ذكريات شاعر مناضل: 49- ذهب مع الريح

49- ذهب مع الريح


بدأت أمور حياتى تستقر وتنتظم. فى الصباح أركب فرسى من المنزل "السراية" فى الزاوية، إلى مكتبى بالواسطى، وكانت المسافة لا تزيد عن كيلو مترين، تقطعهما الفرس، وهى تسير سيرها الوئيد فى عشر دقائق، سواء من طريق خلوى خارج المدينة، أو حتى من وسط البندر، حيث السوق والزحام. وكان يتبعنى تابعى "أحمد عبد الرحيم"، كما كان يسير معه خلفى -"زارع" سائس الفرس. وفى المكتب أجد راغب أفندى، وسيدهم أفندى، فى انتظارى، ومعهم الفراش "عبده"، كما كنت أجد بعض زبائن المكتب، القدامى والجدد، ينتظرون مجيئى، ليعرضوا على مشكلاتهم، ولأقرر بشأنها ما أراه. وفى أيام الجلسات الأسبوعية بالمحكمة، كنت أنتقل إليها، وكانت فى مواجهة المكتب لا يفصلها عنه سوى شارع صغير، لأنتظر مع باقى المحامين فى أماكنتا بقاعة الجلسة، أو إلى غرفة القاضى، حيث ينظر القضاة جلساتهم فى غرفة المداولة، التى هى مكتبهم، وهذا هو الوضع المعتاد فى أيام العطلة السنوية. ولم تكن الجلسة تستغرق وقتاً طويلاً، ففى معظم الأحيان، كانت جلسة إجراءات وتأجيلات ليس إلا، أما حيث تكون هناك جلسة معارضة فى أمر حبس لبعض المتهمين، فكان الأمر يستغرق بعض الوقت. ومنذ البداية، كنت أحضر عدداً من القضايا فى كل جلسة، وكان أدائى، ينال إعجاب القاضى، رغم حداثة عهدى بالمهنة.
كذلك كنت أحياناً أصعد إلى مبنى النيابة، فوق مقر المحكمة، لحضور التحقيقات مع المتهمين فى بعض القضايا، مع وكيل النيابة، الزميل والصديق محمد بكر شافع.
وهكذا كانت تجرى الأمور، حتى يحين موعد عودتى إلى منزلى بالزاوية، وهناك -يعد لى أحمد عبد الرحيم غدائى، وأنال قسطاً من الراحية، ثم انهض لاستقبل ضيوفى من الأهل والجيران، وكثيراً ما كنت أخرج لأداء بعض الزيارات والواجبات بالقرية، أو لأجلس مع الأقارب فى الجرن أو فى حقول القطن التى بدأت زهورها وثمارها تتفتح، لنتحدث فى مختلف الشئون، وخاصة فى شأن السياسة، وحكاية طرد الملك، وأخبار محمد نجيب، وما أشبه.
مرة واحدة كل أسبوعين، كنت أخرج من المكتب بعد الظهر، لآخذ القطار من محطة الواسطى، إلى مدينة الفيوم، لألقتى هناك بالزميل محمود مرسى خلف، والمجموعة الحزبية هناك، التى أصبحت مسئولاً عنها، ولأعقد معهم اجتماعنا الحزبى، ثم أعود بعده إلى الواسطى، ثم إلى الزاوية، مع حلول المساء.
وكان المكتب قد بدأ يدر على إيراداً لا بأس به، خصوصاً مع ازدياد قضايا الجنح، والقضايا الجنائية الأخرى: قضايا المخدرات، والتموين، ورى البرسيم، ثم بعض جنايات إحراز السلاح، والقتل والشروع فيه. وكان هذا الدخل يكفى لسداد نفقات المكتب، وأجور العاملين به، ويوفر لى إيراداً، يفوق بكثير، المرتب الذى كنت أحصل عليه من عملى الوظيفى السابق.
ودأبت على أن أنزل إلى القاهرة بعد ظهر الأربعاء من كل أسبوع. لأقضى بها يومى الخميس والجمعة، كعطلة أسبوعية، أعود بعدها فى مساء الجمعة إلى الزاوية، والواسطى.
فى القاهرة كنت أتوجه إلى منزل شقيقتى "عليه" بشبرا، للقائها، ولقاء زوجها "يوسف صديق"، إذا ساعدنى الحظ ووجدته هناك، أو إذا حضر بعد ذلك أثناء وجودى، أى إذا تمكن من الحضور، فقد كان دائم الانشغال بمهام عمله الجديد، كعضو فى مجلس القيادة، وكقائد للواء السابع مشاة، الكائن مقره بثكنات العباسية. فإذا لقيته، كان الحديث يدور بيننا عن الأوضاع الجارية بعد نجاح الثورة، وما يستجد من القضايا والمشكلات. وبدأت أدرك من كلامه، أن الأمور لم تعد تسير بالسهولة المتصورة. فقد بدأت الكثير من الأشواك تنبت فى أرض الثورة. أشواك فى العلاقة بين مجلس الثورة وبين حكومة على ماهر، وأشواك فى العلاقة بين المجلس وبين محمد نجيب، ثم أشواك أخرى فى العلاقات الداخلية بين أعضاء المجلس بعضهم البعض. وهى حالة بدأت هينه فى حينها، ولكنها كانت تنذر بالتصاعد مع الوقت.
وكنت ألاحظ تزايد عدد الزوار الذين يذهبون إلى منزل يوسف يوماً بعد يوم، وتردد عدد من الصحفيين، كان أبرزهم "أمين عبد المؤمن" -الصحفى بجريدة المصرى- والذى كان زعيماً لطلبة الكتلة الوفدية فى الجامعة من قبل. وفهمت أنهم كانوا يحضرون لالتقاط الأخبار وتسقطها، عن أحوال مجلس الثورة. ولكن -حتى الآن، لم يكن هنام ما ينذر بالخطر.
على أنه كان يسعدنى أن ألتقى هناك بسهير، التى كانت تحضر بصورة متزايدة، لتلقى والدها، وأيضاً لتلقانى، بصفتى خطيبها. وانتظم حضورها إلى منزل والدها بشبرا، عندما عرفت بأننى أحضر إليه بانتظام فى آخر كل أسبوع.
كان قد مضى حوالى عامين على خطوبتنا، ولكن سفر يوسف إلى السودان وبقائه بالخرطوم، ثم بالعريش، طيلة هذه المدة، قد أدى إلى قله فرص لقائنا -أنا وهى- عن ذى قبل. كنت أذهب لزيارتها بمنزل والدتها بحلمية الزيتون مرة كل شهر، لأسلمها خطاباً من والدها لها وللسيدة والدتها، ومعه النقود التى كان يرسلها إليهما، وهو ترتيب تعمد يوسف -أن يرتبه، كطريقة لاستمرار صلتى بها أثناء غيابه، واستمر هذا الترتيب سارياً حتى عاد يوسف قبل الثورة بوقت قصير، ولكن لقائنا الشهرى -أنا وسهير- لم يكن كافياً لتعزيز علاقتنا وإشباع مشاعرنا. وها هى الظروف قد عادت لتتيح لنا مزيداً من الفرص لزيادة أسباب الود والتلاقى بيننا.
لذلك، فإننى بإدرت فى أول فرصة، فدعوتها إلى الخروج معى لقضاء سهرة ومشاهدة فيلم شهير فى سينما مترو، هو فيلم: ذهب مع الريح.
سرنى أن سهير وافقت فوراً على الخروج معى، دون أن تنتظر عودة والدها لتستأذنه فى ذلك، وسرنى أيضاً أنها كانت قد أحضرت معها ملابس ملائمة لتلك السهرة، وكأنها كانت تتوقعها وتستعد لها. أحضرت معها فستان تواليت، هو فستان "الفا" الأخضر فى الأزرق، الذى كنت قد أهديته لها فى عيد ميلادها السابق، كما أحضرت معها حذاء من الشبيكة الذهبية اللون، وشالاً من الحرير النبيتى، وحقيبة سهرة صغيرة من الخرز السوداء اللون. وما هى إلا دقائق دخلت فيها إلى حجرتها، وعادت وهى ترتدى هذه الملابس الأنيقة، وقد أخذت زينتها وتعطرت، ووضعت على شفتيها روجاً أحمر جميلاً. وكانت هذه أول مرة أشاهدها وهى تضع الروج. وتذكرت أنها قد أصبحت شابة فى عز شبابها، ولم تعد هى الفتاة الصغيرة التى تنادينى بأبيه محمود، وأنها أصبحت خطيبتى فعلاً. وأننى لم أعد بالنسبة لها، سوى "محمود" فقط. وبدت لى، وهى فى تلك الملابس الجميلة، والزينة الفاتنة، كغزال رشيق فاتن، بدت لى، عروسة حقاً. ولا عجب فى تلك، فقد كانت فى ذلك الوقت قد قاربت السابعة عشرة من عمرها، وغدت طالبة فى السنة الثالثة الثانوية، بمدرسة الأميرة فريال الثانوية للبنات بمصر الجديدة.
أنزلنا التاكسى فى شارع فؤاد، على ناصية شارع سليمان باشا، ومشينا قليلاً إلى سينما مترو، ووجدنا أمامها زحاماً، فقد كان فيلم ذهب مع الريج من أجمل وأشهر الأفلام التى عرفتها السينما العالمية حتى ذلك الحين، ولم يكن يعرض إلا فى هذه السينما، ومرة واحدة فى السنة. واستطعنا الحصول على تذكرتين -فوتيل لوج- من السوق السوداء، ودخلت السينما، وسهير تتأبط ذراعى، شأن العشاق والخطاب، ومافيش حد أحسن من حد.
وما أن جلسنا فى مقعدينا، حتى بدأ العرض، ميكى ماوس، الجريدة الناطقة، إشارة عن العرض القادم، ثم الفيلم. وكان الفيلم جميلاً جداً، ويستحق الضجة التى أثيرت حوله وما تزال. سكارليت أوهارا، أو فيفيان لى، الجميلة الساحرة، وريت بتلر، أوكلا رك جيبل، ساحر النساء، والآخرون. وكانت يدى تلتقى بيد سهير أثناء العرض، فتتماسك يدانا، ونحن تنذوق معاً حلاوة الحب، ونشوة الشباب.
 انتهى الفيلم، وخرجنا من السينما ونحن نكاد نطير من السعادة، وتوجهنا إلى محل "روى" المواجه للسينما، فجلسنا، وتناولنا عشاء خفيفاً من السندوتشات اللطيفة، ثم تناولنا كأسين من الأيس كريم. ولكننى بدلاً من العودة بسهير إلى منزل والدها، فضلت أن أكمل معها تلك السهرة الأولى لنا معاً، فاستوقفت عربة حنطور، وأمرت السائق أن يذهب بنا إلى شاطئ النيل فى طرف الجزيرة الجنوبى، وهناك انصرف الساشق، بينما جلست أنا وهى على سور الكورنيش، الذى يطل على مفترق فرعى النيل. وجلسنا هناك نستمتع بروعة المنظر، وكانت الليلة مقمرة، ونسيم الليل ساحر جذاب. وسرنى أن رأيت سهير تستمتع بالمشهد الرائع، وتعبر عن ذلك بكلماتها، وبلمساتها اللطيفة.
لعبت تلك الأمسية دورها الجميل، فى توثيق علاقتنا، وفى اختصار المسافات بيننا، فأصبحنا خطيبين حقاً وصدقاً.
وحين عدنا إلى المنزل، وجدنا يوسف قد وصل، وجلس يستريح من عناء يوم عمل طويل. شاهدنا، وعرف منا ما حدث لنا، فبدا عليه سرور بالغ، وجعل ينظر إلى سهير ويتأملها بإعجاب وهى فى ثيابها وزينتها، وعليها معالم السرور والإعجاب. ثم سمع منها وصفاً لتفاصيل سهرتنا، ولمس سرورها وسعادتها، فبدت عليه أمارات السرور والراحة.
ولم أنس حتى الآن تلك الأمسية، التى أعتبرها من أسعد أيام الحياة، ومن أطيب ما جادت علينا به المقادير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق