروساً فى التدريب العسكرى، بما فى ذلك تعليمنا كيفية حفر الخنادق، حيث قمنا بحفر العديد منها فى الفناء الواقع بين الفصول. وكانت حصص التدريب العسكرى تجرى فى الصباح الباكر، قبل الحصص العادية. وكنا نرتدى أثناءها زى التدريب، وبالطبع نستمر نرتدية بقية اليوم، ولذلك غلب اللون الكاكى على مظهر المدرسة.
 كنا قد بدأنا نتعرف على ناظرنا الجديد، الأستاذ حسنين رأفت، ووجدناه مختلفاً كل الأختلاف عن الناظر السابق، الدكتور أحمد الدبرى. كان قصير القامة، سمين القوام، أحمر الوجه، شديد الاهتمام بملبسة وبرباط عنقة بصفة خاصة. وكان عصبياً سريع الغضب، حاد المزاج، فكنا نراه يفقد أعصابه عندما يقع من أى طالب أى خروج على النظام أو مخالفة للأوامر، عند ذلك يزداد وجهه احمراراً، ويرتفع صوته وهو ينهال على ذلك الطالب بالتوبيخ والتقريع، والتهديد بالفصل، وخاصة إذا كان هذا من طلبة القسم الداخلى. وكان يرى أن هؤلاء خصوصاً من دخلوا المدرسة بالمجان، أنما جاءوا إلى المدرسة ليناموا ويأكلوا ويشربوا مجاناً، وكأنهم يعيشون فى تكية أو لوكاندة، ولا يدفعون فيها شيئاً. ولما كان معظم الطلبة بالداخلية، هم من النوع المجانى، وهم ضيوف من مختلف الأقطار العربية، أو من الجهات النائية داخل القطر، فقد كانت هناك شبه خصومة، وشبه توتر بين حسنين رأفت، وبين طلاب القسم الداخلى. كان إذا بدر من أى طالب من هؤلاء شئ لا يعجبه يسأله: أنت مجانى؟ وعندما يجيبه هذا الطالب بالإيجاب، يصيح فيه: طب يا أخى، أتكسف على دمك، هى المدرسة دى أيه، تكية ولا لوكاندة؟، هى لوكاندة، هى لوكاندة؟. وكثيراً ما كانت هذه المشادة تنتهى بفصل الطالب أسبوعاً، يتشرد فيه أو يجد له مأوى آخر، أو لحين يحضر ولى أمره، الذى كثيراً ما يكون سودانياً فى السودان، أو عدنياً من اليمن، أو من أهل الواحات الخارجة أو الداخلة .. إلخ.
وفى مقابل هذا الناظر، كان يوجد بعض الأساتذه الطيبين، الذين يتدخلون أحياناً لتهدئة الناظر، ولإعفاء الطالب من هذه العقوبات المشددة. كذلك كان هناك عدد من الطلبة البارزين، ممن يعدون زعماء لهم، سواء كانوا من القسم الخارجى، أو من القسم الداخلى. من القسم الخارجى كان هناك: وحيد الدالى، وأحمد عزام، ومحفوظ عزام، وغيرهم، ومن القسم الداخلى كان هناك: أحمد السيد حمد، وحسين صالح خليفة، وغيرهم، وكان الناظر يخاف منهم ويكرهمم بصفة خاصة.
 وفى يوم 13 نوفمبر 1939، وعلى أثر انتهاء طابور الصباح، هتف بعض الطلبة بالهتاف المعروف: يحيا الإضراب، عاشت مصر حرة، عاش الجهاد الوطنى. وكان هذا اليوم هو عيد الجهاد الوطنى. ورددت أغلبية الطلبة الهتاف، وتحركوا نحو باب المدرسة، وعندما أبدى الناظر استياءه واجهوه بالمطلب المعروف: نريد العلم، نريد العلم، وزاد وجه الناظر إحمراراً ثم صاح بصوت يرتجف من الغضب، مافيش علم، مافيش علم. وإذا بوحيد الدالى، وأحمد السيد حمد، يتصدون له فى حركة تهديدية صائحين: نريد العلم نريد العلم، وتصدى الأستاذ الشيمى، مدرس أول العلوم، وكان ذا شخصية بارزة، تصدى لحل الموقف، فقال للناظر: سعادتك علشان خاطرى، إديهم العلم. وقال الناظر فى صوت مضغضغ: أهو هناك، يروحوا ياخدوه، ويغوروا. وتوجه زعماء المظاهرة إلى مكتب الناظر، ثم عادوا يحملون العلم. وساروا به فى الشارع، وتدفقت خلفهم جموع الطلاب وهى تهتف بحياة مصر، وحياة الجهاد الوطنى. واندفعوا فى طريقهم إلى ضريح الزعيم سعد زغلول، وإلى بيت الأمة، لينضموا إلى الجموع الحاشدة التى تجمعت هناك.
 فيما عدا ذلك، سارت الدراسة فى مجراها المعتاد، وكذلك سارت الحياة فى القسم الداخلى.
غير أن تطوراً قد حدث فى حياة المدينة ذاتها فى هذه الفترة، إذ فى هذه الأثناء افتتحت فى مبنى الكازينو بوسط المدينة دار للسينما، سميت "سينما ومسرح كازينو حلوان"، وقد كان سرورنا بذلك كبيراً ودأبنا على أن نذهب إلى تلك الدار أيام الخميس من كل أسبوع، وقد شهدت فيها عدداً من الأفلام، من تلك الأفلام: فيلم عربى أسمه: شهداء الغرام، وهو فيلم غنائى مأخوذ عن قصة روميو وجولييت وكان من بطولة إبراهيم حمودة، وليلى مراد، وعدداً من الأفلام الأمريكية منها فيلمان من بطولة جارى كوبر هما: رجل السهول، وهو من أشهر أفلام رعاة البقر، وفيلم اسمه: مستر ديدز يذهب إلى المدينة، وهو من أجمل الأفلام التى أنتجتها السينما الأمريكية، ومنها الفيلم الشهير: الأزمة الحديثة، بطولة شارلى شابلن.
 وفى تلك الفترة وقعت أحداث سياسية متتالية وهامة، كان على ماهر باشا قد استقال فى يونية سنة 1940، وجاءت استقالته بسبب الضغوط الإنجليزية عليه -لعدة أسباب أهمها الاشتباه فى تعاطفه مع المحور. وكلف حسن صبرى باشا، المتعاطف مع بريطانيا، بتشكيل الوزارة، فشكلها من المستقلين، وذلك على أثر استقالة على ماهر. ولكن حسن صبرى لم يهنأ بالحكم إلا أياماً معدودة، إذ حالت الأقدار دون ذلك، بسبب وفاته المفاجئة والغريبة يوم 14 نوفمبر سنة 1940، أثناء إلقائه لخطاب العرش فى البرلمان، فى حضور الملك فاروق، وذلك نتيجة لأزمة قلبية شديدة فاجأته، سقط على أثرها صريعاً على الأرض، وفاضت روحه على التو، وقام رئيس مجلس الشيوخ بعدها بإكمال إلقاء الخطاب. وكنا، أنا وجمع غفير من طلبة المدرسة من شهود هذا الحادث الغريب، إذ كنا وقتها متحلقين حول الراديو فى بهو المدرسة لسماع خطبة العرش، وعلمنا بتفاصيل الحادث مما قاله المذيع وقتها فى تقديمه لإذاعة الخطاب، وتعليقه عليه.
 وبعد وفاة حسن صبرى باشا على هذا النحو الغريب، كلف حسين سرى باشا بتأليف الوزارة، فألفها وزارة حيادية.
وكان العالم كله يكتوى بنيران الحرب، وكانت أخطارها تدق على أبواب مصر بقوة. ثم حدث لى بعد ذلك حادث مؤسف، إذ قبل نهاية العالم الدراسى بشهرين أصابتنى نزله برد، ما لبثت أن تطورت إلى نزله شعبية نقلت على أثرها إلى غرفة العزل الصحى بالقسم الداخلى بالمدرسة، وجاء طبيب المدرسة لفحصى، فنصح بإخراجى إلى مقر أسرتى للعلاج بمعرفتهم خارج المدرسة. وتم الاتصال بولى أمرى "الشيخ أحمد"، وحضرت شقيقتى "بهيجة"، ومعها إحدى قريباتى إلى المدرسة، ونقلتانى إلى منزلها فى بولاق أبو العلا. وهناك أحضرتا طبيباً لفحصى، كان أسمه: الدكتور "يعقوب" وكان رجلاً كهلاً ذا خبرة وعلم، قام بفحصى، ووصف لى علاجاً مكثفاً كان من ضمنه وضع كمادات وطاقية ثلج على رأسى، ومنعى من تناول أى طعام إلا السوائل، وذلك نظراً لارتفاع درجة حرارتى بصورة تنذر بالخطر، إذ تبين أن حالتى قد تطورت إلى التهاب رئوى. وتفاقمت الحالة بعد أن بدأت أنزف من أنفى بغزارة.
 واظب الدكتور يعقوب على عيادتى يومياً، وعلى متابعة علاجى وذلك على مدى شهر كامل، حتى بدأت أشفى من المرض، وإذ علم أن امتحاناتى أصبحت على الأبواب، أعلن أن حالتى لا تسمح لى ببذل المجهود اللازم للمذاكرة، ثم لأداء الامتحان، وقرر ضرورة تخلفى عن أداء الامتحان، حرصاً على حياتى. وقد كتب الدكتور يعقوب لى شهادة مرضية لتقديمها إلى المدرسة تحمل هذا الاعتذار عن حضور الامتحان بسبب المرض، وقام ولى أمرى بتقديم تلك الشهادة. وهكذا ضاعت على السنة الدراسية، وتقرر أن أعيد الدراسة فى السنة الثالثة الثانوية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق